أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

من مذكرات الزمن الجميل..

- مروان الغفوري

عندما وقف أكرم عبدالفتاح، الشاعر النبيل، على منصة المركز الثقافي اليمني في صنعاء في العام 2006 كنت سعيداً، ومبتهجاً. على طريقة بورخيس في استهلال قصصه عندما يكتب "اسمي غير مهم، والكوخ الذي ولدت فيه وسأموت فيه يوجد بالقرب من الغابة" تحدث أكرم عبدالفتاح.

كان شجاعاً جداً، وكنت فخوراً لأنه صديقي. كنت فخوراً حتى أني لم أنس تفاصيل ثانية واحدة من لحظات ذلك اليوم النادر. كان المركز ممتلئاً على آخره بالشعراء. في الصف الأول كان يجلس وزير الثقافة، وكان اسمه في تلك الأيام "خالد الرويشان" ولست أدري ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة.

ففي خلال ثلاثة أيام، زمن المهرجان الشعري، ألقيت حوالي 25 قصيدة في مديح حارس الثقافة. ولم يكن يقصد بذلك سوى الشاب خالد، الذي سرعان ما سيرفع هذا المنصب إلى الأعلى وسيقول من على المنصة: بل علي عبدالله صالح. سيكررها أكثر من مرة.

بعد يومين نشرت مقالا في صحيفة الثقافية، وضع عنوانه ببونت عريض على الصفحة الأولى: النعمان بن المنذر بن ماء السماء. ولم يكن ذلك النعمان سوى وزير الثقافة بآنئذ. في ذلك اليوم وقف أكرم عبد الفتاح على المنصة. كان شجاعاً، وكانت عيناه ذكيتين ونقيتين كعيني ديك.

قلت لصلاح الدكاك، وكنا نجلس ثلاثتنا في الصفوف الأخيرة: المجنون، سيبصق في الصورة المعلقة. ما إن وقف أكرم على المنصة أمام وسائل الإعلام وحشد الشعراء حتى نظر إلى يمينه، حيث صورة صالح. عاد فنظر إلى آخر القاعة حيث صلاح الدكاك، وأنا. ابتسم، ثم انطلق كالسهم: إلى صلاح، لأنك تكفر بالسنحنة.

رمق الصورة في منتصف القصيدة وهو يتلو: سروال عاهرة فوق سيارة الجيش، تحرسها صورة القائد الرمز، إنها السنحنة. أصيب الجميع بالشلل. أما صلاح وأنا فغرقنا في تصفيق هستيري. قالت صحيفة الجمهورية، التي سيؤيد رئيس تحريرها الثورة بعد ذلك، إن الشاعر ألقى قصيدته وهو مثقل الرأس بطيء اللسان. أما وزير الثقافة الرويشان فقد صعد على المنبر وتوعد الجميع.

كان يقبض على الميكرفون بلذة كاليغولية ويزأر: لن نسمح لحفنة شاذة بتفجير الملتقى الشعري. كان اسمي واسم صلاح ضمن قائمة الذين سيلقون النصوص على المنصة. شطبوا الاسمين واستكملوا البرنامج حتى النهاية. كنا ضمن أفراد تلك الحفنة الشاذة، وكنا سعيدين بذلك الوصف. شطبوا أسماءنا بنفس الطريقة التي سيشطب بها اسم خالد الرويشان من صحيفة الثورة بعد ثمانية أعوام ، بالذريعة نفسها وفي نفس البلد.

لكن خالداً لن يمنح لقب فرد في حفنة شاذة. فهو قط لم يكن شاذاً. كان دائما وديعاً ويكتب للسلطان. وعندما لم يطلب منه السلطان، بعد سنين، أن يكتب له مفضلاً خادماً آخر قام الأول يصرخ: الدولة ترتخي. ولعمري إنها لمرتخية منذ عشرات السنين، وكانت أشد ارتخاء عندما كان صالح يمشي من السائلة.

ربما كان "خالد" يخاف في تلك الأيام. لكنه كان يأكل اللحم والعسل بخوفه، كان خوفه سنارة صيده. وكنا بخوفنا نلبس الأحذية البلاستيكية، فتأتينا الشجاعة.

الشجاعة التي التقطتها كاميرا مذهلة لواحدة من أيام الثورة. فبعد أن فض الأمن بالرصاص الحي مظاهرة في شارع الزبيري رأينا في الصورة عشرات الأحذية البلاستيكية في الطريق، مختلفة المقاسات. أحذية الشجعان، الذين بمقدورهم الحديث في أي زمن دون أن يحسوا بالخجل. في مساء ذلك اليوم التقيت عبدالكريم الخيواني. طلب مني كتابة تقديم للقصيدة فكتبته بخط اليد، ونشرت في موقع الشورى.

قال لي الخيواني وهو مزهو بفعل صديقنا أكرم: أجريت لقاء مع خالد الرويشان حول صنعاء عاصمة الثقافة فقال لي: إن الرئيس "صالح" يدعم الثقافة بقوة، فهو يمشي كل يوم في السائلة. في صباح اليوم التالي زرت الهيئة العامة للكتاب للحديث حول طباعة كتابي " في انتظار نبوءة يثرب".

سألني فارس السقاف همساً عن القصيدة التي قيلت بالأمس. وعدته بها، وكان فرحاً. قال إنه يشعر بسعادة غامرة حتى وإن لم يقرأ القصيدة. بعد ستة أشهر من تلك المحادثة كان فارس السقاف يتحدث في ندوة كبيرة بمناسبة صدور كتاب جديد عن تجربة فخامة الرئيس.

قال السقاف كلاماً حفظته منذ ذلك اليوم: أستطيع أن أقول أن الرئيس صالح كان أعظم هبة في تاريخ اليمن، وأن اليمن كان مستحقاً لتلك الهبة التاريخية. بخلاف ما توقعته عن نفسي. فقدت شعرت بحب الله لي لأني لم أعد قبل ستة أشهر بالقصيدة لهذا الرجل الذي يتحدث الآن على المنصة، كما كنت وعدته.

بعد ثمانية أعوام سيتوقف صالح عن "المشي في السائلة" وسيكتشف الرويشان فجأة أن الدولة أصبحت رخوة". عندما أتذكر ملامح أصدقاء تلك الأيام، وملامح الجبناء والأرزقية أيضاً يداهمني حزن شديد. فأصدقائي الشجعان لا يزالون شجعانا لكنهم لم يعودوا أصدقائي كما كانوا. أ

ما المتسلقة والجبناء فهاهم يقفون إلى جانبي يرددون معي الكلمات ذاتها. لكنهم لن يكونوا أبداً أصدقائي. كانوا جبناء، ومنافقين. وعندما انتهت فعاليات ذلك اليوم ذهبت مع صلاح ومحمد العبسي وأكرم إلى مطعم عصيد في شارع تعز.

أما خالد الرويشان فأخذ مجموعة كبيرة من أصدقائه، ذهبوا معا عبر طريق يمر بالسائلة حتى اختفوا في فيللا خلابة.

تناولوا اللحم النادر، وبنت الصحن بالعسل الدوعني، وتندروا على الحفنة التافهة والجائعة. حتى إن أحدهم وهو يعلق جاكته باهض الثمن بالقرب من المكان الذي يجلس فيه "خالد" سخر من القميص الذي كان أكرم يرتديه ذلك الصباح. لا يكبر الفتى أرزقياً، ويموت ثائراً. نهاركم سعيد.

Total time: 0.0554