هي مأساة إنسانية وشرطية محزنة ومؤسفة أكثر مما هي واقعة جنائية كما في ظاهرها.. وتعد مأساة إنسانية كون المجني عليه فيها فقد أغلى شيء لديه والذي لا يقدر بثمن ولا يشترى بملء الأرض ذهباً، وهما حبيبتاه أو عيناه، حيث تعرض لذلك نتيجة للجناية عليه بفعل فاعل أدى إلى فقدان بصره وإصابته بالعمى بشكل كامل ونهائي,, كما أنها مأساة شرطية لأن المذكور هو من خريجي كلية الشرطة الدفعة "35" عام 2003م وضابط شرطة حالياً برتبة رائد، وما زال شاباً في عنفوان شبابه عمره لا يزيد عن 33 عاماً.. وقد أصيب بفقدانه لحبيبتيه "عينيه" عندما تعرض لرصاصة أطلقت عليه من قبل أحد الأفراد أثناء ما كان متواجداً في مقر عمله، بتاريخ 2005/10/16 أي بعد سنتين ويومين وتسع ساعات من زمن تخرجه من كلية الشرطة، وعمره آنذاك 24 عاماً.. ليبدأ من يومها رحلة العذاب والمأساة التي لا تنتهي.. و... وها هي الوقائع والتفاصيل من بدايتها.
أسمه هاني أحمد عوض الزبيدي .. من أبناء زبيد مدينة العلم والعلماء والثقافة والحضارة محافظة الحديدة.. منذ صباه وهو يطمح بالمستقبل.. تطلع إلى أن يكون في يوم من الأيام ضابط شرطة.. جد في دراسته إلى أن اجتاز المرحلة الثانوية، وحصل على مؤهل الثانوية العامة "القسم العلمي" بنسبة عالية.. ثم التحق بكلية الشرطة بعد أن اجتاز اختبارات وشروط القبول في الكلية بنجاح.. وكان عمره حينها حوالي 18 عاماً.. وتخرج من الكلية عام 2003م الدفعة 35 برتبة ملازم ثاني وهو ما كان يحلم به ويتطلع إليه من قبل.. وعمره عند تخرجه بلغ 22 عاماً.. وتم توزيعه للعمل وأداء الخدمة كضابط شرطة عقب التخرج في أمن محافظة عمران، وبالتحديد بإدارة أمن مديرية ريدة ليبدأ عمله هناك ومن أول يوم بنشاط وبحماس دافعه وقوته الإيمان بالله جل وعلا، والإخلاص للوطن والتفاني من أجل خدمة الناس وتحقيق حماية المواطن والمجتمع ككل بروح الشباب والاستقامة التي تربى ونشأ عليها منذ نعومة أظفاره مثله مثل أقرانه من أبناء بيئته "مدينة زبيد" بمحافظة الحديدة أو معظمهم الذين لا يعرفون في حياتهم سوى لغة البساطة والتسامح وحسن الخلق والتعامل مع الآخرين بحب وعفوية مجردة.
حيث استمر حالة كذلك أي الملازم هاني حتى جاء ذلك اليوم المشئون المقدر له من الله تعالى، والذي مر فيه على خدمته بأمن ريدة من يوم تخرجه وتوزيعه مدة سنتين وشهرين وأقل من نصف يوم، والتاريخ 26 رمضان 1426هـ - 2005/10/16 والساعة كانت بعد المغرب.. إذ صادف وقتها أنه كان متواجداً في مقر عمله في "إدارة أمن ريدة" وجالساً بالغرفة، وخلفه أحد الأفراد من شرطة الإدارة واسمه محمد علي حسن كان جالساً على مسافة مترين منه بنفس الغرفة .. وفجأة وفي تلك اللحظة دوى صوت انطلاق رصاصة من سلاح آلي هز صداه أرجاء الغرفة، وأصابت الرصاصة الملازم هاني في مقدمة رأسه بشكل جانبي، دخلت من العين اليسرى ونفذت من الأخرى عرضياً، لتتلف تلك الرصاصة حبيبتي المجني عليه هاني(عينيه) تماماً.. وكان مطلق الرصاصة "الجاني" هو ذلك الفرد المدعو محمد علي حسن الجالس على بعد مترين بالغرفة، والذي لاذ بالفرار وهرب عقب فعلته مباشرة، بينما سارع بعض الزملاء من الأفراد الذين كانوا متواجدين إلى نقل وإسعاف الضابط المصاب للمستشفى العسكري بصنعاء بعد أن شاهدوه مال بجسمه في مكانه على الأرض وينزف الدماء من جانبي مقدمة رأسه.. ومكث المجني عليه بغرفة العناية المركزة بالمستشفى العسكري في حالة غيبوبة فترة 17 يوماً، ثم بعدها عندما فاق واستقرت حالته نسبياً قام أهله وأفراد أسرته لأنه كان محبوباً لديهم جداً ببيع البيت الوحيد الذي لهم في زبيد، وتسفيره لإسعافه بثمن المنزل من المستشفى العسكري إلى الأردن الشقيق في محاولة لإنقاذه أو لإنقاذ أي من حبيبتيه عينيه ولكن حين إيصاله للأردن وإخضاعه للكشف والفحص الطبيين ، قال له الأطباء هناك بالأردن في تقريرهم النهائي الخاص بتشخيص حالته إنه كان ثمة أمل في عينه اليمني، ولكنها تعرضت للإهمال الطبي عندما كان بالمستشفى في اليمن "قبل إسعافة للأردن"، وتسبب هذا الإهمال في تلف العين وتعطيلها هي الأخرى بصورة كلية، بحيث لم يعد هناك أي أمل للبصر نهائياً، وعليه أن يرضى بما قدر له، ويعتاد على العمى طيلة ما بقي من حياته، متحلياً بروح الإيمان بالله والصبر على مصيبته لأن ذلك قضاء وقدر من الله ولا راد لقضائه جلت عظمته وحكمته.
ثم عاد بعدها للوطن راضياً بنصيبه ليبدأ هنا بعد عودته من الأردن رحلة جديدة من المأساة، والمتمثلة في متابعة قضيته مع الجاني المدعو محمد علي أمام النيابة والقضاء ومطالبة جهة العدالة لإنصافه منه، وهي رحلة عصيبة وعويصة جداً عانى فيها الكثير وباع خلالها ما بقي من أثاث بيته بعد أن أنتقل إلى منزل آخر للسكن بالإيجار له ولأسرته.. وخلال هذه الفترة التي ظل يتابع فيها قضيته أمام جهات العدالة، ساعده بعض الخيرين وتمكن من الزواج بإحدى الفتيات من الأسر الكريمة، والتي أنجبت له مع مرور السنين ثلاثة أولاد، الأول منهم عمره حالياً 7 سنوات، والإثنان الآخران توأمان عمرهما سنتان وستة أشهر.
في حين صدر الحكم بعد رحلة العذاب من المحكمة على المتهم الجاني بالقصاص الشرعي فرضي هو بذلك "أي الضابط المجني عليه" ولكنه ما لبث أن فوجئ بحدوث مصيبة أعظم، وهي هروب أو تهريب الجاني من السجن المركزي بالمحافظة، وقبل ذلك بثلاثة أيام فوجئ بوصول اتصال هاتفي إليه من مسئول أمني بالمحافظة يقول له إن محافظ المحافظة يطلبه ويريده أن يحضر إليه لكي يحل القضية بينه وغريمه الجاني ودياً وعرفياً، وأن المحافظ سوف يعطيه التعويض الذي يطلبه ويريده مقابل أن يتنازل المجني عليه عن القضية والحكم ضد الجاني، فرد المجني عليه خلال الاتصال على المسئول الأمني قائلاً: لن أحضر إلى المحافظ ولا إلى غيره، ولكن الذي يريدني عليه أن يحضر هو إليّ.. فغضب المتصل الأمني وقال: تريد أن يحضر المحافظ بكله إلى عندك..!؟ من أنت ومن تحسب نفسك ..؟! فرد عليه الشاب أنا صاحب حق، ومن قال حقي غلب.!؟ فقال المسئول إن الحكم سيتعبك وأنت لست حير عليه..!!؟
وبعد هذا الاتصال بثلاثة أيام كان حدوث هروب الجاني من السجن ولم يتم إبلاغ أي جهة مسئولة عن ذلك حتى كانت المفاجأة الأخرى بعدها، والتي تمثلت بأن الجاني نفسه اتصل بالشاب المجني عليه قائلاً له: حقك الحكم بله واشرب ماءه.. طز فيه.. ولن تستطيع فعل شيء بي.
ثم استمرت ملاحقة المجني عليه للمتهم الجاني الهارب بعد ذلك والسعي للعثور عليه وضبطه ثلاث سنوات متوالية إلى أن تم القبض عليه أخيراً بتاريخ 12/8/2010م، وإعادته إلى السجن من جديد وبصعوبة شاقة، وأثناء هذه المدة.. فترة الثلاث السنوات التي استغرقت المتابعة والملاحقة وراء الجاني إلى يوم ضبطه كان المغدور المجني عليه قد باع حتى الثياب وبقي مع الأسرة على الحديدة دون أية مساعدة من أحد، وهي مأساة مضافة إلى مأساته الكبرى.. ومع ذلك لم يفقد أمله في الله، ولم يتأثر بثقته في نفسه، وظل على إصراره بمطالبته حقه ومتابعته لتنفيذ الحكم الصادر ضد الجاني.. وقد تم تصديق هذا الحكم بعد الاستئناف والإقرار مؤخراً من الأخ المشير عبد ربه منصور هادي رئيس الجمهورية لتنفيذه بنصه وحذا فيره.. وهو الآن أي الضابط المجني عليه منتظر للتنفيذ.. ولكن يا ترى هل سيتم ذلك ومتى ..؟! وإذا لم يتم على الأقل هل سيتم التعويض المناسب للمجني عليه، وبما يغطي إمكانية إعادة شراء بيت له ولأسرته بدلاً عن بيته الذي باعه لعلاجه ولتعويض ما فقده من أثاث وأشياء أخرى، إضافة إلى محبوبتيه عينيه اللتين هما أغلى وأثمن من أي تعويض آخر.. وهذا من باب القليل الأقل وجزء من الإنصاف.
مأساة الضابط هاني الزبيدي
اخبار الساعة - عرض وتحليل/حسين كريش
المصدر : صحيفة الثورة