هل يحتاج المرء أن يكون محللا سياسيا لكي يعرف أن اليمن يسير نحو الكارثة؟
على خلفية الأحداث الأمنية الأخيرة في اليمن ولعل آخرها تفجيرات وزارة الدفاع التي تمثل السيادة الوطنية وهيبة وقوة الدولة، في هذه الأجواء المحبطة لا يستطيع المراقب والراصد، بل وحتى اعتى الساسة أن يتوقع تفاصيل ماذا يجري ناهيك عن التنبؤ بالمستقبل، وذلك لما آلت إليه الأوضاع في اليمن (السعيد) بعد اختلاط الأوراق وتداخلها، بل ومحاولة خلطها كي يصبح الرأي العام في حيرة من أمره. في أجواء غامضة وفي غياب الشفافية يصبح كل شيء متوقعا لدى المواطن البسيط. فلا يكفي همومه اليومية في تعثر معيشته وأمنه ومشاهداته اليومية والوطن ينزف بسكاكين ساسته. فلم يعد يعِ من ضد من. وهذا فعلا ما يجري حاليا وليس ضربا من المبالغة لما يدار في المشهد السياسي. فليس بالضرورة أن يكون المواطن محللا سياسيا ولكنها الحالة المأساوية تستدعيه يتساءل إلى أين يسير اليمن؟
لعل من دروس المرحلة الانتقالية وتحديدا منذ نحو شهرين بعد تعثر الحوار الوطني الذي انطلقت فعالياته منذ مارس الماضي وكان مفترضا أن ينتهي في سبتمبر، تزامن ذلك مع انسداد في الأفق السياسي بتفشي حالات العنف شبه اليومية، أدى ذلك لهشاشة هيبة الدولة وتلاشيها وتأكلها. ويستنتج من ذلك بداهة بأن المبادرة الخليجية تحمل بذور فنائها في نصوصها لأنها في أهم نقاطها كانت مجرد عبارات عامة ولم تتوقع ولم تفترض احتمال تعثرها حال التنفيذ ومنها بقاء الرئيس السابق في قيادة حزب المؤتمر والذي ارتبط اسمه به لأنه هو من أسسه. صحيح انه عُزل من الرئاسة بموجب المبادرة ولكنه لم يعتزل السياسة، ولازال يحكم نصف الحكومة الانتقالية ويعارضها في نفس الوقت وهذه من مفارقات الربيع العربي في نسخته اليمنية، وإلا فماذا يعني تعثر بل وتعقيد القضية اليمنية التي يفترض أن المرحلة الانتقالية المنصوص عليها على وشك الانتهاء.
ويبدو أن مرحلة انتقالية ستلد أخرى والمآسي تتلاحق.
من جهة أخرى يبدو أن العرّاب الأساسي وهو العامل الخارجي الإقليمي والدولي لا يدرك تفاصيل معاناة المواطن البسيط بقدر ما يهمُه وضع اتفاق كان يفترض حسن النوايا من قبل المنفذين، وهو الأمر الذي ليس متوفرا للأسف. ولعل ابسط إخفاق هو مبدأ "الحصانة" الذي ترجم عمليا في اعتزال السلطة وليس السياسة وهذه هي أهم إشكالية في المشهد السياسي الحالي، وقد شملت الحصانة كل من عمل مع الرئيس السابق وهذا يعني إنها ستشمل مسئولين في النظام الحالي بل والرئيس عبدربه نفسه والذي خرج من رحم النظام السابق، وتجعل كل المتصارعين اليوم في خندق واحد!
وهذا التناقض الأبرز الذي يفضح مدى هشاشة المبادرة. وعليه فليس عيبا الاعتراف بالإخفاق.
تأتي هنا الحاجة لمبادرة. فاليمن يحتاج لمبادرة جديدة ليست خليجية هذه المرة بل أممية تهدف إلى خروج كل اللاعبين- الغث والسمين- من المشهد لإتاحة الفرصة لوجوه جديدة لم تتلوث بدنس السلطة. ولكن قد تبدو مثل هذه الدعوات مثالية وغير عملية وتدخل في باب التمنيات والحلول الافتراضية التي لا تلقى لها صدى في الواقع. وهنا تصدق فرضية أن اليمن لن يكون سعيدا ألا بتواري كل اللاعبين في المشهد السياسي. وألا فأن الخاسر ليس الشعب اليمني فحسب بل المنطقة بأسرها. فإذا تهدم سِد مارب مرة أخرى فالكارثة ستعُم ولن تخص وتداعيات ذلك معلومة. ثم أن القوى الخارجية إقليمية كانت أم دولا راعية، لا تهتم عموما بالتفاصيل بقدر ما ساهمت في إرساء قواعد وخطوط عريضة منها اعتبارات امن المنطقة القومي وتنفيذ إستراتيجيته عامة. ففي إشكال بحجم القضية اليمنية لم تعد حتى بإرادة الشعب اليمني. فمن ثمار سياسة اليمن الخارجية منذ إعلان الوحدة صب في ارتهان القرار اليمني تدريجيا بلغ حده الأقصى في المرحلة الراهنة المأساوية، وربما القادم أسوأ طالما أطراف الصراع السياسي هم نفسهم المتحالفون بالأمس. فكيف يراد لولوج اليمن لمرحلة تحولات وصناع الأزمات هم من يديرون المرحلة؟
ما يميز القضية اليمنية إنها مغلفة بألغاز وطلاسم لا يفك رموزها إلا العالمون بالغيب وربما الأطراف الخارجية اعلم من عامة الشعب بتفاصيل ما يجري وماذا سيجري. صحيح أن هذه الحكومة الائتلافية الحالية أخفقت في جملة من القضايا لكونها سياسية بامتياز وليست تكنوقراط كما يقال. وهناك أمثلة كبيرة للمحاصصة في العراق وغيره فتعثرت تجاربها جراء تسييس الوظيفة العامة ابتداء من رئيس الحكومة وحتى تفاصيلها البسيطة في صغار المسئولين. وفي اليمن وقياسا لهذا النماذج الفاشلة أمامنا في بلدان أخرى يجب أن يدرك الرأي العام بأنه ليست الحكومة الحالية كل شيء فقد أتت على تركة ثقيلة من الفساد المطلق لثلث قرن مضى، فكيف لها أن تحل كل مشاكل وهموم اليمن بضربة سحرية، ناهيك على أنها ليست متجانسة ثم أن الحكومات مجرد أداة تنفيذية وتعمد على التخصصات أكثر منها عملا سياسيا. بينما الحاصل إنها أتت على تقاسم المغانم على اعتبار أن المسئولية غدت مغنما وليست مغرما إلا في النصوص والشعارات فقط، تماما كبقية القيم التي تلبست وغدت في دروس التربية الوطنية وحسب، فالجمهورية ليست بجمهورية كما أن الديمقراطية مجرد فوضى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ناهيك عما يتم مناقشته في الحوار من فدرالية سبل الوصول للحكم الرشيد. ولطالما تغنت الحكومات السباقة بالحكم الرشيد ولم نر سوى حُكما غبيا وغير رشيد؟ والحكومة بأي حال من الأحوال لا تتمكن من عمل شي في أجواء تآمرية للاعبين السياسيين في المشهد السياسي، لو ينزل على أهل اليمن نبي مُرسل لن يستطيع حل كل هذه المشاكل فما بالك بحكومة هجين نصفها يعارض النصف الآخر!
بعد تعثر ربيع اليمن الذي من اجله خرج الشباب والكهول والعجائز بالملايين لساحات وميادين العاصمة والمحافظات في مشهد لم نألفه من قبل وكان المتوقع أن ينبلج النور من حقب الظلمات، ولكن للأسف هناك من ركب موجة الثورة من القوى المتحالفة في السابق المتناحرة اليوم. لقد حلم الشعب وهذا من حقه من اجل دولة مدنية يتساوى فيها المواطنون، ولا يُعقل أن يقبل الشعب بأنصاف الحلول. وعليه فأني انطلق وربما غيري أيضا من مقولة: اشتدي يا أزمة تتفرجي، ومهما طال الليل فالصبح آت، لا محالة، ولولا السراب لمات الظمآن يأسا.
هذا الشعب بعد معاناة طويلة يستحق هذا الأمل، والذي بأذن الله سيتحقق في نهاية المطاف، ولابد أن يكون البديل دولة مدنية لا يحكمها عسكري أو شيخ آو حتى من تلوثت يده بالسياسة القذرة التي غدت غاية وليس وسيلة، فقد دلت التجارب من حولنا بأنها لا يفلح قوم ولوا أمرهم عسكريا، فتجريب المجرب ضرب من الحماقة!
دبلوماسي يمني وكاتب سياسي