أخبار الساعة » السياسية » عربية ودولية

أميركا وتقطيع أوصال المشروع العربي

- طارق الدليمي
شاءت الأحداث التاريخية التي انفجرت في بداية الحرب العالمية الأولى العام 1914، أن يكون «وودرو ويلسون»، رئيس الولايات المتحدة، مسؤولاً بالرغم منه، عن نتائجها المتعددة؛ منها نهاية السلطنة العثمانية وبداية أفول امبراطوريات «اوروبية ـ عالمية» عدة، والصعود السريع للامبراطورية الاميركية. وكان مثقفون أوروبيون مستنيرون عديدون يشمئزون من شخصية «ويلسون» الكالحة وبالحصائل القاسية التي نجمت عن تدخله السافر في المصير الاوروبي خاصة والعالمي عموماً، علماً أن فكرة «المخلص» المعروفة كان قد تمّ الرجوع إليها في خضم تلك الحرب الضروس. فقد كان القيصر «الالماني»، حديث إعلامه، بكونه الحبيب المختار من العناية الإلهية. وفي المعسكر «الانكلو سكسوني» كانت شخصية «ويلسون» الرسولية هي الطاغية. لقد كانت دعوة «ويلسون»، وعلى خلاف رأي «لينين»، إلى «حق تقرير المصير» كاذبة، وهي تشكل الوجه الآخر «للرغبات المكبوتة، والتي لا تموت، للدول الاستعمارية العريقة، بل تبقى راسخة وباحثة عن التفريغ، ومحمية من النقد العقلي بحكم انفصالها الطويل عن الوعي الانساني «الخلاق».
 
لقد فشلت جهود «المؤسسة» الأميركية في الاستحواذ على العراق، كمقدمة ناجحة للتوغل في المنطقة العربيــة، مــن خــلال نتــائج لجــنة «هنري كنغ ـ تشارلــز كريــن»، آب 1919، والحصــول على مــركز «الانتــداب» علــى العــراق بموافقــة «عصبــة الأمــم» حينــذاك، وعوّضــتها عن طريق: أولاً ـ فــشل تدخلها المشــين في ثــورة حزيران 1920، وثانياً ـ نجاح ضغوطها الجشعة في الحــصول مجاناً على 23,75% من النفط العراقي، وتجييره لمصلحة شركة «اوكســون موبــيل» الحاليــة. وفي أعقـاب تلــك الفــترة باشرت اميركا باللجوء إلى «الاستراتيجية الدفاعية الكـبرى»، في ظل توطد السلطــة السوفياتيــة، في اوروبـــا والعــالم «والشــرق الأوســط» تحديــداً. وقد شبــه أحــد الكــتاب السياسيــين المولعين بالتعــابير الطــبية، بــأن متاعــب اميركــا بــدأت في المنطــقــة مركــبة: فبالنسبــة لــهــا «العــراق» هــو الصــداع الموسمــي، و«ســوريا» داء الشقيقــة، و«مصــر» ألم الأســنان المزمــن، والسؤال: كيف يمكن «للقوى الحيــة» فــي منطــقتنــا أن تتعامــل مــع اميركــا وقــد أوصلــت الأمــور فيهــا إلــى مختــــبر للتــجارب الدمــوية وأصــبح الثــلاثي «العــراق، ســوريـــا، مصــر» الأنابيب المركزية لماكينتها الاستراتيجية العملاقة.
 
ميليشيات وأفندية
 
ويؤكد المؤرخ الأميركي «ديفيد هيربت دونالد» بأن أميركا كانت تشجع «بريطانيا» في الثلاثينيات من «القرن الماضي» على عدم الموافقة على «التجنيد الإجباري» في العراق لغرض بقاء المؤسسة العسكرية ضعيفة أمام «الميليشيات القبلية» المسلحة التي أغرقت البلاد في العصيانات والنهب والفوضى وإسناد السياسيين الطائفيين الفاسدين في بغداد. وكانت اميركا تنظر بعيون الشك نحو «نخب» الضباط الذين دشنوا أول انقلاب عسكري، في العراق والمنطقة، في العام 1936، وألّبت بريطانيا على ضرورة دعم شيوخ القبائل في الريف وبعض التجار «المضاربين» في المدن، وأن تعيد تأسيس بعض «الكتائب العسكرية» خارج الجيش الرسمي، وأن تلجأ حتى إلى بعض الأساليب الحادة من نمط تهديد السياسيين برفع الحماية عنهم وقطع التمويل الدوري لهم. ويسخر هذا المؤرخ من الكلمات التي يرطن بها بعض السياسيين «الأفندية» في معرض مطالبتهم بالحريات والديموقراطية بكونها تمنع «الحرب الأهلية»، جازماً بأن اميركا نفسها، قد دخلت في الحرب الأهلية في العام 1860، بعد انتخابات «الرئاسة» التي كانت «مفرطة» في ديموقراطيتها.
 
بيد أن الأمور قد اختلفت كلياً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حين استقر «النظام العالمي الجديد» على «الاقتسام الوظيفي» للجغرافية السياسية العالمية بين الاتحاد السوفياتي واميركا وخاصة من خلال مؤتمر «يالطا» الشهير. يقول «بيتر لانغ»، ضابط المخابرات الاميركي السابق والخبير المهم، أن اميركا، بعد نشوء «اسرائيل» العام 1947، سارعت إلى اغتنام هذه الفرصة السانحة «للدخول» بقوة في المنطقة، وكي تكون «ضابط الإيقاع» للصراعات الجارية هنا، وفي مركز الصراع العربي الاسرائيلي، وهي تعتبر أن «قدر البخار» الذي يغلي هنا لا يمكن الاشراف عليه الا من خلال اعتباره «مؤقتاً» بكونه «الهوية الوطنية» الخاصة لهذه البلدان وبأن «النخب» السياسية التقليدية الفاسدة بدأت تعرقل عملياً «اندماج» المنطقة في «العالم الحر» وهي الكلمة الاميركية للسوق الرأسمالية ومؤسساتها الدولية بقيادة اميركا. من جهته يؤكد المؤرخ الفلسطيني «عبد القادر ياسين» بأن «وقائع» الحدود بين مصر واسرائيل في أعوام 1954 ـ 1955 كانت بمثابة «عيدان ثقاب» أشعلت كل الصراعات «الكامنة» هنا، وحملت اميركا هذه «الوقائع»، وهي عمليات فدائية مصرية فلسطينية مشتركة ضد «اسرائيل»، «القيادة العسكرية» في القاهرة وبالذات القائد الجديد «عبد الناصر». كانت خسائر اسرائيل في هذه «الوقائع» أكثر من كل خسائرها في زمن الحروب العربية الإسرائيلية المتعددة. من هنا اتخذ القرار «الأكيد» ومن قبل إدارة «أيزنهاور» بحصار «مصر» ومنع «القمح» عنها والرفض الباتّ لمساعدتها مالياً في بناء مشروع «السد العالي» الجبار.
 
تغيير الخيول
 
ولكن، بعد أن فرت الخيول من الاسطبل، بصــعود «البونابرتية» العسكرية إلى السلطة في المنطقة ومنذ بداية الخمسينيات من القرن السابق سارعت اميركا إلى طرح سياسة «الاحتواء» المتكامــلة والمستندة إلى أطروحة «الصبر الاستراتيجي» والتي تعني عملياً أن عملية عبور «النهر» تبدو صعبة، ولكنها أيضاً شاقة وشبه مستحيلة في حالة وجود رغبة في تغيير عجلات العربة. وكانت المهمات الملقاة على عاتق اميركا مزدوجة في شتى الميادين. أولاً: لا بد من «إنهاء» الوجود «الاستعماري» التقليدي الاوروبي حتى لو اقتضى الأمر الاتصال المباشر مع بعض «الحركات» السياسية الصاعدة وتشجيعها على «التمرد» ضد الدول «القديمة». ثانياً: إعادة ترتيب البيت «الداخلي» في المنطقة واللجوء إلى سياسة المراوغة مع «السوفيات» بشأن الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة والسعي الحثيث من أجل تنظيم جديد للتحالفات مــع الاحتفاظ «الاستراتيجي» بالعلاقات أولاً مع «إسرائيل» وثانياً مع «السعــودية» وبعدها تركيا وايران. من هنا فالمعركة حتماً ستكــون بدايتها قاسية ومكلفة فالهدف الأول هو «المشروع العربي» الناهض والصاعد، والبلد هو «مصر» قلب هذا المشروع والقيادة هي «الناصرية» وزعيم الشارع بلا منازع «عبد الناصر» والمنتشر تأثيره المادي والمعنوي في كل أرجاء الوطن العربي المبعثر.
 
بهذا المعنى فإن اميركا لم تدخل «الحرب الباردة العربية»، كما يزعم بعض التابعين لها، بل هي صنعتها بدقة حرفية عالية.
 
وكانت أميركا تركز باستمرار، ومازالت، على النشاطات السياسية والعسكرية لأجهزتها الخاصة، ومنها مختلف الوكالات المخابراتية في العمل على السيطرة السياسية والاقتصاديــة والثقافــية في البلــدان الــعربية المركزية، وتربط ذلك دائمــاً مع المصــالح العامــة للــشركات النفطية الكبرى وفي المقدّمة «اكسون موبيل» وبالتنسيق اليومي مع المجمع الصناعي العسكري العالمي وفرعه الاميركي القائد. ويذكر المحلل المهم «روبرت تاكر» أنها وضعت منذ الستينيات من القرن العشرين الخطط التفصيلية السياسيــة والعســكرية للتدخــل في الخلــيج الــعربي من أجل إنقاذ المصالح الأميركية. وكان تشجيعها وتخطيطها للانفصال العام 1961 في «الجمهورية العربية المتحدة» هما الخطوة الأولى والفاصلة في قرارها «بتهديم» «الدولة القومية» والقاعدة المادية الضرورية «للمشروع العربي» بقيادة «عبد الناصر». وكانت الأموال «الخليجية»، وتحديداً السعودية، هي الممول الأساسي لهذه العمليات السياسية والعسكرية.
 
لقد انشغلت اميركا عالمياً منذ «الستينيات» من القرن المنصرم في الحرب «الفييتنامية» ولكنها «عندنا» كانت منخرطة كلياً في «الانفصال» 1961، مشكلة الكويت 1961، الحرب الكردية في العراق 1961، حرب اليمن 1962، الحرب في الجزائر 1960، الانقلاب العسكري في العراق 1963، حيث صرّح وزير الدفاع «صالح مهدي عماش» علناً، وبعد فشل مباحثات «الوحدة» في القاهرة مع «عبد الناصر»، بأن «العراق من العسير عليه الانغمار في اتفاقية الدفاع العربي المشترك» بسبب الضغوط الايرانية، الشاهنشاهية، ودعمها العسكري «للعصيان الكردي» المسلح في شمال العراق. كانت الخطة الموضوعة «اميركياً» كما يقول المؤرخ «هال غاردنر» هي «تحطيم» العراق كما حطمت «مصر».
 
يمكن القول، بدون مغامرة، أن اميركا استفادت، بصمت، كثيراً من التجربة «البريطانية» في احتلال «الهند» وتقسيمها لاحقاً حين «اضطرت» على مضض إلى الموافقة على الاستقلال، ولم يكن الاهتمام الاميركي فقط بسياسة «فرق تسد»، فهي لازمة استعمارية تاريخــية مكــررة، لكــنها ركزت كثيراً، وخاصة هي التي ورثت سريعاً «الباكستان» إلى محورها الإقليمي، على طبيعة «التنوّع» الطائفي والمذهبي في «الإسلام» وأهمية الاعتماد على هذا الميراث الضخم، وتوظيفه في فعالياتها السياسية في البلدان الإسلامية عموماً والمنطقة العربية خصوصاً، ولا غرو بأنها استخدمت هذا العامل «الديني» سياسياً بصورة مزدوجة ومتداخلة مرة أو مستقلة مرة أخرى، تارة لمحاربة «الشيوعية» والنفوذ السوفياتي المتصاعد في المنطقة وتارة «أخرى» في الوقوف بوجه «المشروع العربي» والسعي الجاد إلى تقطيع أوصاله، وكانت إحدى خبراتها الخاصة هي القيام بصناعة «زعماء» في «متحف» شمعها الاستراتيجي يجمعون في «خصائصهم» الشخصية صور ثلاث مشوهة لشيخ العشيرة الطمّاع ورجل الدين الطائفي وزعيم الحارة السياسي الفاسد. وفي «افغانستان» كانت التجربة «البكر» والتي تحولت إلى «نموذج» بوسائل الإيضاح «البنتاغونية» في مصر والعراق وسوريا، ناهيك عن بلدان القبائل الساحلية ومافيات «المرافئ المسلحة»، البدائل العصرية للقراصنة في العصور الماضية. هؤلاء الرمم مع المحللين «الصفوة» في المعاهد الاستراتيجية الاميركية، كما يقول «بول ستاروبين»، هم «العجلة الخامسة» في عربة «الامبراطورية الاميركية» الآيلة إلى السقوط في «هاوية» التناقضات الحادة «للرأسمالية العنيفة» التي ترفض المصالحة مع الجميع، ومع نفسها أيضاً.
 
 
 
المصدر : اخبار الصحافة

Total time: 0.0522