اخبار الساعة - د.طارق الحروي
- سيما تلك التحديات المتجذرة في أرض الواقع ويصعب إلى حد كبير احتوائها والتقليل من آثارها ومرد واتها مهما كانت الجهود المبذولة ليس هذا فحسب، لا بل ويستحيل إلى حد كبير تجاوزها أو تجاهلها بهذا الشأن في حال ظلت نطاق حدود رؤيتنا وتفكيرنا في استغلال وتوظيف اللحظة التاريخية الاستثنائية التي نعيشها بما يتفق مع طموحاتنا المنشودة يغلب عليها الطابع التقليدي.
- جراء بقائها محصورة ضمن روى وتوجهات ومواقف وسياسات لم تعد تتجاوب إلا مع الحد الأدنى وما دونه من متطلبات المرحلة الحالية والقادمة، تتخذ لها من واقع الحال المعاش مرتكزا لها بدلا من أن نقفز بها إلى عنان السماء، كي تتسنى لنا الارتقاء بنطاق حدود رؤيتنا وتوجهاتنا ومواقفنا ومن ثم سياساتنا وطموحاتنا المشروعة إلى ذلك المستوى الذي يحقق لنا الحد الأعلى من أولويات المصلحة الوطنية العليا ويراعي إلى حد كبير مصالح الأطراف الإقليمية والدولية المعنية.
- والتي لها علاقة وثيقة الصلة بحقائق متعددة متجذرة في الواقع الداخلي نظاما وشعبا وأرضا، والتي يمكن إعادة بلورتها في أهم ثلاثة مقولات أساسية من حقائق التاريخ اليمني المعاصر لها علاقة وثيقة الصلة بالجغرافية- السياسية على أقل تقدير، تتمحور الأولي حول أن أراضي اليمن التي أعيد توحيدها عام 1990م كانت في الأساس عبارة عن شطر شمالي يمتد على أقل من ثلث إجمالي أراضي اليمن ويقطنه ما يقارب من ثلثي ونيف من إجمالي سكان اليمن، وشطر جنوبي يمتد على أكثر من ثلثي مجموع أراضي اليمن ويقطنه أقل من ثلث مجموع سكان اليمن.
- في حين تتمحور المقولة الثانية حول طبيعة وخصوصية البيئة الجغرافية الشائكة التعقيد التي يعزى إليها توزع خارطة اليمن إلى خمسة أقاليم جغرافية متباينة- على أكثر تقدير- يقطن ما يقارب من الـ85% تقريبا من سكانها في إقليم المرتفعات الجبلية الغربية لوحده، في حين يتوزع سكان اليمن في العموم ما بين ريف وحضر إلى 73% و27% على التوالي، أما المقولة الثالثة فإن لها علاقة وثيقة الصلة بضرورة ضمان تحقيق مقومات تحقيق الأمن القومي اليمني بمعناه الشامل- أولا- وإمكانية الانتقال إلى مصاف الدولة المدنية الحديثة من عدمه- ثانيا، والتي هي محصلة مآل المقولتين السابقتين ونتيجة حتمية لهما، وهنا يكمن بيت القصيد بالتحديد.
- سيما بعدما ما حققته من نجاح منقطع النظير إلى حد الآن في تجاوز آثار وتداعيات الملف السياسي الإقليمي (السعودي- الخليجي) بأبعاده الدولية في اتجاه تحديد مسارات الحل الأمثل لكافة المشاكل والمعضلات الأساسية- وفقا- لأهم الحقائق الدامغة على أرض الواقع الأكثر أثرا وتأثيرا على اليمن ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ظهرت أهم مؤشراته في مضامين وأبعاد (المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة) كما أشرنا إليها في العشرات من مقالاتنا السابقة المنشورة تحت عنوان (قراءة في أبجديات خارطة الطريق الجديدة لإرساء مداميك الدولة البحرية المدنية الحديثة!!) و(اتجاهات جديدة نحو فهم أعمق لحقيقة الأوضاع الحالية في اليمن!!) على سبيل المثال لا الحصر.
- والتي بدونها كانت سوف تبقى أية خطوة في هذا الاتجاه مجرد تجاهل وتجاوز على هذه الحقائق، بصورة أفضت- في المجمل النهائي- إلى إحداث ربط واقعي وثيق الصلة بين أية إمكانية لإحداث نقلة نوعية غير مسبوقة في الحل المنشود للملف السياسي بكل أبعاده في الحياة الرسمية وغير الرسمية وبين حل القضايا الأساسية المتعلقة بحيثيات الملف السياسي الإقليمي (السعودي- الخليجي) بأبعاده الدولية.
- ليس فحسب في اتجاه حل معظم القضايا المصيرية الخلافية العالقة مع جيرانها بعدما نجحت نجاحا باهرا في حسم الجزء الأكبر والمهم من حالات الانقسام والتضارب الإقليمي الحاصل على الجبهة اليمنية- (السعودية- الخليجية) بأبعاده الدولية بعد توقيع اتفاقيات ترسيم الحدود مع كلا من عمان والسعودية في الأعوام 1992م و2000م على التوالي (وارتريا عام 1998م)، وإبداء حسن النية من جانبها مع كافة دول مجلس التعاون الخليجي وصولا إلى الأطراف الإقليمية والدولية صاحبة المصلحة المشتركة المعنية في الكثير من الملفات على أساس من التعاون والتنسيق ومن ثم الشراكة النسبية معها.
- لا بل ونجاحها الأكثر أهمية في تحويل المتغير السعودي- الخليجي بأبعاده الدولية والإقليمية إلى محور ارتكاز في هذا الحل، في ضوء طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الأدوار التي سوف يلعبها في دعم ومساندة كافة طموحات اليمن المشروعة بالانتقال الأمن إلى مصاف الدولة البحرية المدنية الحديثة وولوج مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة من أوسع أبوابها.
- أما عن الشاهد في هذا الأمر برمته يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمه الرئيسة في أمرين أساسين، يدور الأول حول أن إمكانية قيام الدولة المدنية الحديثة المنشودة بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة في الأجزاء الحالية وإقليم المرتفعات الجبلية الغربية منها- بوجه خاص- هو ضرب من المحال، حيث بالرغم من مرور خمسة عقود على قيام ثورتي الـ26 من سبتمبر والـ14 من أكتوبر وعقدين ونيف على توحيد الشطرين، فقد ظلت المناطق الحضرية مقابل الريفية تتوزع بين 27% و73%.
- بمعنى أخر أن اليمن مازالت منطقة ريفية إلى حد كبير وإذا تم مقاربة ذلك بنسب التمدن وعيا وسلوكا علما ومعرفة ثقافة وحضارة من خلال نسبة الذكور إلى الإناث سوف نصل إلى حقيقة مذهلة مفادها إننا نقف أمام شعب ريفي قبلي لا يمت إلى الحياة الحضرية والمدنية إلا بالنذر اليسير في حدوده الدنيا وما دونها ليس هذا فحسب، لا بل وإن ما يقارب مما نسبته من 85 % من سكان اليمن يتمركزون في جزء واحد من البلاد (إقليم المرتفعات الجبلية الغربية) يشكل نحو 15% من مساحة اليمن، في حين تستحوذ بقية الأقاليم التي تشكل 85% من هذه المساحة على ما نسبته 15% من إجمالي السكان.
- بصورة تقلص إلى أدنى حد ممكن عدد الفرص والخيارات المتاحة أمام إمكانية قيام دولة مدنية حديثة من عدمه إلا بشروط صعبة جدا، يستحيل أو يصعب على اليمن مواكبتها، سيما أن السبب الجوهري في بقاء اليمن إلى حد اليوم شبه دولة ريفية بقشور حضرية؛ تسودها القيم القبلية من أعراف وتقاليد عفا عنها الزمن وتعزز قيم العنف والجهل والتجهيل الأمية والتخلف....الخ، بالرغم من مرور كل هذا الوقت الطويل.
- يتمحور حول استمرار تنامي طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الصعوبات أمام الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المعنية لدرجة حالت دون وجود إمكانية لإقامة علاقات تأثير وتأثر متبادلة مع معظم ساكنيها؛ جراء انتشارهم على بقع واسعة ضمن تجمعات بشرية صغيرة ومتوسطة متفاوتة الكثافة والأحجام في مناطق تضاريسية معقدة جدا؛ بصورة يصعب على الدولة مد خدماتها إليها في كافة الجوانب إلا بشق الأنفس، مما أفضى إلى استمرار بقاء جزء كبير من شرائح وأطياف الشعب اليمني فريسة لهذه القيم التي تتعارض قلبا وقالبا مع قيم المدنية والنظام والقانون...الخ.
- وهو الأمر الذي يفرض علينا أهمية لا بل وضرورة إقامة مناطق صهر حضرية جديدة عالية المنتج والجودة بأبعادها الوطنية والاجتماعية والمدنية.... الخ، تقوم بمهام خلق النماذج المطلوبة من الإنسان المدني المنشود بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة، كي يتسنى لها السير في خط مواز مع طبيعة ومستوى ومن ثم حجم التقدم الحاصل في مجال إعمار المناطق الحضرية الجديدة التي تتخذ لها من إقليمي الشريط الساحلي والجزري محور ارتكاز كما سوف نشير لها لاحقا، حتى تتمكن من سد الفجوة الحاصلة بينهما بصورة سريعة ومضمونة .
- في حين يدور الأمر الثاني حول ما أصبح يشكله متغيري الموقع الاستراتيجي والحدود البحرية من ارتفاع متعاظم لرصيد اليمن ذي الطابع الاستراتيجي في الأجندة الدولية والإقليمية، في ضوء طبيعة ومستوى ومن ثم حجم التحديات الأمنية المنظورة وغير المنظورة المحيطة بمصالحها الحيوية في أهم منطقة في العالم- من جهة- وطبيعة ومستوى ومن ثم حجم المصالح الحيوية المتوقعة والمحتملة والمرغوبة لها في اليمن، على خلفية ما تمتلكه من موارد وثروات وإمكانات هائلة مازالت خاما لحد الآن- من جهة ثانية.
- لدرجة فرضت عليها ضرورة تبني سيناريو إعادة فرض الأمن والاستقرار والحفاظ على وحدة الأراضي والكيان القومي ليس هذا فحسب، لا بل والتعاون والتنسيق ومن ثم الشراكة مع اليمن لضمان تحقيق الانتقال الأمن إلى مصاف الدولة المدنية الحديثة دولة النظام والقانون كخيار استراتيجي لكل الأطراف لم يعد بالإمكان تجاوزه أو تجاهله.
- وهو الأمر الذي يدفع اليمن- في نهاية المطاف- إلى إعادة صياغة وبلورة رؤاها وتوجهاتها ومواقفها ومن ثم سياساتها؛ بما يتناسب مع مستجدات المكانة المرموقة التي أصبحت تحوزها في إستراتيجيات القوى الدولية والإقليمية، متخذة لها من البحر محور الارتكاز الأساسي لها من خلال إرساء مداميك الدولة البحرية المدنية الحديثة التي سوف نأتي على ذكر الكثير من ملامحها الرئيسة تباعا.
والله ولي التوفيق وبه نستعين
([1]) باحث في العلاقات الدولية والشئون الاستراتيجية وكاتب ومحلل سياسي.
المصدر : الكاتب