ما من شك أن الزمن الثقافي والفكري العربي في عصرنا الراهن هو زمن راكد، وتاريخنا السياسي – الاجتماعي المعاصر لم يشهد تحقيقاً مادياً وترسيخاً أو تثبيتاً للمطالب النهضوية التي عبّر عنها ودعا لها الاصلاحيون والمنوّرون العرب في عصر النهضة الحديثة، في حين أن المجتمعات العربية المعاصرة لم تنجز تنمية اجتماعية وثقافية واقتصادية وتعليمية تقضي على الأمية والجهل والتخلف، كذلك لم تحقق ثورة ديمقراطية تلغي الاستبداد والاضطهاد السياسي وتؤمن الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين العرب.
وزيادة على ذلك فأن الراديكاليات العربية على اختلاف تشكيلاتها وألوانها وأطيافها،أهملت الفكر التنويري النهضوي وادّعت تخطّيه وتجاوزه.
ومن الظواهر الايجابية في حركة الواقع العربي الراهن الذي يعج بالتناقضات وظاهرة العولمة المتوحشة، وحالة الكسل العقلي والجمود الفكري، أن الوعي للحاجة الى الديمقراطية، وحقوق الانسان، وحرية الرأي والتفكير والتعبير والضمير، وحرية الابداع والممارسة الديمقراطية تطرح مسألة الديمقراطية أكثر من أي مرحلة سابقة في تاريخ الفكر العربي المعاصر ، ويعود ذلك الى أزمة الديمقراطية التي تعيشها الأقطار العربية كافة، لأنه حين تتعثر الديمقراطية نجد واقعاً اجتماعياً يفتقر الى الحياة الثقافية الناشطة المتطورة.
واللافت للنظر والانتباه أن هناك كوكبة من المبدعين والمثقفين العرب يطرحون السؤال حول العلاقة بين الديمقراطية والثقافة، وأيضاً الارتباط المباشر والعميق بين الديمقراطية وعملية الابداع والانتاج الثقافي، معتبرين الديمقراطية بمثابة الهواء النقي وأكسجين الحياة والركن الأساس للثقافة الحقيقية الأصيلة والجديدة المعافاة.
وفي حقيقة الأمر أن أشد وأقسى وأعنف أنواع الحصار الذي يواجه الأعلام العربي والحركة الثقافية والفكرية العربية ويهدد الحرّيات في زمن الخوف والتكفير، هو حصار الأصوليات الدينية للفكر الديمقراطي العربي، ومنذ عقود طويلة لم يتعرّض العقل العربي الاسلامي لارهاب ذاتي من داخله كما هو الحال اليوم . والمفارقة الأليمة والمريرة أن ما أصطلح على تسميته بـ "الصحوة الدينية" لم تكن صحوة عقل متحرر ناقد متسائل كما ينبغي، وأنما هي صحوة ماضوية سلفية معادية للعقل والتفكير الحر وبعثاً لمذهبيات وفتن تاريخية . كما أن الخطاب الديني المعاصر للقوى الأصولية والاسلاموية لم ينجح في ملء الفراغ في الحياة الثقافية والفكرية العربية، التي تملأها بأضطراد الشعوذات السياسية والدينية وتقديس الأشكال الماضوية. ولا ريب أن تمجيد القوى الدينية المتطرفة للماضي هي دعوة تهدف الى تهديم الحاضر بدون القدرة على تقديم مشروع سياسي ـ اجتماعي، وأن كل من يحمل فكراً أصولياً فأنه بعيد عن عالم الابداع الحر ويعادي الديمقراطية والثقافة التقدمية المتنورة والحضارة الاسلامية السمحة التي تحمل ملامح انسانية ديمقراطية شجاعة تدهش جميع المثقفين والمفكرين العرب، ويعادي الثقافة العربية المعاصرة وقوانين التطور وطموحات الشعب للتطور الاقتصادي والثقافي والعلمي . كذلك فأن حرية الابداع تتعارض مع قيود أية سلطة ويجب أن تكون هي السلطة العليا الحرة المتمتعة بكامل الحريات الأسمى من سائر السلطات الدينية والمدنية.
وفي الحقيقة ، أن التعرض للمقدس في التراث العربي الاسلامي معروف وله جذوره ونصوصه، منذ العصر الاسلامي الأول والوسيط والحديث، والكثير من رجالات الأدب والفكر والفلسفة المخضرمين طرحوا الأسئلة العديدة أزاء المقدس وعارضوه، وكل واحد منهم عارضه على طريقته الخاصة، منهم: أبو العلاء المعري وابن الريوندي وابن المقفع وأبن رشد والفارابي، وغيرهم.
أن الثقافة هي حالة ابداعية لا ترتبط بالفعل السياسي المباشر، وسيطرة السياسي على الخطاب الثقافي يقتل الفعل الثقافي، وفي الحركية العلمية تتبدى أهمية الديمقراطية باعتبارها نتاجاً ثقافياً وشرطاً لتحرك الثقافة نحو افاق جديدة.
ختاماً، فأن مهمة الثقافة والمثقفين في هذه المرحلة الحالكة التي تتصاعد فيها وتائر القمع والارهاب الفكري بشكل متسارع من قبل فرسان الجهل والظلام والمجموعات المتطرفة وقوى التكفير والهجرة، التي بلغت ذروتها مع اغتيال ومقتل المفكر العلماني فرج فودة على خلفية أرائه الفكرية وكتابه " الحقيقة الغائبة"، وفي زمن الانحناءات العربية وظلال مدرسة الوعظ الأميرية التي تعتمد الرقص والغنج والدلال، المهمة هي خلق ثقافة ثورية جديدة تؤسس لوعي مضاد لسلطة سياسية تنطوي على معاداة الديمقراطية، بالاضافة الى اعادة وأحياء وبعث الحركة الفكرية التنويرية والابداعية الجماعية العربية ضمن مناخ من المساواة والتعددية والحرية لكل فرد من أفراد المجتمع، لأن أهم سمات ومزايا التفكير العلماني تنمية القدرة النقدية والتحرر من الأحكام المسبقة ما يمكّن حركة التفكير أن تتجاوز نفسها في جدلية متصاعدة نحو اكتشافات وابداعات جديدة ومتجددة بينما الديمقراطية تتغذى بهذا التفكير وهذه الثقافة وفي الوقت ذاته تشكل التربة التي تغذيهما.