اخبار الساعة
لم يعد يكفي إيران اليوم أن تتحدث عن دورها وموقعها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وضرورة التضامن معها بوجه العقوبات الأميركية، وتقديم التضحيات لإنجاز مشروعها النووي المثير للجدل، فانتقلت إلى الحديث عن الانتقام لاستهداف كبار علمائها وقادتها في الحرس الثوري في أعقاب عملية محسن فخري زادة، ونسيت أنها سوف تحصد ما تزرع بعد أن عملت على تصفية المئات من الكفاءات العلمية في العراق منذ الاحتلال الأميركي قبل نحو عقدين.
تعتبر إيران من الدول السباقة في منطقة الشرق الأوسط نحو تكريس مفهوم “الاغتيال السياسي”، حيث تورطت طيلة سنوات في تسهيل تنفيذ عمليات اغتيال مباشرة لشخصيات سياسية في كل من العراق وسوريا ولبنان منذ ثمانينات القرن الماضي، تقول إنها تشكل خطرا عليها.
وبالرغم من هذا التاريخ الحافل بالعمليات، تحاول إيران اليوم أن تصور عملية اغتيال عالمها النووي محسن فخري زادة، الذي قتل على مشارف العاصمة طهران الأسبوع الماضي، على أنها حدث فريد، متجاهلة حقيقة تنفيذها للعديد من عمليات الاغتيال في العراق على وجه الخصوص.
وحتى عندما تولى نظام سياسي قريب من إيران إدارة الحكم في العراق بعد الغزو الأميركي في العام 2003، استمرت عمليات الاغتيال الإيرانية بدوافع مختلفة، بعضها ثأري والآخر يتعلق بتعبيد طريق سياسي أو إزاحة خصم ما.
تاريخ من الاغتيالات
بعد عودة عمليات الاغتيال في السنوات الأخيرة في العراق، وجهت اتهامات مباشرة إلى الميليشيات الشيعية بالوقوف وراء تلك الاغتيالات التي أخذت طابعا سياسيا وطائفيا، فقد كشفت مصادر عراقية مرارا عن تورط الحشد الشعبي في اغتيال علماء عراقيين لدوافع طائفية.
ويشير محمد علي الربيعي، الباحث العراقي المقيم في أيرلندا، إلى أن معظم الاغتيالات الإيرانية في العراق كانت تستهدف شخصيات مؤثرة في العديد من المجالات، والهدف من ذلك هو إسكات الأصوات المناوئة لطهران من أجل أن يتسنى لها السيطرة على الدولة العراقية.
ويقول الربيعي، وهو رئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) إنه يمكن تصنيف القوى التي تستهدف الأكاديميين والعلماء إلى قوى أو أفراد ممّن فقدوا مواقعهم ونفوذهم وقوى سياسية تريد تطهير الجامعة من كل أكاديمي بعثي أو متعاون مع النظام السابق، وأيضا قوى طائفية تريد التخلص من كل أكاديمي ينتمي إلى طائفة من غير الطائفة، التي تشكل الأكثرية في المحافظة التي تقع فيها كل جامعة.
وكردّ انتقامي على نجاح العلماء والمهندسين العراقيين والطيارين في الحرب ما بين عامي 1980 و1988، استغلت إيران الفراغ الأمني الذي شهده العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين قبل أكثر من 17 عاما، حيث شنت فرق اغتيالات إيرانية حملة ممنهجة ضد طيارين وضباط عراقيين شاركوا في الحرب العراقية – الإيرانية.
وسقطت خلال هذه الحملة أسماء عراقية بارزة، شاركت في عمليات مؤثرة ضد الجيش الإيراني خلال حرب ثمانينات القرن الماضي، مثل اللواء الطيار إسماعيل سعيد، والعقيد الركن الطيار محيي الدين مشرف اللهيبي، والعميد الركن الطيار أحمد صالح الجميلي.
وخلال ثلاث سنوات، استهدفت فرق الاغتيالات الإيرانية أو المدعومة من إيران، قرابة 180 طيارا و400 ضابط في الجيش، شاركوا جميعا في الحرب ضد إيران، بحسب ما تشير إليه بعض الإحصاءات غير الرسمية.
وسبق أن ذكرت الباحثة والأكاديمية العراقية هدى النعيمي، أن علماء ومهندسين وكفاءات علمية وعسكرية وطيارين عراقيين تعرضوا للاغتيال والتصفية بعد احتلال العراق عام 2003.
ورغم عدم وجود إحصائيات رسمية عن العدد الفعلي للكفاءات العراقية التي تمت تصفيتها، لكن النعيمي تقول إن الأرقام المعلنة تشير إلى أن حوالي ألف عالم عراقي قد تمت تصفيته خلال السنوات الأولى بعد الاحتلال.
وتظهر العديد من الوثائق المسربة والتقارير، التي نشرت في السنوات الماضية، أن سياسيين عراقيين مدعومين من إيران تورطوا في عمليات التصفية من خلال قيامهم بجمع المعلومات عن المستهدفين حتى يتم اغتيالهم.
إيران تحصد ما تزرع
بالرغم من أن السنوات التالية شهدت العديد من عمليات الاغتيال الإيرانية في العراق، مثل محاولات تصفية أحد المقربين من المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني لانتقاده تغول نفوذ طهران في بغداد، أو محاولة اغتيال أحد المقربين من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للسبب نفسه، إلا أن الأمر بلغ ذروته مع اندلاع احتجاجات أكتوبر من العام الماضي.
وكشفت هذه الاحتجاجات عن حجم الغضب العراقي الشعبي ضد النفوذ الإيراني السلبي في البلاد، والذي أدى إلى دخول البلاد في حالة من الفوضى السياسية بتغول شخصيات تدين بالولاء لطهران، فضلا عن سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي، التي ظهرت خلال قيام السلطات بشن حملة ضد تنظيم داعش المتطرف قبل ثلاث سنوات.
ولم تجد إيران بدا من تسلم زمام الأمور بنفسها لمواجهة هذا الخطر الشعبي الجارف، إذ شكلت غرفة عمليات في المنطقة الخضراء وسط بغداد، مهمتها إصدار الأوامر لحكومة عبدالمهدي بشأن كيفية احتواء المحتجين في الساحات عبر العنف الشديد، وتنظيم عمل فرق الاغتيالات لتصفية النشطاء بشكل فردي عندما تتاح الفرصة.
واعتمدت طهران على فرق عراقية مدربة يقودها مستشارون من الحرس الثوري لمطاردة النشطاء واختطافهم واغتيالهم.
ومن أبرز هذه الفرق، ما يُعرف بـ”أمن الحشد”، وهو تشكيل برز في عهد القائد الميداني للحشد الشعبي أبومهدي المهندس، يقوده شخص يُدعى أبوزينب اللامي.
كما شكلت إيران فرق اغتيال من ميليشيات عراقية مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا الخرساني وكتائب الإمام علي، مهمتها مراقبة ساحات التظاهر وتحديد العناصر الفاعلة فيها والتخطيط لاغتيالها.
وسقط خلال هذه العملية العديد من النشطاء العراقيين البارزين، مثل أمجد الدهامات وريهام يعقوب وتحسين الشحماني، وفضلا عن مشاركة جميع هؤلاء في احتجاجات أكتوبر بفعالية، فقد عرفوا بمواقفهم العلنية المناهضة للنفوذ الإيراني السلبي في العراق.
لكن العملية الأكبر في هذا السياق، هي التي نفذتها الميليشيات الإيرانية في العراق ضد الباحث المعروف على نطاق دولي هشام الهاشمي، الذي كان يظن أنه محصن من الغضب الإيراني بسبب مشاركته الفاعلة في التصدي للحرب الإلكترونية التي شنها تنظيم داعش بالتزامن مع احتلاله أجزاء واسعة من البلاد صيف 2014.
وقُتل الهاشمي لأنه تحدث عن دور الحرس الثوري الإيراني في إدارة عمليات قصف السفارة الأميركية التي تنفذها الميليشيات الشيعية بصواريخ الكاتيوشا في بغداد.
واعتبر كثيرون عملية اغتيال الهاشمي، الذي يحظى بشعبية كبيرة في الشارع وفي الأوساط الصحافية والسياسية، إعلانا إيرانيا صريحا بأن انتقاد سياسات طهران في المنطقة خط أحمر يؤدي إلى الموت، بغض النظر عن قيمة الضحية.
ومن هنا يعتقد المراقبون السياسيون أن عملية قتل فخري زادة يجب أن تمثل لحظة مراجعة لإيران بشأن حقيقة أن جميع سلوكياتها السلبية في المنطقة ترتد عليها.
وإذا كانت إيران ترى أنها ربحت من تصفية ضباط وطيارين عراقيين متقاعدين شاركوا في حرب انتهت قبل سنوات عدة، ونشطاء ينتقدون نفوذها السلبي في بلادهم، فإن تكريسها لسياسة الاغتيال كبّدها خسائر لا يمكن تحملها، ولاسيما على مستوى اغتيال سليماني والأب الروحي للبرنامج النووي العسكري فخري زادة.