تحدثت في المقال السابق عن القرار الوزاري ( 426 ) القاضي بمنع استخدام العقوبات النفسية والجسدية ضد الطلاب، وكنت أود من المعنيين بإصداره التأمل في مسببات الظاهرة، وهي لا تتعدى أحد سببين: إما أن المعلم ليس مؤهلا لدوره المهم في العملية التعليمية، وحمل هم صناعة المستقبل. وإما أن يكون ما يلقاه من منغصات الواقع و الضغوط النفسية - الداخلية والخارجية- لا يطيق معها ما يبقيه متحكما في أعصابه رغم كفاءته.
فالأول: أُهْمِلَ وأَهْمَلْ. والثاني: أَخلص ولم يُخلص له.
فأما الأول: فقصته طويلة، وقد بدأت مع قرار كان حكيما في فكرته، ولكن جانب الصواب تنفيذه، ففي عهد إحدى حكوماتنا السابقة قُرر يمننة التعليم، وكان أن استبعد الأكفاء من الأشقاء المصريين والسودانيين والسوريين وغيرهم، وأُحِلَّ محلهم خريجو الثانوية من اليمنيين، وحلَّت البلوى، فغالبية من سُلِّموا بناء جيل المستقبل كانوا في أمسِّ حاجة للتأهيل العلمي التربوي، فحملوا الأمانة وكثير منهم غير مدرك لقيمتها وما ينبغي عليه إزاءها، وفاقد الشيء لا يعطيه.
فلا أدري على أي أساس وطني طبقت الفكرة، أمن أجل استيعاب خريجي الثانوية، أم من أجل توفير مال للخزينة العامة فليته ذهب للوطن..؟! ألم يك من الأجدى قبل تنفيذ القرار- رغم وطنيته- التأني في تنفيذه بوضع استراتيجية تحدد الكم المطلوب للإحلال ومدة سنوات استيعابه المتدرج، فتوسع مطورة معاهد المعلمين والكليات، فتأهل –بحسب الدراسة- لكل عام عددا محددا ممتلكا لأدوات التربية والتعليم السليمة والمتقدمة، فتنفذ الفكرة على مراحل زمنية تحقق غايتها وتؤتي أكلها بأمر حكومتنا الرشيده.
وللأسف فقد حصل ما حصل، وأتمنى رغم -الإحباط- أن يكون الكثير من المعلمين قد اكتسب الخبرة من الممارسة والتجربة في الميدان العملي، آملا من حكوماتنا أن تتدارك ما بقي فتكثف من دورات التأهيل، وإكسابهم المزيد من الخبرات والأساليب العلمية الحديثة المتسقة والتطور المتسارع للحياة من حولنا.
وأما الثاني: فذو كفاءة، ولكنه يدخل الفصل محزونا مغموما، الهموم جاثمة على صدره، والديون تثقل كاهله، والإدارة المنتفعة تقتل همته، وكل ما حوله يصادر رغبته، فالضغوط النفسية داخل المدرسة وخارجها تصحبه في فصله، فحركة التلاميذ تضايقه، وأصواتهم تزعجه، وقلة فهمهم تغضبه، وهو –غالبا- شارد الذهن، مشتت الفكر، حاضر بجسده، غائب بروحه، يتحدث الطالب فلا يتحمله، ويخطئ الآخر فلا يرحمه، لذا كثيرا ما ينفث مكنونات غضبه على أجسام طلابه.
أليس حميدا أن تنظر الحكومة إلى حال هؤلاء ممن يُصنع مستقبل البلد على أيديهم، فتعمل على تحسين ظروفهم، مما يعينهم على الانتاج. أليس في توجيه ما يُصرف على السلاح وما يسمى بشؤون القبائل -مثلا- الصواب في توجيهه لتحسين معيشة هؤلاء؟!! ألا يستفاد من تجارب دول كاليابان وماليزيا وغيرها نهضت بسبب اهتمامها بتحسين حال المعلمين ماديا وعلميا وتربويا؟! من منطلق أن مدماك التربية والتعليم هو أولى مداميك التأسيس السليم في البناء الوطني.
ثم لما كانت الإدارة المدرسية من أهم أسس مكونات العملية التعليمية، ولما كان الواقع يشهد أن مدراء المدارس فاسدون إلا من رحم الله -وهم قلة-، فالشهادات تباع بحسب مستواها، والمعلمون حاضرون وهم غائبون أو مغتربون و.. و...فحدث ولا حرج، أجد من الواجب الوطني بل والشرعي: أن يُعاد النظر في كل الأسماء فمن كان مخلصا لله وعمله، مستشعرا حجم المسؤولية الوطنية، يثاب ويكرم، لما في ذلك من تحفيز لمعنوياته واستنهاض لقدراته، ومن كان غير ذلك -وما أكثرهم- فليحاسبوا بكل شفافية ومصداقية، فمن تورط فيكفيه ما أخذ وما ضيع، ويزاح ليحل محله من هو جدير بذلك، وهذا ينسحب من إدارة المدرسة إلى مدير المركز التعليمي إلى إدارة التربية والتعليم بالمحافظات بجميع أقسامها وصولا إلى إدارة الوزارة، بشرط: أن توضع معايير أكاديمية علمية تربوية وطنية تكون هي المقياس العملي لإزالة الشوائب والطفيليات المؤدية لتخلف الوطن وضياع مستقبله.
مؤكدا وبقوة: على أن يكون المعيار الوطني والكفاءة البعيد عن الحزبية والطائفية والمناطقية والفئوية هو المعيار الحقيقي في التطبيق، وإلا فإننا ندور في حلقة الفساد المفرغة، ونصر على حرمان الوطن من المستقبل الذي ضحى لأجله الأحرار والشهداء بأعز ما يملكون في كل الثورات اليمنية، معلنين أننا نرحب بمضاعفة ما قد ضاع منا، مستحلين مذاق التخلف، قابعين في دائرة التجهيل الرسمي والشعبي.
لا زلت على يقين أن وضع استراتيجية ثورية تنتشل واقع المؤسسة التعليمية من محيطها المزري، مدعومة بمساندة رسمية: ممثلة في الحكومة وخاصة المالية والإعلام. وشعبية: ممثلة في الأحزاب والمنظمات والهيئات والمؤسسات بما فيها القطاع الخاص، يُعتمد في ذلك على دراسة تُكلف وزارة التربية والتعليم إعدادها وتقديمها للجهات المعنية، ونشرها على الملأ والانتقال بتنفيذها بحسب مراحلها الزمنية المقترحة، وبتعاون الجميع ممن يستشعر الهم الوطني، لنصل في زمن قريب إلى اليمن الذي نريد.