اخبار الساعة - مجدالدين شكري
في صباح 21 مارس توجهت بمفردي الى كلية الآداب - جامعة تعز شرقي المدينة وفي الطريق استمعت الى أغنية الفنان الكبير أبو بكر سالم "شلنا يابو جناحين" .. على الأرض عمليات القتال تتصاعد في الأطراف الشرقية من مدينة تعز بين الحوثيين والقوات الموالية للحكومة المعترف بها دولياً خلال الأيام الأخيرة ، حيث يكرر الحوثيون مهاجمة مواقع قوات الحكومة بغرض السيطرة عليها.
امام بوابة الكلية وبين سيارات الطلبة ركنت سيارتي وأطفأت المسجل بينما كان صوت آخر يضج بالقرب من الكلية ، وجدت زميلي مراسل الجزيرة مباشر نائف الوافي وقد ادخل سيارته الى حرم الكلية واخبرته ان هذه الاصوات غير محسوبة وقد كانت الساعة الثامنة هز رأسه ليبدي موافقته في رأيي ، يتبعنا الدكتور الذي سندخل معه المحاضرة سوياً وكان يرتدي قميصاً اسود وفي المحاضرة قدم عروضه للطلبة المرضى ان لا يحضروا الى الكلية تحسباً من انتشار فايروس كورونا.
بدأت ثُلة من الفتيات داخل مبنى الكلية بتجهيز بازار خيري لصالح مرضى السرطان الذين يعانون من اوضاع صعبة مع المرض أملاً بمساعدتهم ، كانت هناك الكثير من المأكولات اللذيذة التي صنعتها الفتيات في المنازل وقد ابتاع الطلبة الكثير من تلك المأكولات ، تناولت ساندوتش السلطة والمايونيز مع البطاط المحمر وحبات "الخمير" اكلة محلية ، كان الطلبة ممتنين لأصحاب فكرة البازار الخيري وانهم وفروا على طلبة الكلية عناء الخروج الى الشارع والبحث عن وجبة الفطور في المطاعم والكافتيريات ، استمر البازار وعاد بعض الطلبة الى محاضراتهم وفي الساعه AM11:19 هز إنفجار ضخم مبنى الكلية.
صمت مفاجئ لم تشهده الكلية منذ 20 عام عندما افتتحها عبدربه منصور هادي وحينها كان نائب لرئيس الجمهورية ، مرت اكثر من خمس ثوان في ظل صمت مخيف وحبس للأنفاس في الداخل بينما الغبار يتصاعد في الخارج ويحجب الرؤية لمشاهدة ما يحدث ، كنت مع زملائي في قاعة دراسية تحت الأرض نستمع للدكتور الذي يحدثنا عن التوثيق الإعلامي الرقمي ، خرج الزميل احمد باشا مصور الوكالة الفرنسية والى جانبه خرج ثلاثة آخرين من الطلبة وكنت حينها انا اتفهم الوضع واحاول تخمين موقع الإنفجار لكنني تعمدت الصعود من القاعة الواقعة تحت الأرض وفي السلالم وجدت العشرات من الطالبات يهرعن نحو الأسفل وهن في حالة ذعر ، تعالت اصوات صراخهن بقوة مع البكاء بشدة فيما واحدة منهن حاولت الجلوس على السلالم وهي تبكي وقد ازاحت النقاب عن وجهها دون خشية من ان يشاهد وجهها الطلاب ، كنت وحدي في السلالم فيما جميعهن فتيات وكانت جميلة حتى ان احمر شفاتها لم يكن مبالغاً ، حاولتُ ان اهدئها وبقية الفتيات الطالبات وانا اخطف بقدمي السلالم للوصول الى باحة الكلية ومشاهدة مايحدث.
كانت الباحة تعج بالطلبة المذعورين من الإنفجار وهم يشاهدون عموداً من الغبار والدخان يتصاعد من امام بوابة الكلية حيث سقطت قذيفة وقتلت شخص أعزل كان يجلس على دراجته النارية ينتظر راكباً يوصله الى وجهته بأجر زهيد ، سقط اربعة اخرين جرحى ايضاً بجواره.
في منتصف باحة الكلية وبين عشرات الطالبات المذعورات اللاتي يشاهدن اعمدة الدخان والغبار المتصاعد امامهن جراء انفجار القذيفة رأيتُ طالبة شابة مكفوفة "عمياء" يعتري الذعر والقلق جسدها وملامحها بدت مهدودة وكأنها تشاهد كل شيءٍ يحدث ، كان الوضع صعباً للغاية ، تسائلتُ في نفسي ؛ هذه فتاة عمياء ويظهر عليها كل هذا الذعر والقلق دون ان تشاهد ما حصل كيف سيكون وضع الاخرين؟!
اقتربتُ من بوابة باحة الكلية والدكتور احمد العامري نائب عميد الكلية يجهش في وجوه الطلبة ويدفع يديه الى الأمام مع صراخ يحرص على إبقاء الطلبة في مأمن داخل مبنى الكلية ، كان يبدو كالحارس المسؤول يريد التخفيف من الخسارة الكبيرة للكلية وللمدينة.
نفذ العشرات من الطلاب الى حرم الكلية وهم مترددين في التقدم بإتجاه البوابة الرئيسية للكلية بسبب الخوف من سقوط قذيفة اخرى وكنت اخشى من وقوع مجزرة في صفوف الطلاب.
عاد الزملاء المصورون وهب الدين العواضي ورافت الوافي من بوابة الكلية وقد التقطوا صوراً للضحايا الذين سقطوا فيما القهر المخلوط بالخوف على وجوههم.
على سلالم العودة الى القاعة الدراسية الواقعة تحت الارض ازداد عدد الطالبات وكان الطلاب الشباب يدفعون بأكياس بلاستيكية مملؤة بالماء لصبها على وجوه الطالبات المهلوعات وبعض ممن اصبن بالهبوط المفاجئ عدت لأخبر الدكتور بطبيعة الوضع في الأعلى وفي الخارج لكنه كان منهمكاً في الحديث عن الدرس والطلبة شاردين في ذهونهم من هول ما حدث.
مرة اخرى صعدت السلالم الى الأعلى اترقب الوضع وعند العودة وجدت طالبة هاوية للتجميل تضع النقش على بنان وأيدي الطالبات اللاتي أُصبن بالهلع والذعر تحاول طمئنتهن فيما طالبة اخرى في الثامنة عشر من عمرها انهارت بهبوط حاد وتحاول صديقاتها إنعاشها.
الكل مذعور داخل كلية الآداب في تعز والقذيفة التي سقطت امام بوابة الكلية تسببت بإنهيار معنويات الطلبة جميعهم وحددت ما يمكن لهم فهمه من جديد مع روائح البارود وسحائب الدخان السارية فوق رؤوسهم ، لم يهدأ الوضع وحين خرجنا من الكلية وجدت القذيفة قد تسببت بأضرارٍ جسيمةٍ في نفوس الجميع والى جانب نفسيتي سيارتي ايضاً تضررت حيث سقطت القذيفة بالقرب منها وشوهتها.
لعل البازار الخيري لصالح مرضى السرطان كان قد جذب الطلبة اليه ومنعهم من الخروج من بوابة الكلية والتواجد بجواره وإلا كانت ستحصل مجزرة مروعة تفجع قلوب آلاف الأمهات ممن ينتظرن ابنائهم ان يعودوا من كلية الآداب للإحتفال بعيدهن اليوم 21 مارس.
لن يهدأ الوضع ولن يستقر لا شرق المدينة ولا غربها ، البلد محكوم بالحرب وقتال الغرب للشرق والشمال للجنوب ، لن يهدأ ضجيج المدافع ونحن نبتعد عن الوسط في الحل وفي القضية .. تعز لا يزال ينتظرها الكثير من امواج الساحل الهائجة تتلطمها وضغائن الجنوب الموجهة وسيول الجبال الشمالية لن تروي تربتها هذا الصيف او الذي يليه .. المدينةُ ثقبٌ أسود..!
#تعز
2021/3/21