وراء الاهتمام بشيءٍ ما والتفكير فيه عادةً ما تكمن الحاجة إليه في ذاته، أو الحاجة إلى التوسُّل به لنيل ما هو مطلوبٌ لذاته. وبروز الحاجة إلى الشيء دليلُ غيابه وقرينُ وجود عكسه أيضاً؛ فعلى سبيل المثال إنّ تعاظم الشعور بالحاجة إلى الأمن يعكس في الوقت نفسه تفشِّي ما يبعث على الخوف والرعب.. فما الحاجة لمثل هذا الحديث عن الحاجة؟
في ضوء الاحتياجات تتحدَّد الأولويات، يستوي في ذلك الفرد والمجتمع والدولة. وبالنسبة لما يُفترَض أن يكون فإن الدولة تضع احتياجات مواطنيها على رأس أولوياتها، أما ما هو كائن فشيء آخر. وإذا استبدلنا مفردة «الدولة» بأحد أركانها، في شكل أجهزة ومؤسسات السلطة التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، يصبح سؤال العلاقة بين أولوياتها واحتياجات مواطنيها أكثر وضوحاً وقابلية للقياس والاختبار.
ثم إنّ التعبير بـ«أجهزة ومؤسسات السلطة» ينصرف إلى الأشخاص القابعين في قمّة السّلم الوظيفي لهذه الأجهزة والمؤسسات، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار، في بلدٍ يعاني غياب مبدأ «سيادة القانون»، أن إرادة رأس المؤسسة، أو المسئول الأول فيها، تعلو على إرادة المؤسسة. ومن هنا اتّساع الهوّة بين اهتمامات وأولويات أجهزة ومؤسسات السلطة من ناحية واحتياجات المواطنين من ناحية أخرى.
لنأخذ البرلمان كمؤسسة تشريعية ورقابية والحكومة كمؤسسة تنفيذية، فمِن المفروض أنّ عَمَل هاتين السُّلطتين يخضع لإرادة كلية تعكس سيادة الشعب بوصفه مصدر السلطة، لا إلى إرادات النواب أو الوزراء المنفلتة عن أيّ التزام بمرجعيات الإرادة الكلية هذه. لذلك، وعلى أساس أن الأولويات والاهتمامات تتحدَّد في ضوء الاحتياجات، فإنّ اهتمامات النائب، أو الوزير - المنفلت مِن أيِّ التزامٍ بمرجعية سيادة الشعب وسلطته - ستأتي بالضرورة طِبْقاً لاحتياجاته هو وليس المجتمع.
واحتياجاتُ نائبٍ أو وزير، مِن هذا النوع، ليست على الإطلاق مِن جنس الاحتياجات التي يحْمِل همَّها ملايينُ المواطنين ليلَ نهار. فبينما ينشغل، ذلك النائب أو الوزير، بهموم احتفاظه بالنفوذ والسُّلطة وسُبُل الترقّي فيهما وامتلاك المزيد منهما، لم تزل اهتمامات ملايين المواطنين متوقِّفة عند توفير الضروري مِن المأكل والمشرب والملبس.. فأين أولئك مِن هؤلاء؟!