بعد انقضاء أكثر من ثلث المدة المقررة – التسعة أشهر- للتوصّل خلالها إلى اتفاق شامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لم يتم بعد إحراز أيّ تقدم بشأن أيّ من القضايا المطروحة بين الجانبين حتى هذه اللحظة، رغم الاتفاق منذ البداية على تكثيفها على طول الأيام والساعات، بل إن العملية باتت مهددة أكثر في صميمها كلّما مر الوقت، بسبب اتهامات متبادلة، بتعمّد إفشال كل طرف للمفاوضات الجارية، من خلال المكوث على النوايا الخيالية، وعدم استبدالها بنوايا حقيقية التي من شأنها أن توجد حلولاً مُرضية.
ولقد تُرجمت هذه الاتهامات على الواقع وفي كل محطة من المحطات التفاوضية، باللجوء إلى نسفها، إذا لم يتم تنازلات ذات مغزى. وقد كانت تصدر من قِبل جهات فلسطينية إعلانات التهديد بوقفها، وإعلانات أخرى من جانب الإسرائيليين في الحكومة الحالية وخاصة صقورها، تدل على عدم استعدادهم لبحث قضايا مهمّة وعلى رأسها مدينة القدس والحدود وحق العودة. الأمر الذي يفرغ أيّة مفاوضات من مضامينها بالكليّة.
الشيء الأهم، جاء من الطرف الفلسطيني – المفاوض- الذي فار التنور من تحته، بسبب كثرة المطالبات الإسرائيلية التعجيزية، بالإضافة إلى إشهار كلمة (لا) طوال الوقت بالنسبة للمطالبات الفلسطينية، بالرغم من وصفِها لدى العديد من الساسة والخبراء وخاصةً الأمريكيين بأنها معقولة. إذ لم يستطع الطاقم الفلسطيني المفاوض الانتظار بثانية واحدة أكثر في حجرة المفاوضات، لذا وجد من الأسهل الإصرار هذه المرة على تقديم الاستقالة، مُفضلاً الغضبة الرئاسية في رام الله، على الجلوس أمام "يتسحق مولخو" السائر على قاعدة (لا تُوصي حريص) والممسك في ذات الوقت بتلابيب مسؤولة الملف التفاوضي "تسيبي ليفني" إلى ناحية حنجرتها البارزة، بحيث لا تتمكن من النطق بما تحفظ من المصطلحات السياسية المُرطّبة للأجواء التفاوضية على الأقل، والذي بات سلوكه التفاوضي فقط، يُشكل صداعاً مؤلماً لا يستجيب لأيّة مسكّنات طبيّة كانت أو بديلة.
لكن وبالتأكيد، هناك من يحسدون وبشدّة، الرئيس "أبومازن" وكأنه (بلا مرارة) تماماً، بشأن ثباته على موقفه الداعي إلى الاستمرار على النهج التفاوضي، ومن ناحيةٍ أخرى، تقبّله بكل أناةٍ وصبرٍ وطول حلم، إلى الآن ومستقبلاً أيضاً، كل أنواع التشدد الإسرائيلي بألوانه، والصلف الصهيوني بأشكاله، على الرغم من إدراكه بالتفصيل المفصّل، نوايا إسرائيل وأهدافها، وبأنها هي من تعلن نهاية عملية السلام. بسبب أن جميع مخرجاتها طوال فرصة الجلوس مباشرة (وجهاً لوجه) لم تساعد على خلق أجواء إيجابية لإنجاح المفاوضات. وفي ظل التهجمات الصهيونية المتتالية والعلنية على السلطة الوطنية وعليه شخصياً بشكلٍ خاص، من خلال تفوّهات المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم "أفيغدور ليبرمان" الذي فَجَر في التهديد والوعيد منذ أن برز على الساحة السياسية في إسرائيل وإلى الآن، ومن ناحية تعبيره عن استبعاده فكرة التوصل إلى حل مع الجانب الفلسطيني مستقبلاً. وفي ظل مشاركة "موشيه يعالون" له أيضاً، الذي ما فتئ بالوعيد هو الآخر، محاولاً الربط بين العملية السياسية الجارية وبين الارتفاع الحاصل في العمليات الفلسطينية ضد الإسرائيليين، ومع ذلك يظل ثابتاً على موقفه، والذي يؤكد من خلاله مواصلته المسيرة السلمية والتزامه التام بالأشهر التسعة الحاضنة للمفاوضات. ولم يتوقف الأمر عند هذا الأمر، بل وأكّد بـ (مهما حصل على الأرض) ويعني، في حال استمرار التعنت الإسرائيلي ومواصلة الاستيطان، أو في ظل نشوب عنف أكثر سواء من الطرف الإسرائيلي أو من الجانب الفلسطيني على سبيل انتفاضة ثالثة.
وبناءً على موقفه هذا، فهو بأيّ حال وإلى الآن، ليس في نيّته قبول استقالة الوفد المفاوض التي أُعلن عنها مؤخراً، بعد استماعه إلى الأسباب الداعية إليها، وعلى رأسها التشدد الإسرائيلي، واستمرار الانتهاكات الاسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الاستيطانية، وأوصى بأن عليه – الوفد- الصمود أكثر داخل القاعة التفاوضية وإن تحت وظيفة (مسيّر) لأعمال المفاوضات على الأقل.
من جهتها جددت اللجنة المركزية لحركة فتح التزامها بالتأكيد على موقف الرئيس، وجهوده المبذولة من أجل السلام، ضمن السقف الزمني المتفق عليه وبحده الاقصى تسعة أشهر، داعية الحكومة الإسرائيلية إلى التجاوب مع الجهود اللينة المتبوعة من قِبل الرئيس، وعدم تضييع الوقت من خلال وضع العراقيل، التي يمكن أن تؤدي إلى إفشال العملية التفاوضيّة برمّتها.
ولا شك، فإن تشدد "نتانياهو" وأعضاء حكومته نابع عن اعتقادهم بأن عودة القيادة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات ومواقفها على هذه الصورة، جاءت نتيجة الضغوط الأمريكية وطمعاً في المحفزات الاقتصادية الأمريكية التي انتشرت على السطح مؤخراً، وللحفاظ على وجودها ومكتسباتها على مدار العقدين الفائتين، بعدما غزاها الشعور بالضعف السياسي العام، الذي يحول دون قدرتها على صناعة خيارات وبدائل أخرى.
وبالمقابل فإن ليونة الرئيس "أبومازن" إلى هذه الدرجة، ربما كانت في نطاق محاولته إثبات المصداقية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي نحو السلام، ولضمان تدفق تأييد دولي أكبر للحقوق الفلسطينية المستحقّة. كما أنّه ربّما لا يزال مؤمنٌ بالرعاية الأمريكية، وطامعاً في استجلابها إلى جانبه أكثر مما هي عليه الآن، سيما وأنه في انتظار وزير الخارجية الأميركي "جون كيري" الذي سيزور المنطقة خلال الأيام القليلة المقبلة. على أمل استطاعته القيام بإجراءات تكفل وقف التدهور الحاصل في عملية السلام، جرّاء الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة، وإبداء مقترحات أخرى تهيّء لمنافذ جديدة في سبيل الخروج الآمن من الورطة الحاصلة. إلى جانب تبريره بأنه لن يدع ولو جزء من حجة للإسرائيليين بعد تلك الفرصة، ليتسنّ اتخاذ القرارات المناسبة، ومنها النيّة في التوجّه إلى المجتمع والهيئات الدولية المختلفة.
وبالرغم من درجة اليقين التي يعتقد بها "نتانياهو" من تحقيق تلك النيّة في المستقبل، فإنه أكثر وعلى غير العادة من تصريحاته خلال الفترة الأخيرة، من أن المفاوضات ليست مجمّدة، وبأن حكومته لا تزال متمسكة بطاولة المفاوضات باعتبارها الطريق الأمثل في صنع السلام. ومن جهةٍ أخرى قام بدعوة الرئيس "أبومازن" إلى تبادل الزيارات لكلٍ من القدس ورام الله، بهدف بناء الثقة وإبداء حسن النوايا، لكن كل ذلك على ما يبدو، لن يفضِ إلى شيء ولن يؤدِ إلى نجاحات متقدّمة وذات شأن، بالنظر إلى التطلّعات الإسرائيلية الزائدة عن الحدود، حيث أن في الأفق تدور نوايا أخرى، هي في الاتجاه المعاكس تماماً، وهي المتعلقة بإثارة الورقة الإيرانية من خلال مواقف وأساليب أخرى أكثر جرأة، والتي ترى إسرائيل فيها ملاذاً يُنجيها من مشاحناتٍ محلّية قاسية وعذابٍ أممي أليم.
خانيونس/فلسطين
بدون مرارة في جوفه !
اخبار الساعة - د. عادل محمد عايش الأسطل