أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

14 آذار : إلى اللقاء سوريا...

- محمد قواص (*)

في آذار (مارس) من عام 2005، انكشفت الهوة التي تفصل بين اللبنانيين في شأن الموقف من سوريا. وسوريا آنذاك كانت تعني (ولم تعُد تعني اليوم) نظام الأسد في دمشق. في تلك الأيام الآذارية الخصبة كانت النفوس ما زالت تغلي بعد أسابيع على إغتيال الرئيس رفيق الحريري، فيما كانت التجمعات والاعتصامات تجاهر وتكرر ما بات علنيا على ألّسنة المعارضة آنذاك من اتهام مباشر للنظام السوري بالوقوف وراء الجريمة. في ذلك الحين لم يخطر على بال أحد، لا في السرّ ولا في العلن، التلميح إلى تورطٍ أو تواطؤٍ لحزب الله في عملية الاغتيال.
 
كان في تلك الأيام أن صرخ أهل القتيل أن القاتل هو النظام في سوريا. وسواء كان الاتهام جنائيا أو سياسياً، أو كان المتهم مذنبا أم بريئا، فإنه كان على أهل الدار، كل الدار، المشاركة في المُصاب الذي ألمّ بالشريك والتضامن مع أحزانه وتفهّم غضبه. فإذا كان اتهام سوريا لا يستقيم وفقا لرؤى حزب الله وصحبه، فكان الأجدى استيعاب مزاج أهل القتيل وانصاره على الأقل،  بانتظار أن يتولى الوقت تهدئة الخواطر واستعادة سلوكيات العقل والتعقل (في حال وصفت تلك الاتهامات بالبعد عن العقل والتعقل).  هكذا كان السلوك في الساعات، وربما في الأيام، الأولى التي تلت ذلك، إلى أن أتت كلمة سرّ ما قلبت كل ذلك.
 
في السياسة أشار أهل القتيل وأنصاره وحلفاؤه بالبنان إلى القاتل. ردّ الحزب بتنظيم تجمعٍ ضخم "وفاءً" للقاتل. قيل أن في الأمر كيدٌ لا يليق بزمن الحداد. وقيل أن في الأمر استفزازٌ يسحب الصراع من ثنائيته اللبنانية – السورية، ويعيده إلى البيت اللبناني بثنائية لبنانية - لبنانية ستؤسس للانقسام اللبناني الراهن. أيا تكن التفسيرات تمخض الحدث عن أكبر قطيعة تعصف باللبنانيين منذ انتهاء الحرب الأهلية.
 
في تجمع "الوفاء لسوريا" خرج في 8 آذار (مارس) مشهد الطائفية وبرزت أنيابها. المشهد اللبناني أتى مترجلا من مشاهد عراقية طارئة منذ الغزو الأخير لذلك البلد. اصبح للانقسام اللبناني هوية مذهبية ستظهر جلّية في التجمع المضاد الذي خرج بعد ستة أيام في 14 من الشهر نفسه. البعض ينسى أن تحالف 14 آذار كان ردّ فعل على مشهد 8 آذار. ولكن الأهم أن هذا الانقسام السياسي - المذهبي عبّر بشكل حاد عن الموقف من النظام السوري بين من يعتبره خصماً يطالب برحيله بالعدّة والعديد والعتاد، ومن يعتبره حليفاً دائماً يجوز التعبير عن "الوفاء" له.
 
قاد حدثُ الاغتيال وما تَبِعه من حراكٍ محليّ دوليّ استثنائي لافت، كما هو معروف، إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. كشف حدثُ الانسحاب كم أن للنظام السوري نفوذا في لبنان بتياراته ومؤسساته وطوائفه ومذاهبه (لا يحتاج إلى جيش دمشق في الميدان). عززت هذا النفوذ ورعته شبكة مصالح وامتدادات داخل مؤسسات وتيارات البلد الرسمية وغير الرسمية، مرتاحاً على قاعدة تحالف تحالف سوري - إيراني متين عضوي ونهائي.
 
بات نظام دمشق، بغياب جيشه، متربعا على اليوميات اللبنانية، فيما اللبنانيون منقسمون على نحو دراماتيكي حول وظيفة ذلك النظام ودوره في مفرداتهم السياسية والمعيشية. في تلك الأيام الآذارية نادى فريق بالـ"وفاء" ونادى فريق : "إلى اللقاء سوريا".
 
النداء الذي أطلقته النائب بهية الحريري في خطابها الشهير في 14 آذار (مارس) 2005، فجّر صدمة ايجابية لم تكن متوقعة (آنذاك) من شقيقة الرئيس المُغتال. أجواء اللحظة كانت تحفل بالدعوات نحو القطيعة وحتى اشعار آخر وبعيد. لكن نُبلاً بنيوياً في مقاربة الأمور عكس حضور العقل بحيوية عالية، وعبّر عن ادراك لمعنى التاريخ وأعماقه والذي لا توقفه اللحظة مهما اشتدت قسوتها.
 
لكن في الفرق بين "الوفاء" و"إلى اللقاء"، فرقٌ بين الحاضر والمستقبل، بين ما هو وما يجب أن يكون. فرق بين الثابت، أي سوريا، والمؤقت، أي النظام في دمشق.
 
تقدم خطاب 8 آذار بالوفاء لنظام قاد سوريا إلى ما هي عليه اليوم. تعهد المعسكر الممانع في شوارع بيروت مذاك بالالتزام بالوفاء لنظام بات في الشكل والمضمون متقادما ينهلُ قيّمه من تقليعات ايديولوجية بائدة وممارسات أمنية متخلّفة في سوقيتها. شكّل خطاب "إلى اللقاء" سوريا، والذي لا يعبّر بالضرورة عن اجماع داخل التيارات المتعددة المتباينة في صفوف 14 آذار، شكّل اسقاطا لزمن نظام سقط منذ سقوطه في لبنان، واستشرافا لما يُراد لبلد عربي جار من تحرر من هيمنة نظام الحزب والعائلة والطائفة والايدولوجيا المرتجلة يوميا.
 
تعيش سوريا اليوم مخاض الولادة لهذا اللقاء. مخاض عسير دموي مؤلم، لا شك، لكنه مخاض الانتقال من اللاجهة إلى كل الجهات ما عدا الجهة الخلفية. لا عودة للوراء في سوريا اذا ما أريد لهذا اللقاء أن يتم. لقاء مع الحرية والعدالة والحداثة، لكن خصوصا، لقاء مع العالم الذي نعيشه، والذي برعت عقود في ظل النظام الدمشقي على جعله مستحيلاً. كم أبعد نظام الأسد سوريا عن الحاضر، وكم أبعدها إلى اللاتاريخ، وكم جعل من الآخر عدوا يحرم الوصل معه. أُريد لسوريا أن تنتمي إلى اللامكان، وها هي اليوم تهتدي إلى عين المكان.
 
بات العالم اليوم يعرف جغرافيا سوريا بعد أن تمّ تقزيمها على الخريطة بصفتها "قلب العروبة النابض". لا تتصل أوردة هذا القلب بعرب الخليج ولا بعرب المحيط، فيما تحوّلت العروبة ضجيجا يغطي صيحات الخيّبة. عادت سوريا إلى الخرائط الدولية.  قفزت مدن وقرى البلد تعبّر عن ثراء وثقافة وتاريخ وحكاية بشر. انقشعت الرمادية عن قامة سوريا وظلالها. بات للبلد ألوان تعكس مِزاج درعا وحلب وإدلب والرقّة. بات للبلد نغمٌ يعزف  ميلوديا حمص ودمشق وحماة ودير الزور. ظهرت وجوه سوريا الحقيقية  بعد ان سادها الوجه الواحد منذ "الثورة" و"حركتها التصحيحية" انتهاء بأسطورة "الرئيس الشاب". انطلق لسانٌ يرنُ أنغاما بعد أنغام بعد أن رانها نشازُ الخطاب الخشبي الواحد.
 
"إلى اللقاء سوريا" موعدٌ تتعثر واشنطن كما موسكو في إدراكه، وتسعى طهران وحلفاؤها إلى التخلف عنه، فيما تتخبطُ دول الاقليم في الخليج وتركيا في ترتيب تفاصيله. وحدهم السوريون لم يخطأوا البوصلة ولا ضيّعوا المكان. هو زمانهم وحدهم يجهدون بالدم والنار لجرّ سفينتهم نحو مرفئها الآمن.
 
دون ذلك الموعد، هناك من يتحدث عن الفتنة بين السُنّة والشيعة. صاحب بغداد يتطرقُ إلى ذلك وكأنة يعدُ لا يُحذر. دون ذلك، حديث عن الاصولية والقاعدة تلوكه دمشق وتجتره واشنطن. ودون ذلك، تهويلٌ بتقسيم وتفتيت تمّ اطلاقه في تونس ومصر وليبيا واليمن قبل ذلك. باختصار المعادلة الشيطانية لنظام دمشق بزعيمه هي : إما أنا وإما نهاية التاريخ!
 
من آذار(مارس) 2005 في لبنان وحتى الآن حقبة جنون وهذيان. ذلك أن هذا البلد ما زال ينتظرُ اللقاء مع سوريا. في حقبات الاغتيال والمواجهة، في حلقات احتلال وسط بيروت وصدام 7 أيار، في الانحدار نحو المراهقة الطائفية بوجهها "الأرثوذكسي" حاجة للقاء مع سوريا. وربما هذا اللقاء هو شأن يمقته فريق ويُعِّد العدّة لمواجهته والاستعداد له ، فهل بات مقتنعاً بحتمية هذا اللقاء؟
 
ستتغير توازنات كبرى. ستخرج أنماط سياسية جديدة. ستتبدل سلوكيات في السلطة.   ستسقط لعبة العواصم أمام ألعاب تبتكرها الشعوب..
 
ستترى مواعيد كثيرة قبل اللقاء الموعود مع سوريا. واللقاء حاصل حتماً.
-----------
(*) صحافي وكاتب سياسي
Twitter : @mohamadkawas
 

Total time: 0.0499