المسلّحون والسلاح في اليمن قصة تعايش تاريخي، لكن أسباب الصراع ليست كما يظن خبير أجنبي أنها مجرد صراع سياسي، وإن ظهر على السطح أنها حرب طائفية ـ آيديولوجية
تتشابك قواعد الاشتباك في اليمن مع مصالح قبلية وسياسية، يترابط فيها الاجتماعي مع الآيديولوجي، وتظهر بين العقد المصالح الاقليمية.
فالشيخ القبلي لا يقبل تسيّد ابن الأسرة الهاشمية عليه والعكس صحيح، وهذا هو سبب قيام ثورة 48 في اليمن، وسبب دعم القبائل لثورة على آل حميد الدين، في الستينات، وبعدها قيام حروب صعدة. برغم هذا يمكن أن تجد في مسرح القتال، مساحة لجلوس المتقاتلين كمتحاورين، بل واتفاقات يمكن أن تسري لوقت غير معلوم. غير أن تجدد الاشتباك مرة أُخرى لا يرتبط الاّ بالأهداف الخاصة للأطراف المحلية، لا برغبة الرعاة الإقليميين والدوليين.
وواضح أن مؤتمر الحوار في اليمن وضع جماعة الحوثي على أول سلّم في السياسة، بعدما كانت مجرد ميليشيا تقاتل في الجبال، وهي وجدتها فرصة لصقل خبرتها السياسية الحديثة، لكن حرب دماج أخرجت جماعة الحوثي من طاولة السياسة، وأعادتها مرة أخرى الى الجبال.
كان وجود جماعة الحوثي في مؤتمر الحوار الوطني مكسباً للرعاة الاقليميين، وهو أمر يعني أيضاً مكاسب سياسية لمبعوث الأمم المتحدة جمال بن عمر، الذي بذل جهداً في اقناع الجماعة بالدخول في الحوار. وبهذا يثبت نفسه في المجتمع الدولي، بصفته مندوباً معترفاً به في وصفات السلام لبلد لم يعرف السلام في تاريخه، وان مهمته باتت أنجح من مهمة الأخضر الابراهيمي في سوريا.
لكن المفاجأة أن مقاتلي دماج لم يكونوا في الدائرة السياسية التي رسمها بن عمر، ومن خلفه المجتمع الدولي.
فدماج هي بؤرة الصراع التي فجّرت مشكلة صعده منذ مطلع التسعينيات، حيث يوجد دار الحديث، وهو معهد فقهي لتدريس العلوم السلفية، في معقل المذهب الزيدي.
هذا الأمر المربك، هو الذي خلق مصطلح «التمرد الحوثي»، الذي لم يكن تمرّداً بقدر ما كان محاولة لاسترداد صعدة الزيدية، في وقت لم يعرف فيه اليمن المذهب السلفي الا مع بداية التسعينيات.
هنا، فتّش عن السعودية، وخاصة حين تنظر الى الخريطة، وتجد أن صعدة متاخمة لحدود المملكة، التي من حقها أن تخاف من المذهب الشيعي «الزيدي».
المعادلة التي لم يحسب لها حساباً بن عمر، وهو يعلن انتهاء الحرب في دماج، أن مقاتلي دماج ليسوا ممثلين في الحوار الوطني، ولا هم أنصار الشريعة أو تنظيم القاعدة. ولفهم ما يحدث في دماج علينا ان نعرف ماذا حدث في صعده منذ عام 2004.
هنا، الحرب ليست آيديولوجية، بل قبلية. فهذه المنطقة (محافظة صعده) منطقة قبلية بامتياز، فيها أهم القبائل اليمنية وأشهرها «قبيلة حاشد».
وبحسب العرف، ينتمي الجميع هنا إلى المذهب نفسه، إذ ما من سبب حقيقي للصراع، بل إن الرئيس وقتها علي عبد الله صالح، الذي شن حروباً ستاً على الحوثيين، يُعدّ أحد أفراد قبيلة حاشد، ومذهبه زيدي، وهو نفس مذهب الحوثيين.
اذاً لما تفجّرت حروب صعده إن كانوا جميعاً من نفس المذهب؟
القبلي والهاشمي
عمق الصراع وجوهره هو صراع سياسي، وقبلي، لا مذهبي أو طائفي. وتغوص في عمق الصراع بقايا تعصّبات اجتماعية، لكن ما جرى تصويره من قبل الإعلام عن هذه الحرب أنها حرب مذهبية، كان لحصد التعاطف الشعبي مع القوات النظامية، ضد فئة تريد اعادة الحكم الملكي الديني. وبالنسبة إلى صالح لم يكن يهمه أن يُحرَق اليمن في فتنه مذهبية طائفية، وقتها، إذ لم يكن أمام عينيه الا منصبه الرئاسي، ولم يكن ليسمح لأي تيار سياسي أو فكري بأن ينتزع منه السلطة، تحت أي مبرر.
وكانت حركة الشباب المؤمن (وهي نواة الحركة الحوثية) وفي اساسها حركة فكرية، هي من روّجت لفكرة «الخلافة الراشدة»، أي أن يكون الخليفة من آل البيت، أي من الطبقة الهاشمية، بما يعني عدم أهلية صالح لها، لكونه الزيدي الذي لا ينتمي إلى أسرة هاشمية كما هو حال حسين الحوثي.
هذا الصراع يحدث في زمن يقول فيه اليمن إنه أصبح دولة عصرية، لا مملكة هاشمية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن تتقبّل أسرة قبلية مثل أسرة آل الأحمر، أن تحكمها أسرة أخرى، وهي أسرة لها نفوذ سياسي وتاريخ مناهض للحكم الملكي السلالي منذ أربعينيات القرن الماضي.
آل الأحمر، هم شيوخ قبيلة حاشد، ذوو نفوذ قبلي كبير، وعلاقة قوية بالسعودية، وسلطة سياسية، وثراء فاحش، لكن هذا كله لا يعني انهم بحسب التراتب الاجتماعي ـــ الطبقي، أعلى قيمة اجتماعية من آل الحوثي (الهاشميين) لأن شيوخ القبائل في اليمن أدنى مرتبة من الهاشميين.
فالتركيب الاجتماعي في اليمن، وهو تركيب عريق جداً وقديم، يجعل الهاشميين، أعلى قيمة اجتماعية من ابن القبيلة او حتى شيخ القبيلة. وعلي عبد الله صالح كان ابن قبيلة، وكان شيخه عبد الله آل الاحمر شيخ قبيلة حاشد.
لذلك كان صالح رئيس الشيخ، بحسب شكل الدولة السياسي، لكن، الأحمر كان شيخ الرئيس صالح، بحسب العرف القبلي. هذا يعني ان الشيخ الأحمر كان اعلى قيمة اجتماعية من رئيس الدولة، لكنْ كلاهما كان أقل قيمة اجتماعية من أي هاشمي مثل حسين الحوثي، برغم انه سياسياً لم يكن الا عضواً في البرلمان اليمني. هذا هو التركيب الاجتماعي الذي جرّ ذيله الناري الى الحلبة السياسية.
هذه التركيبة المعقّدة لليمن، غذّت الصراع على السلطة، وهي تلخّص تاريخ الصراع منذ مئة عام وأكثر، وتمهّد لأي صراع قادم، لذلك كان لصالح وآل الأحمر، مصلحة في القضاء على الحوثي، الذي كان يطالب في ندواته الفكرية بعودة الحكم الى آل البيت، وهو امر يعيد تاريخ الصراع في اليمن الى أكثر من 1500 عام.
يبدو اليمن ما زال عالقاً في مرحلة زمنية مظلمة من التاريخ الاسلامي، لقد دخل التاريخ، لكنه لم يخرج منه، ما زال محبوساً في الصراع بين علي ومعاوية، مستلقياً باسترخاء أمام العراك الفكري الجدلي: هل يكون الحكم للمسلمين من آل البيت، أم من خارجه.
اليمن عرف ثورته الجمهورية الأولى، في ستينيات القرن الماضي، مع حركات التحرر الكبرى بقيادة مصر جمال عبد الناصر، وقتها كانت تحكم اليمن عائلة هاشمية، هم آل حميد الدين، الذين ينتمون الى الفكرة نفسها التي يطلقها الحوثي بعد عقود على الثورة الجمهورية. هنا يبرز السؤال إن كان في اليمن صراع بين أبناء المذهب الزيدي أنفسهم، فلماذا تُرمى الورقة المذهبية في وسط هذا الصراع؟ في الحقيقة كان من السهولة استغلال الورقة المذهبية في هذا الصراع، بسبب انتشار المد الوهابي في المناطق الزيدية، حيث وجد المذهب الوهابي حاضناً له وسط القبائل اليمنية.
لذلك أصبحت أسرة زيدية مثل عائلة آل الأحمر، قريبة من الفكر الوهابي بسبب قربها من السعودية، وأيضاً بسبب العداء التاريخي مع الأسر الهاشمية، التي لا يمكنها ان تغير مذهبها الزيدي، لأسباب اجتماعية، لا عقائدية.
فالأسر الهاشمية لا يثبت نسبها الا المذهب الزيدي، الذي ينسبها الى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، لذلك فتغييرهم لمذهبهم يعني ان يفقدوا مكانتهم الاجتماعية.
الأخبار