استجمع شاب شجاعته وانطلق منخفض الرأس في شارع تناثرت فيه فوارغ الأعيرة النارية بمدينة حلب السورية في الوقت الذي كان فيه أحد المعارضين يوجهه من خلال مكبر للصوت.
وقال المعارض عبر مكبر الصوت "لا تعدو نحو اليمين! ابق في اليسار. والآن انطلق.. اركض.. اركض!".
وانطلقت رصاصة من بندقية أحد القناصة واختفى الشاب الذي يرتدي قميصا وردي اللون وراء صف من الحافلات المتفحمة التي وضعت على طول الطريق للاحتماء بها. لكن الرصاصة أخطأت هدفها وتهللت أسارير مقاتلين يقفون عند الطرف الآخر للشارع.
وفي حلب أكبر مدن سوريا وجد المعارضون الذين يقاتلون من أجل الإطاحة بالرئيس بشار الأسد سبلا لتدمير دبابات القوات الحكومية وتمكنوا من الحفاظ على مواقعهم رغم الهجمات التي تشنها الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر.
غير أنه بعد مرور أربعة أشهر على بداية حملتهم الرامية للسيطرة على حلب - التي تتألف في معظمها من أبراج خرسانية - يلقى الكثيرون حتفهم برصاص قناصة الأسد المنتشرين على أسطح البنايات الأمامية بل وفي داخل مناطق المعارضة.
ولا يزال الجمود يهيمن على الوضع في المدينة.
وقال أبو سيف وهو معارض (23 عاما) يرتدي سروالا من الجينز وسترة للتمويه "عندما يتمركز أحد القناصة في مبني يمكن حينئذ أن نستغرق أسابيع في السعي وراء شخص واحد فقط."
في أواخر يوليو تموز الماضي شق المعارضون المسلحون ببنادق وصواريخ محلية الصنع طريقهم إلى حلب وسيطروا على معظم المنطقة الشرقية من المدينة في أيام.
وبعد ذلك تمكنت القوات الحكومية من وقف تقدمهم وعجزوا عن السيطرة على وسط المدينة ليصيروا محاصرين بين المطار في شرق المدينة والأحياء الغربية التي يعسكر فيها جنود من الجيش السوري وميليشيات موالية للأسد.
ولم يثمر هجومهم الأخير الذي وصف مسبقا بأنه "معركة حاسمة" إلا عن تضرر السوق القديمة والجامع الكبير الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثامن دون تحقيق مكاسب كبيرة للمقاتلين المناوئين للأسد.
وفي الوقت الذي كان فيه المعارضون يوجهون مدنيا آخر للهروب من القناصة هز شاب رأسه وهو يراقب المشهد عن قرب.
وقال الشاب الذي طلب عدم ذكر اسمه "يقولون إنهم يحررون شارعا. ولكن في هذه الأيام لا أعتبره خاضعا لسيطرة المعارضين إذا كان هناك قناص بداخله."
وأضاف "إذا لم تستطع التحرك علنا في المناطق المفترض أنها خاضعة لسيطرتك فإنت لست حرا."
ويبدو أن قوات الأسد الأفضل تسليحا تستعين بمعظم القناصة في حربها مع المعارضة. ويمتلك المعارضون أيضا عددا قليلا من الأسلحة عالية الدقة ولكن معظم أسلحتهم عبارة عن بنادق لا تصيب الأهداف بعيدة المدى بإصابات خطيرة.
وحلقت طائرة مقاتلة في سماء حلب قبل أن تقصف منطقة تابعة للمعارضة لتحدث انفجارات مدوية تصم الآذان.
ولا تزال مثل هذه المعارك القوية تندلع بين قوات الأسد ومعارضيه الذين يكافحون من أجل الإطاحة به منذ أكثر من 19 شهرا.
غير أن الحرب تتجه بشكل متزايد إلى حرب استنزاف.
وداخل المدينة يظهر حي بستان الباشا وقد تحول الى خراب لا يضم إلا مبان مهدمة لم يحقق فيها المعارضون سوى تقدم طفيف في الأسابيع الأخيرة.
وعندما أطلق القناصة رصاصاتهم على المكان الذي يحتمي به المقاتل نجم الدين نفث دخان سيجارته وهو يرد بإطلاق النار من سلاح مضاد للطائرات تابع لوحدته.
قال نجم الدين في نبرة تنم عن إحباط شديد "انظروا! لقد صارت حرب قناصة .. هذا أمر ممل للغاية!". وضحك زملاؤه المقاتلون ضحكة ساخرة وهم يجلسون على الرصيف الذي تعرض للتدمير.
وتنهد نجم الدين قائلا "هذه مجرد علامة على أن هذه الحرب قد تستغرق أعواما. لقد استغرق الأمر منا أسابيع للوصول إلى هذه الزاوية من على مسافة خمسة مبان". ذلك أن القناصة الذين يتمركزون في أماكن قريبة حالوا دون تقدم وحدته نحو مبنى تابع للقوات الأمنية لأيام.
وكانت الخسائر المادية الناجمة عن تقدم المعارضين في أحياء مثل بستان الباشا كبيرة. فالمياه المتسربة من الأنابيب المنفجرة أغرقت الشوارع التي تناثرت فيها كتل الخرسانة والأسلاك. وتتدلى جدران بأكملها من طوابق مرتفعة لمبان مهدمة.
أما الخسائر البشرية فكانت أكبر حجما. صحيح أن المعارك الكبرى هنا قد انتهت لكن القناصة ما زالوا يستهدفون المدنيين والمعارضين بصفة يومية.
وقال عمار (34 عاما) وهو معارض يحمل أسلحة خفيفة "الأمر المهم هو أنك لا تريد لمقاتليك أن يموتون بثمن بخس. نريد أن نموت في معركة وليس هكذا".
وفي مكان قريب تعرض نجم الدين للاصابة بطلق ناري. وفقد نجم الدين إصبعين في معارك الكر والفر هذه ولكنه يقول إن ذلك لم يوهن عزيمته على مواصلة القتال.
وقال "لا يزال بإمكاني إطلاق النار."
وعلى الطريق أحرق المعارضون إطارات سيارات أملا في حجب الرؤية أمام القناصة وتحذير المدنيين للابتعاد عن المنطقة.
غير أن بعض السكان لديهم من الأعمال العاجلة ما لا يتحمل الانتظار. فهذه شاحنة اخترقها الرصاص وتحمل في صندوقها الخلفي رجلا ينزف أخذت تنحرف يمينا ويسارا حول الإطارات المحترقة مما أجبر اثنين من المتمردين على القفز للابتعاد عن طريقها ثم سارت مسرعة على أحد الجسور في الوقت الذي انطلقت فيه الأعيرة النارية.
وقال معارضون إن السائق ربما كان يحاول نقل الرجل الجريح إلى المستشفى.
وسأل أحد المارة جمع من المقاتلين "هل نجح في ذلك؟". ورد عليه مسلح ينظر إلى الطريق ويهز رأسه قائلا "الله أعلم".
(إعداد عبد المنعم درار للنشرة العربية - تحرير أحمد حسن)