أخبار الساعة » دراسات ومتابعات » دراسات وتقارير

سجين لأنه عربي..بقلم:ليلى البلوش

- ادريس علوش

سجين لأنه عربي ..!

 

  في مقال جميل للكاتب الإماراتي " أحمد راشد ثاني " والذي جاء بعنوان " سجين اللغة الواحدة واللغتين والشقيقة " * يسرد في مقدمته اعترافا مؤلما : " للأسف ، أنا سجين اللغة الواحدة ، ولعلي أحس بضغط هذا السجن حين يتحدث أصدقائي عن اطلاعهم على مواد أو كتب باللغات الأخرى لا أستطيع الاطلاع عليها ، وبالتأكيد ، فإن الفجوة في حياتي بيني وبين التكنولوجيا وخصوصا : الهواتف النقالة والكمبيوتر ، تعود في جزء منها إلى ضغط ذلك السجن ، بل وأكثر ، فالمرء يحس نفسه معزول في بلد يزخر بعشرات الجنسيات وبالتالي اتفقت حياتهم على الحديث بلغة مشتركة ، هي في حالة دولة الإمارات ومنطقة الخليج الإنجليزية ، ولقد خسرت كثيرا من الصداقات نظرا لضعفي في التحدث بهذه اللغة أوغيرها ، وتكبد قلبي إخفاقات لا أظنها ستحدث لولا هذا الشؤم اللغوي " ..

 

غصّة الكاتب تذكرني بالغصّات التي شعرت بها ، كلما وقفت أمام المكتبة التي تقع في وسط " كارفور"  في مركز منار في رأس الخيمة ، وأنا أرى أمامي آلاف الكتب بلغات أجنية متعددة ، أقف بالقرب منها ، لكن دون أن أدنو منها كثيرا ، دون أن أجسها بيداي وأتملى في صفحاتها كأي قارئة فضولية ؛ خشية أن يقترب مني البائع وهو يحييني بلغة اسبانية سلسة كاسباغيتهم الشهية ، ولا أعرف ببلاهة بأي لغة أرد عليه تحيته الشهية تلك ..!

 

وأكبر الغصّات كانت في العام الماضي في معرض رأس الخيمة للكتاب ، وأنا عابرة بخفة بين ممراتها ، لأجد أمامي جمهرة من الكتب ، مغلفة بشكل مثير لعين الرائي ، اقتربت منها ، حملت إحدى تلك الكتب وكأني أحمل قطعة أثرية ثمينة ، قلبت بشغف أوراقها الناصعة بالكتابة ، آلاف الكتب متراصة على انتظار ، تتلهف من يمد لها يدا حانية ولكن لا احد سواي ، لأن صفحاتها تتحدث باللغة الأوردية ، ولم استغرب عدم وجود البائع متربصا مشتريه ؛ لأنه يعرف جيدا أن تلك الكتب وضعت في مكان وبيئة خطأ ، أم أننا نحن المخطئون ..!

 

تجرعت يومئذ سؤالي المحطم وأنا والجة الجناح الإيراني ، تفاءلت خيرا حينما حياني المسئول عنه بلغة عربية دون أن يغادر صوته بحّة الحروف الفارسية ، رددت تحيته بأفضل منها مع ابتسامة تقول له بأنها تأمل الحصول على مبتغاها ، كتاب يتحدث عن إيران كمدينة وتاريخ وجغرافيا ..

حوطني بابتسامة أكبر أشعرتني باطمئنان كبير ، بينما صوته يسحبني خلفه إلى كتاب ضخم ، عريض الصفحات وسميك الغلاف ، متنوع ، مليء بالصور ، تحفة حقيقية تحكي بعمق عن إيران ومدنها وتاريخها وجغرافيتها وبشرها ، يستعرض عنها كما أريد تماما ، كما كنت آمل تماما ، لكن ليس بلغتي بل بلغتهم هم ..!

ولكن تلك الغصات لا تموت ، بل إنها ترافقني في كل معرض كتاب أي أنها " غصّات سنوية " ، ففي معارض الشارقة وأبوظبي لطالما جنبت زوايا الكتب المعروضة بلغات عالمية ، ينتصب بالقرب منها مترجمو اللغة ومتحدثوها ، بينما أمرّ عبرهم كسيرة الجناح والفؤاد واللغة ..

والغصة ليست على مستوى القراءة والتثقف الأدبي ، إنها قائمة وموجودة على كافة المستويات في كل الدول العربية أخصها بالخليج ؛ فالخليج غدت اليوم قبلة شعوب العالم المختلف ، متفتحة عليها من أصعدة عدة .. لكن ماذا أخذ منها شعبها ..؟!

هل ساهم هذا الاختلاط بكل تحدياته في إشكالية التغير ..؟ هل عرف أهل الخليج كيف يتكلمون اللغة الهندية والانجليزية والفلبينية والفارسية وغيرها من اللغات رغم التحاشد المستمر عبر تلك السنوات ..؟!

 

يحاول العربي أو الخليجي تحديدا إلى أن يخاطب الآخر بلغته ، حتى وإن كانت الحروف تخرج منه مكسرة ولا يفهم منها سوى الإشارات كأنه يخاطب أخرسا ..!

لأننا وبكل بساطة مطلقة نؤمن بتفوقهم علينا ، هذا التفوق الذي يشعر به كل عربي عندما يرمق بإعجاب أصحاب اللغات الأخرى ؛ والدليل أن كل شخص لديه أكثر من لغة ، هو شخص متفوق ، ولديه مستقبل ، في دولنا العربية من يجيد لغة يجيد حرفة ..

لكن بالمقابل هل الأجنبي مهما كان انتماؤه فرنسيا أو يابانيا أو ألمانيا فكر يوما ما ، رغم أن الكثير منهم مقيم في دول عربية إلى تعلم اللغة العربية ، أو محاولة إتقانها ..؟!

إنه لا يريد أن يتعلمها ؛ لأن اللغة العربية بالنسبة له لا تشكل تفوقا في دولته ، فماذا يفعل الفرنسيون أو الايطاليون أو غيرهم باللغة العربية ..؟!

لهذا على العرب كي لا يخسروا رهان التفوق ؛ عليهم بالانفتاح من خلال إتقان لغات العوالم الأخرى ، ومن كانت له لغة واحدة فهو سجين العالم ..!

 

العربي يشعر بالعجز في مدينة لا يتقن لغة أهلها ، لكن العكس بالنسبة للأجنبي في بلاد عربية ، فإن شعور العجز لا يكاد يطفو ؛ لأنه سيرى مترجما أمامه يحتفل به وبلغته ، ولأن على العربي أن يتنازل كي يتحدث معه بلغته والمفروض العكس لأنه في بلاد عربية ، حتى العمال الآسيويون نتحدث معهم بلغتهم ، ولم يحدث أن بادرونا بلغتنا العربية ..!

يكتب أدباء اللغات الأخرى بلغات عوالم أخرى ، يتسابق اليابانيون والصينيون الكتابة باللغة الفرنسية ، والاسبانيون والتركيون باللغة الانجليزية ، لكن هل سمعنا بأدباء من لغاتهم بادروا إلى كتابة رواياتهم باللغة العربية إكراما للشعب العربي ..؟!

 

لولا الانفتاح على مستوى الترجمة في الوطن العربي ، لما وصلنا شيء من لغات أخرى ، حتى الكتاب العرب المترجمون منهم حين يطلبون من كاتب لغات أخرى ترجمة أعماله إلى العربية ، تقبضه نعرة مفاجئة من الطلب ويعلق مندهشا أكثر منه مغتبطا : حقا ، لم أكن أعلم أن ثمة قراء من العرب يهتمون بقراءة أعمالي ..!

ولا نكاد نحيط بمغزى تعليقه أهو سذاجة أم براءة أم ماذا ..؟!

 

إذن على العربي أن يخبئ مرارة تفوق اللغات الأخرى في قلبه ؛ كي يرمم عقدة النقص لديه ، عليه أن يتعلم لغتهم ؛ كي يأمن شرهم كما أمرنا بذلك رسولنا الكريم ..

 

ولعل الحكمة هو أن نحذو حذو مراهقة أخبرتني عنها زميلة مقربة ، وهي واحدة من أولئك اللاتي جرفتهن حمى متابعة مسلسلات يابانية بلغتهم الأصلية ، والجميل في هذه التظاهرة هي أن ابنة أختها المراهقة مذ أبهر لبّها هذه المسلسلات ، لا يفارقها معجم اللغة اليابانية مع كراس من حجم كبير ، تسجل فيه كلمات باللغة اليابانية ، ثم تحاول فك طلاسمها من المعجم الذي بين يديها ، ومن ثم تسجيلها ومحاولة حفظها في كراسها الخاص الذي بات لا يفارقها ، ونجحت بالفعل في تحقيق معجزة إتقان بعض عبارات باللغة اليابانية ؛ والسر في تعلم اللغة هي أنها عزمت السفر إلى اليابان والعيش هناك ، وهي تستعد لحلمها - بدأب لا ينقصه الهمّة - مذ هذه المرحلة ..!

 

ويختم الكاتب " أحمد راشد ثاني " مقالته بسخرية رائقة وبحلم من هو سجين لغة واحدة ؛ فهو يريد أن يصاب بما يسمى بـ " متلازمة اللهجة الأجنبية " كالتي أصابت امرأة تدعى " سارة كولويل " كما حكى عنها في المقال ، ففي صباحات أحد الأيام استيقظت ولسانها يتحدث الصينية بطلاقة ، رغم أنها لم تزرها مطلقا .. كل هذا نتيجة صداع نصفي أثر في الدماغ بطريقة ما كما فسر العلماء جعلتها تتحدث بلغتهم ، والجدير بالذكر أن "سارة  كولويل " البريطانية لا يعجبها تحدثها باللغة الصينية ؛ ولطالما شعر البريطاني وأمريكي والفرنسي بالتفوق على الصيني المسكين الذي هو الآخر يعاني من عقدة الأوروبي ..!

بينما كاتب المقالة أمنيته أن يصاب بهذه العلة ، ولكن بشكل أشد بـ " متلازمة لغات أجنبية " ؛ فأحلامه كثيرة لا تكتفي بلغة واحدة ؛ كي يصحو في الصباح يقرأ باليابانية صفحات من رواية لكاواباتا ، وعند الظهيرة يخرج إلى مقهى مطل على البحر ؛ كي يقرأ سونيتات شكسبير باللغة الانجليزية القديمة ، وليس لديه مانع أن يتحدث الفلبينية مع نادلة تدعى " بيتي " وهي أقدم نادلة في أبوظبي ، وأن يقرأ قصيدة الشاعر " ادغار آلان بو " بلغتها الأصلية ، وفاوست " جوته " باللغة الألمانية .....، ولا تكف سلسلة أحلامه اللذيذة الغارقة في أدبيات اللغات الأخرى ..

ولي أنا الأخرى أحلام متعددة كأحلامه ولكن بطريقة أخرى ، حلمي أن أجلس مع الكاتب " باولو كويليو " وهو يحكي لي حكاية فيها الكثير من الحكمة بلغة عربية سلسلة .. وأن أتمشى مع الكاتب التركي أورهان باموق على أرض تركيا الخلاب ، بينما هو يحدثني بلغة عربية صافية عن آخر مشاريعه الكتابية ..

أن تفاجئني الكاتبة " ايزابيل الليندي " بكتابة رواية باللغة العربية وتطلب مني مراجعة كلماتها العربية .. وأن أثرثر مطولا مع الكاتبة " الفريدة يلينيك " على موقعها الالكتروني .. وأن يلقي الشاعر الأمريكي " تشارلز سيميك " قصائده الرائقة بحس عربي أصيل لا تشوبها شائبة .. وأن أستمع إلى تجربة الكاتب الصيني " داي سيجي " لإعادة تأهليه في الثورة الثقافية بصوته الصيني ولكن بلكنة عربية ، وأن أتوسل إلى الكاتبة " هيرتا موللر " أن تكفنا ذل انتظار رحمة المترجمين لأعمالها بلغتها ، وتقوم هي بهذه المهمة ؛ من أجل عيون قراءها العرب .. وأن أطالع مؤلفات " نيتشه " و" هاروكي موراكامي " و" جوته " و" بورخيس " و" مارسيل بروست " و " دوستويفسكي " و" كافكا " وغيرهم ، دون أن توسوسني مدى صحة الترجمات التي نقرأ بها أعمالهم العظيمة .. وأكون ممتنة لو أتابع في دور السينما فيلما لـ" انجلينا جولي" ، وهي تتحدث باللغة العربية وإلى ........ لا آخره ..

والأحلام لا تنتهي أبدا ، فمن يطارد حلما كيف يرتاح ..؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقال للكاتب " راشد أحمد ثاني " ، نشر في جريدة " الاتحاد الثقافي " ، العدد 172 .

 

 

ليلى البلوشي

Lailal222@hotmail.com

--
المصدر : ادريس علوش

Total time: 0.0652