أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

صنعاء سقطت.. اليمن لن يسقط

- صحيفة الرياض - طلال صالح بنان
سقطت صنعاء بيد الحوثيين، بعدما انهار الجيش النظامي اليمني على أبواب العاصمة العتيدة. لا أحد يعرف سر انهيار جيش الدولة في مواجهة ميليشيات القبيلة. الجيش اليمني هو ثاني جيش نظامي لدولة عربية ينهار في مواجهة ميليشيات غير نظامية محلية. انهزم الجيش العراقي من قبل أمام جحافل «داعش» في شمال العراق، حتى وصل إلى الحدود الشمالية لبغداد.
بالرغم من ظهور الرئيس اليمني يوم الخميس الماضي على التلفزيون الرسمي يخطب بمناسبة الذكرى السنوية لثورة 26 سبتمبر، إلا أن واقع الأمر يوحي بأن السلطة الميدانية في الشارع في صنعاء قد أضحت بيد الحوثيين، وأن اليمن (الدولة) ــ في جانبها الأمني ــ حدث بها ما يشبه الفراغ الدستوري، وإن كان الحوثيون لم ينزعوا السلطة بعد، إلا أن ممارسة السلطات الدستورية لم تعد بالصورة التي كانت عليها قبل سقوط صنعاء. فطبقا للاتفاق الذي أبرم بين الطرفين؛ على الرئيس أن يعين مستشارين له يسميهم زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي.. موقف لا يحسد عليه الرئيس اليمني ــ هذا إن قبله ــ وإلا قد يكون للحوثيين ترتيب آخر لإدارة البلاد.
لكن سقوط صنعاء بيد الحوثيين لا يعني سقوط اليمن. اليمن بلد شاسع مفعم بتعقيدات اجتماعية وديموغرافية وقبلية صعبة. هذه الطبيعة المعقدة لتضاريس الديموغرافية الاجتماعية والثقافية لليمن حالت في الماضي دون بناء كيان وطني تحكمه دولة حديثة. يظل اليمن بتضاريسه الديموغرافية والقبلية هذه صعب الانقياد لفئة وطائفة بعينها. بالإضافة إلى أن اليمن في العقود الخمسة الماضية ــ وإن فشل في التخلص من إرث قرون من الواقع القبلي ــ حدثت فيه صور من التنمية الاجتماعية والتأصيل لممارسة سياسية تعددية، رغم عدم قدرتها على الانعتاق كلية من الإرث القبلي، إلا أنها تظل ممارسة حديثة في إدارة البلاد، غير تلك التجربة التي سبقت ثورة 26 سبتمبر 1962. من هنا، فإن الجانب السلبي في ما حدث الأسبوع الماضي في صنعاء يكمن في محاولة الحوثيين إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والاحتكام لقانون القوة والغلبة في تحديد مصير اليمن، بدلا من المضي في مسيرة التعددية واتساع نطاق المشاركة السياسية والاحتكام للدستور في رسم وتحديد معالم دولة اليمن الحديثة.
كذلك فإن ما يصعب على الحوثيين المضي في خيار الاحتكام لمعياري الغلبة والقوة، بدلا من معيار التداول السلمي للسلطة؛ خلفية الحوثيين العقائدية التي لا يدين بها معظم الشعب اليمني، والتي تحول دون اكتمال إنجازهم العسكري بنصر سياسي. إن أغلبية اليمن لن يقبلوا بفرض سيطرة أقلية لتحكم اليمن، خاصة إذا ما اتضح لليمنيين أن الحوثيين ينفذون أجندة إقليمية بعيدة، من شأنها أن تلحق الضرر بمستقبل الوطن وعلاقته بجيرانه.
إضافة إلى أن الحوثيين عليهم ألا يغتروا بنصرهم العسكري السهل والسريع، وهم يعلمون أنه ما كان لهم أن يحققوا ذلك لولا تأييد قوى إقليمية لهم، حيث لا يمثلون سوى بيدق في لعبة شطرنج إقليمية ودولية معقدة ومن السهل الإطاحة به عند أي حركة على طاولة الشطرنج تلك. إيران ــ على سبيل المثال ــ لن تتأخر في التخلي عنهم عند أي بادرة لمصالحة إقليمية أوسع. كما أنهم لو أصروا على حكم اليمن، رغما عن إرادة الشعب وأصروا على اتباع سياسة خارجية تضر بمصالح وأمن جيرانهم، فإنهم بالقطع سيفقدون الدعم المالي والسياسي والاقتصادي من قوى إقليمية يهمها استقرار اليمن وتطوير علاقة الأخوة القائمة بين الأشقاء. أما إذا اغتر الحوثي بقوته وحاول أن يجرب العبث بأمن جيرانه، فإن تلك تكون غلطة العمر بالنسبة له.
ليس هناك خيار لليمن إلا التوافق الوطني.. التوافق الوطني كان وراء إنهاء الحرب الأهلية التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962، والتوافق الوطني كان وراء حل أزمة وحدة اليمن في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، والتوافق الوطني كان وراء تجاوز اليمن لمحنة ثورات ما سمي بالربيع العربي، والتوافق الوطني هو ركيزة الاتفاقية الأممية الأخيرة بين الحوثيين والحكومة المركزية في صنعاء.
معيارا القوة والغلبة ــ فضلا عن رجعية خيارهما ــ تكمن في الإصرار على الأخذ بهما نهاية المشروع الحوثي من أساسه. اليمن أكبر وأعتى من أن يحكم من قبل أقلية طائفية لا تمتلك مقومات الحكم والإدارة، ولا الرضى الشعبي، ولا القبول الإقليمي، لحكم بلد غني بتعقيدات ديموغرافيته الاجتماعية والثقافية مثل اليمن.
لقد ذهب الوقت الذي كان فيه سقوط العواصم ينذر بسقوط الدول أو زوالها. الميليشيات غير النظامية ممكن أن تسقط أنظمة وتقوم بانقلابات عسكرية إلا إنها لا تسقط دولا، ولن تتمكن من الحكم اعتمادا على رعونة القوة وحدها. لا خوف على اليمن (الدولة) من سقوط صنعاء.

Total time: 0.49