وإن هدأت عواصف قضايا السودان لدى الغرب وخاصةً الولايات المتحدة، عقب انفصال الجنوب، لكنها لم تهدأ لحظةً واخدة في الداخل الجنوبي منذ انسلاخه عن الدولة الأم السودان الكبير منذ ما يقارب من ثلاثة أعوام، نتيجة الاستفتاء الذي أجري للسكان بناءً على اتفاق السلام الذي أُبرم في نيفاشا الكينيّة، عام 2005، بعد حرب أهلية دامت أكثر من 20 عاماً بين الحكومة المركزية وحركة الجيش الشعبي لتحرير السودان، حيث ترتبت على هذا الانسلاخ، مشكلات لا حصر لها، فاقت بكثير تلك التي كانت محتملة، وتزامنت معها تضاؤل قيمة الوعودات الغربية والإسرائيلية إلى درجاتها الدنيا، حيث لم يتحقق منها أي شيء سوى الدعم باتجاه الانفصال، وما يتعلق بشأن بناء القواعد العسكرية التدريبيّة والتجسسية الأخرى.
صحيح في السنوات الأخيرة، كانت ساهمت البلدان الأجنبية ووكالات المعونة الدولية والأمريكية USAID)). في عددٍ من مشاريع البنى التحتية، وخاصةً فيما يتعلق بإنشاء الطرق والمدارس والمباني الحكومية من أجل تعميق المنطقة كدولة، لكن تلك الجهود، لم تكن منتظمة، وليست مستهدفة على نحوٍ صحيح، وبالتالي لم تكن ناجحة.
لقد تمثّلت مشكلات الجنوب في قضايا داخلية وأخرى على النطاق الخارجي. حيث كانت الحالات الاقتصادية السيئة، والأمنية المعدومة، والتناحرات السياسية القائمة، والاقتتال الداخلي، كانت السائدة طوال الوقت، فمنذ أصبح الجنوب دولة مستقلة، داومت عدة جماعات متمردة على مقاتلة الحكومة وتعهّدت بإسقاطها. حيث عانت البلاد من قتال عرقي -جدّي- أذكته الأسلحة التي خلفتها عقود من الحرب مع السودان، وتدل الأحداث الدموية الجارية على حجم الانقسامات الطائفية والعرقية في هذه البلاد. والتي تعتبر على رأس المشكلات الداخلية الصعبة التي من المتعذّر إيجاد حلولٍ لها خلال عقودٍ لاحقة من الزمن.
كما أنه وفي ظل غيبة الوفاء الغربي بالعمل على استقرار البلاد وبتقديم المساعدات الاقتصادية والإنمائية الأخرى، التي دق صدره بالتكفّل بها منذ البداية. إلى جانب الديون الخارجية للبلاد التي تقدر بحوالي 15 مليار دولار، ساهمت في تعظيم المصاعب المعرقلة لاستقرار السكان وتعطيل شبه كامل في المجالات الاستثمارية خاصةً في القطاعين النفطي والزراعي، اللذان يجدان صعوبة في تحقيق أيّة آمال اقتصادية جادة. حيث لا تشكّل واردات النفط أكثر من ملياري دولار سنوياً، والزراعي بالرغم من أن هناك إمكانات كبيرة فيه، إلاّ أنه لا يشكّل إلى حد الآن مدخولاً ذا قيمة تُذكر، والقطاعين معاً غير كافيين لاستنهاض أمّة وبعث شعب. إضافةً إلى عوامل هادمة مثل انتشار الفساد وعدم كفاءة السلطات الحاكمة.
كما أن العلاقات التي نشأت مع دولة السودان الأم، لم تكن طبيعية تماماً حتى الآن، نظراً لتعقيد القضايا بينهما ولم يتم التوصل إلى إيجاد حلولٍ لها حتى الآن، والتي تتمثّل في قضايا الحدود (منطقة إبيي) وحقول النفط المحاذية ومراعي قبائل المسيريّة والدينكا المتداخلة فيما بينها، كما أنها لا تحتفظ بعلاقات جيدة مع الكثير من الدول الإقليمية والدولية، إلى جانب أنها دولة أنها تعتبر دولة ضعيفة وبلا وزن وغير فاعلة في المجتمع الدولي.
لقد أوضحت الصور الآتية من هناك مدى الحالة الاقتصادية القاسية التي ألفها السكان ولا تزال البلاد تعتبر أحد أفقر الدول وأقلها تطوراً في أفريقيا، رغم احتياطياتها النفطية حيث أن سكانها يعانون ظروف مؤلمة ويفتقرون إلى أبسط متطلبات العيش من القلّة والجوع. ووفقاً للمسح، من فإن ألـ 9 ملايين الذين يعيشون في جنوب السودان، مع 4 ملايين منهم المسيحيين. يعيش 90 ٪ منهم في الفقر المدقع، حيث لا يتجاوز دخل الفرد هناك، الدولار الواحد يومياً، مع عدم وجود رعاية صحية سوى لأقل من 10% من سكان الجنوب بشكل منتظم. وهناك 18 ٪ منهم يعيشون في ظروف تصل إلى حدود المجاعة. ولا عجب أن يكون جل الفارّين والمتسللين إلى إسرائيل هم من نفس المكان.
الآن وفي خضم تلك المشكلات، تأتي المشكلة الأضخم، والتي تمثّلت في محاولة الانقلاب الدائرة تداعياتها إلى اللحظة، التي قام بها موالين لنائب الرئيس "رياك مشار" الذي لجأ إلى خلعه الرئيس "سيلفا كير" لتجعل البلاد على شفا حرب أهلية، وتعاني الحريق الأكبر. حيث ترأس مجموعة من الجنود والسياسيين الذين حاولوا الإطاحة بالحكومة الحالية، واندلعت أعمال شغب عرقية في أنحاء البلاد وخاصةً العاصمة جوبا.
بدايةً، مئات القتلى والجرحى وحوالي 20 ألف فرّوا هرباً نحو مناطق آمنة، وإلى منشآت الأمم المتحدة الموجودة في العاصمة، والتي تعرضت للهجوم هي الأخرى. وليس هناك علامة تدل على أن في الأفق تهدئة ما، فالمتمردون من قوات "مشار" لا يزالون يسيطرون على مدينة (بور) عاصمة ولاية جونغلي، والتي تعتبر واحدةً من أكثر الأماكن اضطراباً. وهناك سيطرة على مناطق واسعة من ولاية شرق الاستوائية. وقد سجّلت خلال المدة الفائتة العديد من الاشتباكات مع القوات الحكومية حاولت صد قوات المتمردين، التي امتدّت إلى حقول النفط. ولهذا يخشى المجتمع الدولي من اندلاع حرب أهلية مستمرة ودامية.
حذّر الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" من أن دولة الجنوب على شفا حربٍ أهلية وصف مسؤول أمني أمريكي بأن الوضع أصبح عرضةً للخطر. كما حذر رئيس مجلس الأمن الدولي الفرنسي "جيرارد أرو" من أن العنف هناك يمكن أن يتصاعد ليتحول إلى حرب أهلية. وبناءً على التحذيرات الصادرة والمعطيات الواردة، فقد هرعت بالفعل، الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، إلى إرسال عسكريين وطائرات، لإنقاذ مواطنيها تحسباً لوقوع كارثة.
ولكن هل تتطور هذه الأحداث إلى حرب أهلية؟ تضاربت الأنباء حول حقيقة ما يجري في البلاد لكن "مشار" لا زال يدعو إلى مواصلة القتال حتى إسقاط الحكومة. وبينما وصف رئيس البلاد "سيلفا" ما جرى بأنه محاولة انقلابية فاشلة نفذها جنود يدينون بالولاء لنائبه المقال، نفى الأخير حدوث ذلك، وحمّل الرئيس مسؤوليّتها المباشرة، متهماً إيّاه بمحاولة تغطية فشل حكومته في إدارة البلاد وحل القضايا العالقة.
إن أصل الصراع الحاصل في البلاد الآن، هو صراع بين الرئيس ونائبه المقال، وهو في الحقيقة صراع طائفي. إذ ينتمى "سيلفا" إلى قبيلة (الدينكا) فيما ينتمي "مشار" إلى قبيلة عرقية أخرى وهي قبيلة (النوير) وهما منذ الأزل تفتقران إلى الحد الأدنى من التوافق والانسجام، الأمر الذي من شأنه الدفع وبقوّة، نحو تأجيج الصراع في ضوء عدم الحوار فيما بينهما، ومن ثمّ الانزلاق في أتون الحرب الأهلية، التي حتماً ستكون تداعياتها أكبر من ذي قبل.
خانيونس/فلسطين