اخبار الساعة - د.طارق الحروي
- وبهذا المعنى فإن جوهر التغيير أو الإصلاح والتحديث المنشود لا يقوم فقط بإحياء الأصول الاقتصادية ورؤوس الأموال الميتة التي لا يستخدمها أحد ولا ينتفع بها أحد ولا يعيد استثمارها أحد، وإنما إحياء الأصول السياسية ورؤوس الأموال البشرية في المجتمع، من خلال السعي الدءوب والمنظم وراء ضرورة إعادة ضخها في النظام السياسي والاقتصادي القائم في البلاد.
- ومن هنا فقد أصبح من الواجب علينا العمل الجاد والمنظم على ضرورة إحياء رأس المال السياسي والاقتصادي معا، لأنه بدون ذلك- كما- تشير معظم الدلائل التاريخية لم ولن تتقدم عملية الإحياء الاقتصادية سوى خطوات فقط وبعدها سوف تتعرض إلى انتكاسة حادة حتمية، كي تعود إلى ما كانت عليه، جراء استمرار بقاء أجزاء مهمة وواسعة من فئات المجتمع وما تتمتع به من طاقات وقدرات هائلة بعيدة عنها، سيما أن الإصلاح الذي نحن سائرون في اتجاهه بحد ذاته ما هو سوى عملية جراحية موضعية تدخليه عميقة، تفرضها الحالة العامة للأوضاع الرئيسة نفسها التي تعيشها البلاد في الزمان والمكان المحددين، قيل عنها في تجارب بلدان أخرى أنها تجرى بدون تخدير.
- وفي نفس الوقت فإن إمكانية الوصول إلى النتائج المرجوة من هذه العملية لن يتم ما لم يتم التراضي السياسي عليها من خلال اتفاق سياسي- على أقل تقدير- أو حوار وطني شامل- على أكثر تقدير- يقوم على أساس تغليب المصلحة الوطنية العليا؛ تهدف- بالدرجة الأساس- إلى محاولة تحفيز ومن ثم إطلاق الموارد والطاقات المتاحة والكامنة في المجتمع في اتجاه الحصول على تأييدها للعملية الإصلاحية الجارية ومن ثم ضمان انخراطها في أتون العملية التنموية بشقها السياسي كمدخل أساسي لولوج العملية التنموية بكل أبعادها المنشودة.
- ومن هذا المنطلق نجد أن هذا النوع من رأس المال السياسي المفقود يمكن إسقاطه على الحالة اليمنية، فهو موجود وبغزارة، جراء استمرار تنامي الجمود والانحراف في العملية السياسية برمتها عن مسارها الطبيعي المحدد لها منذ مطلع عقد التسعينيات عندما تم اختصار العملية التنموية الشاملة والمستدامة إلى التنمية السياسية وتم اختصار العملية التنموية بشقها السياسي إلى مجرد حراك حزبي شكلي ليس له علاقة وثيقة الصلة بطبيعة ومستوى ومن ثم حجم حقيقة ما يعج به الواقع اليمني من إمكانات وطاقات برزت بعض أهم معالمها الرئيسة في أتون الأزمة الحالية.
- وكذا بسبب وجود منظومة شبه متكاملة من العوائق والعراقيل الرئيسة التي حالت دون إشراك فئات مهمة جدا من المجتمع أو تمثيلها تمثيلا مناسبا كـ(الشباب، المرأة،...الخ) على سبيل المثال لا الحصر على الرغم من أنها تشكل النسبة الكبيرة والأكثر أهمية فيه، إذا ما تسنى لنا القول ذلك كـ(التقاليد والأعراف، التخلف السياسي، الضعف في ثقافة المواطنة، الظروف الاقتصادية الصعبة، هيمنة القوى التقليدية المحافظة والمتطرفة،...)، بصورة أفضت- في نهاية المطاف- إلى استمرار بقاء كما ونوعا هائلا من رأس المال السياسي في اليمن مفقودا أو غير مستخدم أو ميتا.
- لأنه ببساطة لم يستخدم ولم يتم تدويره بالسرعة والكفاءة والفاعلية اللازمة للخروج من أتون المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد منذ ما يقارب العقدين إلى مرحلة الدولة المدنية الحديثة المنشودة، سيما في ضوء ما أفرزته تجربة الانتخابات النيابية في الأعوام 1993م و1997م و2003م على سبيل المثال لا الحصر من مؤشرات بهذا الشأن، أكدت على أن نسبة مرشحي المستقلين في الثلاثة الدورات الانتخابية أمام كافة القوى السياسية (حزب حاكم ومعارضة) تصل إلى 74%، وبغض النظر عن نسبة المقاعد التي حصل عليها المستقلين.
- ومن الجدير بالذكر في هذا الشأن أن التجربة اليمنية على مدار عقدين من الزمن وبالتحديد في الأعوام 1994م و2006م و2009م، على سبيل المثال لا الحصر التي توجت في العام 2011م منذ 25/3/2011م لحد الآن، في ضوء استمرار تنامي حالات توسيع دائرة المساندة والالتفاف الكمي والنوعي حول الشرعية الدستورية، قد أثبتت أن هنالك رأس مال سياسي هائل وقوى يدعو للتفاؤل والأمل ولديه استعداد لتحمل تبعات عمليات التغيير أو الإصلاح والتحديث المنشودة للواقع المعاش في كافة النواحي، من خلال تقديم تنازلات كثيرة تحسب لصالح تغليب أولويات المصلحة الوطنية العليا.
- على عكس ما كان سائدا من ظن وشبه قناعات لدي الكثيرين من عناصر النخبة في المجتمع بأن الجماهير كانت ومازالت غير مستعدة لولوج مرحلة النظام والقانون المنشودة، المدخل الأساسي والوحيد لولوج مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة، على خلفية وجود العديد من المؤشرات والدلالات بهذا الشأن، سيما تلك التي تتعلق بتفسير بقاء الجزء الأكبر والمهم من فئات الشعب بعيدا عن الحياة السياسية- الحزبية منذ مطلع النصف الثاني من عقد التسعينيات؛ جراء هيمنة القوى التقليدية المحافظة والمتطرفة (حزب التجمع اليمني للإصلاح) وشركائها على معظم مصادر القوة والقدرة في البلاد منذ العام 1994م، سيما في ضوء ما تؤشره عملية التعديلات الجوهرية التي جرت في وثيقة الدستور 1995م وما بعدها من نكوص حاد في العملية السياسية والتنموية برمتها.
- في حين تكمن أهمية هذا الأمر كله في أن استمرار بقاء واقع الحياة السياسية- الحزبية على حاله دون تغيير جذري يطاله في أدق التفاصيل؛ سوف يظل العائق الأساسي أمام أية إمكانية لتفعيلها بجذب الجزء الأكبر والمهم من الفئة الناخبة للميدان السياسي مفضلة الإبقاء على نفسها بعيدة عنه مثلما سار عليه الحال في العقدين الماضيين، وفي نفس الوقت قللت كثيرا من إمكانية انفتاحها السياسي على بعضها البعض وفيما بينها وبين باقي أبناء الأمة؛ بصورة سوف نظل بموجبها ندور في حلقة شبه مفرغة ندعي بموجبها تمثيل الأمة ونحن في حقيقة الأمر لا نمثل سوى ذلك الجزء اليسير منها.
- فوفقا- لما تشير إليه العديد من الدلائل التاريخية أن كافة الأحزاب السياسية اليمنية وكلا من (المؤتمر الشعبي العام، حزب التجمع اليمني للإصلاح، الحزب الاشتراكي) منها- بوجه خاص- على سبيل المثال لا الحصر لم تستحوذ بكل ما تمتلكه من قدرات سياسية ومجتمعية وتنظيمية وتعبوية ومالية ودعائية والنفسية...الخ، إلا على الثلث أو يزيد قليلا من أعداد الهيئة الناخبة المسجلة في كل الفعاليات الانتخابية البرلمانية والمحلية على مدار العقدين الماضيين.
- بصورة تحمل معنى كبير بعنوان واضح أن هنالك رأسمالا سياسيا هائل وكبيرا جدا ومتاحا لمن لديه النية والرغبة ومن ثم القدرة والاستعداد التام للاغتراف منه؛ من خلال قوي سياسية فاعلة وقيادات وطنية شابة جديدة وأفكار وسبل ومن ثم برامج تنفيذية مزمنة جديدة، تستطيع أن تخرج هذه الفئات من المجتمع عن صمتها وتحفظها (السلبي) بكفاءة وفاعلية ومن ثم اقتدار عالي وتدفعهم بقوة إلى أتون العملية السياسية والتنموية المنشودة.
- وعودا إلى بدء أود القول أن وجود رأس مال سياسي هائل في البلاد مازال معطلا لحد الآن، إلا أن المشكلة بحد ذاتها لا تكمن في إمكانية أحياؤه عن طريق إحداث التغيير المطلوب أو الإصلاح والتحديث فحسب مثل الاقتصادي، وإنما الأخطر هو أنه يمكن إحياؤه من خلال قوى أخرى مناوئة ومناهضة للتغيير ولقيام الدولة المدنية الحديثة المنشودة من الأساس، التي يتوقع أن تستغل استمرار تنامي حالات التردد والتأخير في عمل ما يجب عمله، لكي تأخذه في الاتجاه الذي تريده، بصورة تؤشر أن الأوان بالفعل قد حان لاتخاذ قرارات صعبة ومصيرية في اتجاه إحياء كل رؤوس الأموال السياسية والاقتصادية في البلاد دفعة واحدة.
- مع ضرورة الإحاطة بأمر أخر ألا وهو أن الخطط الحالية للمضي قدما في الإصلاح السياسي في ضوء خارطة الطريق الجديدة- استنادا- لحيثيات المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية المزمنة، من خلال تغيير الدستور وشكل النظام السياسي والنظام الانتخابي وإعادة تأهيل الحياة السياسية والحزبية برمتها كي تستوعب كافة الفاعلين في الساحة...الخ، لن تحرر سوى الجزء المهم والأكبر من رأس المال السياسي أما لماذا ؟ نرد بالقول على ذلك لان الجزء الأخر سيبقى رهن بالنوايا والإرادات اللازمة لترجمتها إلى أفعال عظيمة- استنادا- لأولويات المصلحة الوطنية العليا والمحاط بصورة دائمة بذلك النوع من التردد المشوب بالحذر الشديد عن طبيعة ومدى مصداقية هذا الأمر من الأساس.
- وأخيرا بما ان قدرات القوى السياسية الناشطة في الساحة بأوضاعها الحالية تحتاج إلى وقت طويل كي تدرك حقيقة جوهر التغيير المطلوب فيها بما يتناسب مع الكثير من الحقائق الدامغة في أرض الواقع اليمني التي لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، والذي يجب وليس ينبغي أن يطال الكثير من جوانبها المتعلقة بعناصرها وبرؤاها وتوجهاتها وسياساتها وآليات عملها وطموحاتها التي يجب أن تصب قلبا وقالبا في تجسيد أولويات المصلحة الوطنية العليا، جراء بطأها في اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الشأن.
- ما عدا حزب المؤتمر الشعبي العام إلى حد ما بالرغم من انه تقف أمامه تحديات كبيرة في إحداث هذه النقلة بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة، بغض النظر عما تبديه قياداته التاريخية من نوايا وإرادة ومن ثم استعداد لذلك، سيما أن مردودات هذا الأمر في حال حققت نجاحا مهما فيه سوف تقتصر في الجزء الأكبر والمهم منها على ترتيب أوضاعها الداخلية وأوضاع عناصرها المنخرطين ضمن صفوفها منها- بوجه خاص- بصورة تحول دون وجود أية إمكانية لها في اتجاه احتواء جماهير وشباب المستقلين غير المتحزبين لأية جهة التي تمثل غالبية عموم أبناء الشعب ضمن صفوفها، وبما أن الوقت يسير في غير صالحنا بهذا الشأن.
- فإني أقترح أن يتم احتوائها ضمن تكتل سياسي جديد يمثلها ويكون الناطق باسمها ضمن إطار توجه سياسي يجسد أعلى مستويات تحمل المسئولية الوطنية والتاريخية يقوم على وضع أول لبناته الأساسية من خلال إعادة بلورة المشهد السياسي الحالي والقادم بين ثلاثة تكتلات سياسية (أحزاب التحالف الوطني، تكتل أحزاب اللقاء المشترك، تكتل المستقلين) بصورة يتم ترجمتها على الفور في خارطة تقاسم مصادر القوة والثروة في البلاد الدائرة رحاها بين التكتلين القائمين، في محاولة منا لتحقيق أمور عدة يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمها الرئيسة في اتجاهين رئيسين- على أقل تقدير.
- يهدف الأول إلى ضمان احتواء رؤيتها ومواقفها ومصالحها ومن ثم استيعاب أفرادها بصورة مقننة باعتبارهم ثروة وطنية خام لرأس المال البشري في المجال السياسي ضمن صيغة وطنية تبقيه ضمن نطاق حدود المصلحة الوطنية العليا بصورة تقطع الطريق نهائيا عن القوى السياسية من توظيفه في مؤامراتها وخططها التي لم تخفى على أحد فقط لا غير، وعندما تأتي اللحظة التي من خلالها يتم قطف الثمار تتنصل هذه القوى من أية التزامات تجاهه وتنصب اهتماماتها نحو عناصرها فقط وهذا ما حدث ويحدث وسوف يحدث بالفعل.
- في حين يهدف الاتجاه الثاني إلى الحفاظ عليه في مكان أمن واستمرار تفعيله إلى أن يحين الوقت للاغتراف منه لكل من لديه النية والإرادة ومن ثم الاستعداد والقدرة على ذلك تجسيدا لمصداقية شعاراته قولا وفعلا في تمثيل اليمن دولة وشعبا وتاريخا وطموحا. وللحديث بهذا الشأن بقية ,,,,,,,,,,,
والله ولي التوفيق وبه نستعين ,,,,,
([1]) باحث في العلاقات الدولية والشئون الاستراتيجية وكاتب ومحلل سياسي.
المصدر : الكاتب