في مسرحية قديمة كان فيها سمير غانم يلعب دور الملك شهريار جاءه نبأ يقول: قتل رجل في المدينة، قطعت أوصاله وعبئت في أكياس. على الفور يصرخ الملك شهريار: امنعوا صناعة الأكياس في المدينة لكي نحد من الجريمة. هذا، بالضبط، ما فعلته وزارة العالي قبل أيام بخصوص احتلال الطلاب في ألمانيا لسفارة بلدهم ومحلقيتها الثقافية. سنسرد الحكاية على شكل فواصل.
الخبر مثير، مثير على نحو لا يصدق. مائة طالب يتجهون إلى وسط العاصمة برلين. يطردون الملحق الثقافي، ويسورون الملحقية. يتصاعد احتجاجهم، فيحتلون السفارة ويشمّعون الوثائق المهمة. سفارة اليمن في واحدة من أعظم أربع دول في العالم تحت سيطرة الطلاب. وزير الخارجية لا يعلم، فهو مشغول بمتابعة أنشطة سفارتنا في لبنان. أما وزير التعليم العالي فقد فعل أمراً أكثر طرافة من المتخيل. من قال إن هؤلاء البشر بلا خيال. لقد أوقف المستشار الثقافي عن عمله. الأخير حديث عهد بمنصبه، أما مشاكل الطلبة فلا تقع ضمن قدرته ولا صلاحياته. فالحكومة تعطي كل طالب مبلغ 400 يورو كمساعدة شهرية. المحتجون يطالبون برفعها إلى 740 يورو في الشهر. ما الذي يمكن للمستشار الثقافي أن يفعله حيال هذا المطلب؟ كانت وزارات التعليم العالي المتعاقبة قد خاضت مع الطلاب في ألمانيا مفاوضات لا تنتهي. قبل فترة قريبة، في عهد باصرّة، انتهت المفاوضات بالفعل إلى تسوية يحصل الطالب بموجبها على منحة مالية تسمح له بالاستمرار في ألمانيا كطالب في الحدود الدنيا. وزير المالية أوقف الاتفاق. أما وزارة التعليم العالي فقد شعرت بالاسترخاء وحملت الجريمة على كتفي طغاة المالية. التعليم العالي يتعامل مع مشاكله الحقيقية، دائماً، عبر ترحيلها إلى الأمام أو دفنها مؤقتاً ريثما يقضي عليها الزمان أو تحلها المصادفات الكونية. فمثلاً هاجر وزير التعليم العالي السابق، الشعيبي، فور استلامه منصبه إلى ماليزيا. من كل قلبه كان يتمنى أن تحل مشاكل الطلاب في كل مكان. لم يقل كيف، ولا متى. لكن أمنيته كانت، فيما يبدو، صادقة. بالنسبة له كوزير فقد كان ذلك هو كل شيء. أما الآن فسفارات اليمن تهوي:في الجزائر، في كوالالمبور، في برلين، وقريباً في عمّان والقاهرة. رئيس الجمهورية لن يسمع هذه القصص لأنها مؤلمة. الفريق المحيط به يحبّونه كثيراً؛ لذلك فهم يعتقدون أن الحفاظ على مشاعره واجب وطني مقدم على بقية المشعائر الأخلاقية.
تعالوا نصعد قليلاً مع هذا النوع من الدراما المنفلتة:
منذ سنوات طويلة تمارس الحكومة اليمنية دجلاً وخداعاً رسميّاً مع الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا. تنص قوانين الولايات الألمانية المختلفة على أن الحد الأدنى للدخل الشهري يجب أن لا يقل عن 700 يورو شهرياً حتى يكون بمقدور الطالب الحصول على الفيزا. في صنعاء تخاطب وزارة الخارجية سفارة ألمانيا بعبارة: وسيحصل الطالب على 700 يورو شهرياً. في برلين يجد الطالب ما بين350 إلى 400 يورو فقط في حسابه الشهري. الفاقد من المبلغ الوهمي هو مبلغ معنوي مهمته شد الظهر وتعزيز رباطة الجأش.
أقل من 700 يورو شهرياً يعتبر تحت خط الفقر طبقاً لتصنيفات مؤسساتية كثيرة في ألمانيا. أي أن الدولة اليمنية ترسل سنوياً العشرات من مواطنيها لكي ينضموا إلى "طبقات ما تحت خط الفقر" لا إلى المؤسسات العلمية. هذه ليست مبالغة فهناك إحصاءات مجسّمة تقول إن أحد أهم أسباب تعثر الطلاب اليمنيين في دراستهم وتأخر مواعيد تخرّجهم، في ألمانيا على وجه الخصوص، مرتبط بتقسيم الوقت: بين الجامعة، والعمل لتوفير إيجار السكن والتأمين الطبي.
سنعيد صياغة المشهد في عبارات قليلة:
"منذ أسبوع اقتحم أكثر من مائة طالب مبنى الملحقية الثقافية في برلين ومنعوا الملحق الثقافي من دخول مكتبه. لم يعد المحلق الثقافي بعد ذلك لعمله. مطالب الشباب على وجه الدقة: رفع المنحة إلى الحد الإنساني المسموح به في ألمانيا. أي: نريد أن نعيش كطلاب لا كجماعة تحت خط الفقر. وزارة التعليم العالي تفسر هذا المطلب على طريقة تفسير دون كيخوته للطواحين: عفاريت، جن. لذلك اقترحت إيقاف الملحق الثقافي حتى "يهرب الزيران، ويخرج العفاريت". مرة أخرى: لدينا جهات حكومية تتمتع بخيال مفترس. إنها تتخيل كل الإجابات الممكنة، بالطبع ما عدا الإجابات الصحيحة.
تطور الموقف، فاحتل الطلبة كل مباني السفارة. القسم القنصلي أغلق أبوابه وغادر كل الطاقم العامل فيه، تاركين كل طلبات الأجانب ومعاملاتهم في الأدراج. أصبحت الآن سفارة اليمن في دولة ألمانيا تحت سيطرة الطلاب: مكاتبها، وثائقها، أجهزتها، وساحاتها.
دون أحد الطلاب المعتصمين: "توقعنا أن الحكومة، أمام هذا الخبر الجسيم، ستستقيل. أو على الأقل سيرسل الرئيس فرقة كوماندوز لتحرير السفارة. وفي أبسط الاستجابات سيرفعون المنحة المالية لتفادي الإحراج السياسي أمام العالم. فمهما يكن، إلا أنه من المفترض أنه لا يزال هناك قدر من الكرامة في مكتب الرئيس، رئيس الوزراء، ديوان الوزارة، ومجلس النواب. لكن واضح إنه مفيش حد واخد الموضوع جد". صدّقوني لم يدوّن أحد هذه الكلمات. لقد كتبتها للتو، وأنا أقرأ رسالة وصلتني من محمد السامعي، أحد المعتصمين في السفارة.
تعالوا نستعرض الجانب المظلم من هذا المسرح الكئيب: رئيس الجمهورية لا يعرف شيئاً عن احتلال سفارته في عاصمة دولة عظمى. وفيما لو استقبل اتصالاً هاتفياً من السفير الألماني في صنعاء فإنه سيسقط بين يديه. وربما لن يتفاعل. من يدري. في مغارة علي بابا حتى المشاعر والاستجابات قد خضعت لعمليات تحوّل رهيبة فقدت على إثرها كلاسيكيتها وإيقاعها البشري الاعتيادي. نحن نعيش في مدارات استثنائية في ميكانزميتها وطاقتها. مدير مكتب الرئيس يعرف تفاصيل ما يجري، بالطبع، لكنه لا يرى أن الأمر يستدعي إطلاع رئيس الجمهورية. لماذا يفكر بهذه الطريقة، لا أحد يملك إجابة واضحة. حتى هو. رئيس الوزراء لا يعلم عن الأمر شيئاً. لن تصله الأخبار قريباً، فهو ربما لا ينتظر أخباراً. وزير التعليم العالم ألقى القبض على الرجل الخطأ وأغلق هاتفه. أما وزير المالية فيقول لنفسه: هذه قضية سياسية. لكن وزير الخارجية، الرجل الذين يغط في نوم عميق منذ كان طالباً في كلية الطب، يزن الأمر على طريقته: لا بأس، غداً سيتركون السفارة، وسيعود السفير المشرّد بإذن الله. كان وزير الخارجية قد أقام حفلاً أنيقاً قبل أيام للسفير اللبناني في صنعاء بمناسبة انتهاء فترة عمله. نادراً ما يقيم القربي مثل هذه النشاطات. هذه المرة، مع اللبناني أبي عكر، مختلف. ففي تلك الدولة يستثمر يحيى صالح أموالاً يقال إنها كثيرة.
بعيداً عن كل هذه المسرحية، ثمة خبر أخير ربما نسيتُ أن أبلغكم به:
سفارة اليمن في ألمانيا محتلة من قبل الطلاب، وهذا أمر سيادي. وعندما نقول سيادي فنحن نفترض وجود دولة. وبما أن السفارة لا تزال محتلة، ورئيس الجمهورية لا يعلم عن الأمر شيئاً فمن العيب عن أن نتحدث عن الدولة، إذن.