أخبار الساعة » دراسات ومتابعات » دراسات وتقارير

د,طارق الحروي المحليات بيئة الثورة الوطنية الرابعة القادمة في اليمن: قراءة في أبجديات خارطة الطريق الجديدة لإقامة مداميك الدولة المدنية البحرية الحديثة

- د.طارق الحروي
بالرغم من أن مرور ما يقارب العشرون عاما من عمر تحقيق الوحدة اليمنية قد تكلل بنقل اليمن دولة وشعبا خطوات متقدمة لا بأس بها في اتجاه الدولة المدنية الحديثة المنشودة، سيما فيما إذا احتسبت- وفقا- لطبيعة ومستوى ومن ثم حجم التحديات الداخلية والخارجية التي أطبقت عليها من كل حدب وصوب، لدرجة يمكن الجزم أن البلاد لم تنعم حتي بسنة واحدة من السكينة والهدوء، على خلفية ما تمخض عنها من ولادة للألوف من الانجازات المهمة بل والعظيمة على الصعيدين النظري والعملي التي طالت كافة مناحي الحياة بدون استثناء، حتى وإن كانت دون مستوى الطموح، بصورة وضعت اليمن على مقربة كبيرة من عتبة بوابة الدولة المدنية الحديثة (دولة النظام والقانون)، المدخل الأساسي بل والوحيد لولوج أهم مرحلة من مراحل العمل الوطني (مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة).
  • إلا أن هنالك حلقة أساسية من أهم حلقات العمل الوطني قاطبة لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها على الإطلاق، ظلت مغيبة وشبه مشلولة عن مجمل عمليات الحراك التي شهدتها البلاد على كافة الأصعدة، ألا وهي المجتمعات المحلية (المحليات)، البيئة الأكبر والأهم الحاضنة لأركان الثورة الوطنية (التنموية) الرابعة القادمة التي سوف تشهدها البلاد والكفيلة بإدخال اليمن دولة وشعبا مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة من أوسع أبوابها، والوصول بها إلى مصاف الدولة المدنية الحديثة، بصورة تفسر لنا جوانب مهمة من أسباب استمرار تنامي حالات عدم الرضي الشعبي لكل ما تم انجازه، لدرجة أفضت إلى بقاء الجزء الأكبر والمهم من فئات الشعب بعيدة تقريبا عن كل ما يجري حولها إلا في محطات رئيسة بعينها عندما اقتضت الضرورة ظهور مواقفها، على أساس أن ذلك كله لا يعنيها طالما لم يكن لها دور محوري فيه ومن ثم أية مصالح حيوية، كشريك حقيقي في هذا الوطن.
  • ومما تجدر الإشارة إليه أنه على الرغم من مرور عقدين من الزمن على إعادة توحيد اليمن إلا أن مجمل عمليات الحراك السياسي التي شهدتها البلاد قد تركزت في الحلقة الوسطى (السلطة التشريعية)- على أكثر تقدير- وبسبب اختصار المفهوم الشامل للتنمية السياسية إلى مجرد حراك حزبي شكلي وموسمي لم يخرج عن تلك البوتقة الضيقة من المصالح الخاصة لعناصره التي تتجدد عند كل دورة انتخابية، سيما مع استمرار تنامي حالات النكوص الحادة في العملية السياسية والحزبية برمتها جراء تغيب كلي لمكونات منظمات المجتمع المدني (التي تعد الأحزاب أحداها) والقطاع الخاص عن إرهاصات المشهد السياسي، فإن العمل السياسي برمته ظل حبيس حواضر المدن التي لا يشكل سكانها سوى 26%، بالمقارنة بحوالي 74% من إجمالي سكان اليمن يعيشون في الأرياف، بحيث كان يتم تقرير مصير البلاد في مجموع السياسات المتبعة- وفقا- لحيثيات لا تتجاوز نطاق حدود المناطق الحضرية- على أكثر تقدير- أو من قبل قيادات وعناصر سياسية وحزبية تدعي تمثيل اليمن ولكنها في حقيقة الأمر لا تمثل سوى جزء بسيط منها، وبما ان التواجد والحراك السياسي الحزبي ظل مقصورا على بعض أهم المدن الأساسية لم يتعداها إلى نطاق حدود الأرياف، فإن مجمل ما أفرزته المرحلة من منجزات سياسية ومن ثم تنموية لم يلبي تطلعات معظم فئات الشعب ولم يعكس احتياجاتها الملحة إلا من بعيد، وبالتالي فقدت هذه العناصر ومن ثم المنجزات جزء كبير ومهم من مشروعيتها السياسية في تمثيل حقيقي لفئات الشعب اليمني ومصالحه، مع العلم أن عمليات الحراك السياسي بشقها الحزبي عندما بدأت بالخروج من نطاق حدود (السلطة التشريعية) قليلا فإنها اتجهت بكل ثقلها نحو الحلقة الأعلى التي يمثلها منصب الرئاسة تاركة الأمة بأوجاعها وهمومها واحتياجاتها خلفها بمسافة بعيدة.
  • ومن نافلة القول ضمن هذا السياق توجد مؤشرات ودلالات لها قيمتها يعتد بها في الشأن المحلي، الوعاء الحاضن لمعظم فئات الشعب بكل احتياجاتها وأوجاعها وهمومها، في ضوء ما تمخض عنها من تحريك لأجزاء مهمة من فئات الشعب ومن ثم لرأس المال السياسي المفقود وغير المستخدم حتى وإن كان دون مستوى الطموح، نظرا لما سوف تمثله في الذاكرة الوطنية من خزين وتراكم معرفي وعملي له قيمته في المرحلة القادمة عندما تتوفر المعطيات الظرفية اللازمة، ابتداء من قانون الإدارة المحلية ولوائحه التنفيذية وتأسيس وزارة الإدارة المحلية وصولا إلى استمرار تنامي بروز منظمات المجتمع المدني (جمعيات، اتحادات، روابط، مؤسسات،..) المعنية بالشأن المحلي (التي تجاوزت أعدادها الـ9 ألف منظمة لحد الآن)، ومرورا بخوض الانتخابات المحلية لدورتين 2001م و2006م، وانتهاء بما تمخضت عنها التجربة اليمنية في الإدارة المحلية من دروس وعبر ومن ثم من تنوع ثرى وممارسات حية للشأن المحلي مهمة جدا، علما أن أهمية هذا الأمر سوف تتضح تباعا عندما تنتقل عمليات الحراك السياسي نحو هذه الحلقة في المرحلة القادمة.
  • أما عن أهمية الخوض في هذا الموضوع وفي هذا التوقيت تحديدا، فتكمن في أن اليمن تقف بالفعل على عتبة أهم مرحلة من مراحل العمل الوطني انطلاقا من أوساط الشعب والأرياف تحديدا، التي تبشر بإرهاصات ثورة وطنية عملاقة اكتملت أركانها الأساسية- إلى حد كبير- والتي من خلالها بمشيئة الله تعالى سوف تلج البلاد مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة من أوسع أبوابها- مستندا في ذلك- إلى تراكم معرفي متواضع كنت قد بدأت به منذ فترة ليست بالقصيرة بهذا الشأن في هيئة دراسة (كتاب)، تحت عنوان (مستقبل تطور نظام الإدارة  المحلية في اليمن: دراسة تقويمية في إمكانية الانتقال إلى نظام الحكم المحلي كامل  الصلاحيات)، إلا أنها لظروف شخصية ولغياب الدعم اللازم لم أستطيع استكمالها لحد الآن.
  • في البدء حري بنا القول أني سأحاول تناول موضوع هذه المقالة من خلال العديد المحددات الداخلية والخارجية الأساسية التي تمثل الإطار العام الحاكم لإمكانية قيام هذه الثورة بكل أبعادها من أو تأخرها لحين اكتمال عناصرها الرئيسة بهذا الشأن، وهو الأمر الذي فرض علينا ضرورة التطرق إليها في خطوطها العريضة، بصورة نضع من خلالها حجر الأساس الأولي لرؤى لاحقة تفتح المجال واسعا أمام أغناء الإطار النظري بشتى أنواع التراكم المعرفي والعملي.
  • ومن هنا نجد أنه في الوقت الذي يأخذ معنى مصطلح (الثورة) في أبسط وأهم معانية بل ودلالاته حركة تغيير جذرية تطال الواقع المعاش (المستهدف) بكل أبعاده وبشقيه النظري والعملي، في ضوء اكتمال شتى العناصر الأساسية الموجبة لقيامها على المستويين الداخلي والخارجي، فإنه يمكن إعادة بلورة بعض أهم الملامح الرئيسة للثورة الوطنية الرابعة القادمة التي سوف تشهدها اليمن؛ من خلال اتجاهين رئيسين
  • الأول يهتم بتناول المحددات الداخلية الرئيسة الحاكمة لها، التي يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمها الرئيسة في العديد من المؤشرات الرئيسة التي تشكل عناصر البيئة الداخلية الحاضنة والمحفزة لولوج مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة، التي بدأ التخطيط والإعداد والتحضير لها ومن ثم التنفيذ للكثير من أركانها وعناصرها منذ مطلع العقد الماضي؛ والتي تمثل الأركان الأساسية للثورة القادمة المنشودة، نورد منها ما يأتي:-
  • اكتمال معظم البني التحتية اللازمة بهذا الشأن، في ضوء اكتمال الجزء الأكبر والمهم للهياكل التنظيمية والإدارية والمالية التي تمثلها الوزارة والأجهزة والمؤسسات التابعة لها على طول البلاد وعرضها، على خلفية تجربة أكملت لحد اليوم سنتها الثانية عشرة- مستندة في ذلك- على محطات رئيسة مهمة لتجارب حية مضى عليها قرابة أربعة عقود من الزمن.   
  • ما تمثله التجربة اليمنية من تراث وطني شبه زاخر، لا غنى عنه في إعادة تقيم ومن ثم تقويم التجربة الحالية التي سوف تمهد كثيرا الطريق نحو الانطلاقة الكبرى المنشودة، بمراعاة عامل السرعة والزمن والتكلفة.
  • توفر كادر بشري متخصص ومدرب نوعا ما يتملك خبرة تراكمية لا بأس بها.   
  • مواد دستورية أساسية تشير إلى مبدأ اللامركزية ونظام الحكم المحلي  كامل الصلاحيات
  • قانون السلطة المحلية الذي اكتملت بنوده بعد مناقشته من قبل السلطة التشريعية عام 2010م، بالاستناد على قانون الإدارة المحلية الصادر في العام 2000م واللوائح التنفيذية الخاصة، سيما في ضوء بروز احتمالية كبيرة تؤكد سير البلاد باتجاه حكم محلي مستقل في الجانبين الإداري والمالي (كامل الصلاحيات).
  • وجود حاجة وطنية وشعبية ملحة لخوض غمار هذه الثورة بكل أبعادها، باعتبارها المدخل الوحيد لترجمة احتياجاتها وتطلعاتها، وبما يتناسب مع المعطيات الظرفية الداخلية والخارجية، في ضوء استمرار تنامي حالات التدهور الحادة في الواقع المعاش.  
  • توفر إرادة ورؤية سياسية واضحة المعالم لخوض مضمار تجربة المجالس المحلية من أوسع أبوابها في ضوء ما أبدته من جراءة في الانخراط المباشر والسريع في أتون هذا التجربة حتى قبل أن تكتمل بعض أهم عناصرها، في اتجاه تحقيق هدف محوري ومهم يتمحور حول تهيئة ما يمكن توفيره من البني التحتية اللازمة، وصولا إلى ما سوف تمثله التجربة من تراث زاخر لا غنى عنه تفيد في إعادة تقيم ومن ثم تقويم التجربة عند توفر المعطيات الظرفية المهيأة لدخولها من أوسع أبوابها، نظرا لإدراك القيادة السياسية أن الوصول إلى صميم قضايا الشعب اليمني لن يكون إلا من خلال المجتمعات المحلية، وإن الانتظار حتى تختمر الظروف المواتية لم يعد ممكنا البتة وإن التجسيد العملي لأولويات المصلحة الوطنية العليا قد أصبح واجبا أساسيا وملحا لا مناص منه- أولا.
  •  ومن نوايا ومن ثم إرادة حقة للتفرغ لبناء البلاد برزت واضحة المعالم منذ العام 2004م وتجسدت ابتداء في عناصر خارطة الطريق الجديدة التي مثلها البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية عام 2006م آنذاك في أدق التفاصيل، نظرا لما شكله في أهم مؤشراته ودلالاته الرئيسة من قفزة نوعية بهذا الشأن، باعتبارها الحلقة الأخيرة المكملة لمنظومة الإدارة المحلية، وصولا إلى تهيئة معظم المستلزمات اللازمة للانتقال إلى نظام الحكم المحلي واسع الصلاحيات كمرحلة متقدمة- وفقا- لما فرضته أولويات المصلحة الوطنية العليا، والتي توجت بانتهاء السلطة التشريعية من إعداد قانون السلطة المحلية الجديد عام 2010م، ثم ما أبدته القيادة السياسية من استعداد تام في العام 2011م للانتقال مباشرة إلى المرحلة التي تليها (حكم محلي كامل الصلاحيات) إذا ما اقتضت المصلحة الوطنية العليا ذلك.
  • أما الاتجاه الثاني فيُعنى بالمحددات الخارجية التي يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمها الرئيسة بتلك العوامل الرئيسة التي يُعزى لها هذا الأمر، في ضوء ما نستشفه من دلالات ومؤشرات رئيسة يفرضها الواقع الدولي بدوله ومنظماته التي ما فتات تدعو ومن ثم تساهم في تقليل سعة الفجوة الحادة الحاصلة في المستوي الاجتماعي والاقتصادي...، وصولا إلى التنموي، الذي تعيشه شعوب ودول المنطقة؛ جراء تركز الجزء الأكبر والمهم من الثروة في يد القلة القليلة واستمرار تنامي حالات الحرمان والظلم التي يجسدها الفقر والجهل والمرض بين قطاعات واسعة جدا من فئات الشعب، نظرا لما يمثله هذا الأمر من تداعيات جمة وآثار أمنية سلبية متفاقمة، لها انعكاسات واسعة على أمن ومصالح المجتمع الدولي في بلد ذو موقع حيوي كاليمن.             
  • ومن هنا تتضح لنا جدوى العشرات من البرامج السياسية ضمن إطار منظومة الحكم الرشيد لإصلاح المنظومة السياسية القائمة أو المئات من البرامج التنموية الدولية التي تستهدف هذه الفئة الواسعة من المجتمع في كثير من المحاور، بصورة تفضي إلى معالجة قضايا كثيرة كـ(البطالة، الفقر والجهل والمرض،...)، مما يولد شعورا نسبيا بنوع من العدالة والرضي العام في التوزيع شبه العادل لمصادر الثروة والقوة، يؤدي- في نهاية المطاف- إلى التخفيف من بؤر الاحتقان والكبت والتوتر الذي تعج بها الساحة ومن ثم عودة نوع من الأمن والاستقرار النسبي.           
  • وختاما يسعنا القول أن ملامح الثورة الوطنية القادمة قد اكتملت إلى حد كبير، إلا أن هذا الأمر سوف يظل مرتبطا بشكل وثيق الصلة بطبيعة ومستوى ومن ثم حجم السياسات الإجرائية المتبعة بهذا الشأن في السنوات القادمة، والتي سنتناولها في مقالة أخرى بهذا الشأن.

                                                                 والله ولى التوفيق وبه نستعين



([1]) باحث في العلاقات الدولية والشئون الاستراتيجية وكاتب ومحلل سياسي.

 

المصدر : الكاتب

Total time: 0.0835