لم تكُن إرادة التوسع الإيرانية، المبنية على “إمبراطورية أيديولوجية”، وليدة الصدفة بل هي نتاج عمل مضن مُستمر منذ أكثر من 30 عاماً، إذ تبنت الجمهورية الإسلامية سياسية الالتفاف على دول المنطقة، من خلال تغذية دول في القارة السمراء، تواجه معضلات عدة، وجدتها طهران وسيلة لدخولها وبسط نفوذ يهدف بالدرجة الأولى لتحقيق ما تعتبره الأيديولوجية الإيرانية حلماً إمبراطورياً من الضروري تحقيقه، بصرف النظر عما سيكلفه الأمر من وقت ومدة زمنية.
وعلى سبيل المثال “جماعة الحوثي” في اليمن التي خاضت معها الدولة اليمنية 7 حروب وعجزت عن دمجها في المجتمع اليمني، لم تكن بعيدة عن وضع طهران لها كأداة لتنفيذ سياسة الالتفاف على دول المنطقة، إذ استطاعت إيران توظيف تلك الجماعة وبـ”شكل عقائدي” لخلق “بُعبع” لدول الخليج، يخدم بالدرجة الأولى حلم التمدد الإمبراطوري الإيراني.
كشف الحقائق
في آخر الحقائق التي تبنت “الوطن” أخيراً الكشف عنها، طبقا لوثائق سرية حصلت عليها من مصادرها الخاصة، تتضح جلياً الإرادة الإيرانية المبنية على تغذية جماعة “الحوثي” في اليمن، بالرجال والعتاد، وتدريب أعداد من تلك الجماعة على أراضي جزر إريترية، قامت الحكومة الإريترية بتأجيرها لطهران، مقابل تقديم بعض المعونات وإن بشكل غير مباشر.
اجتماع “فندق اليمنيين”
وطبقاً للوثائق التي تكشف عنها “الوطن” في جزئها الأخير، عقد في غرة العام الهجري الماضي، تحديداً في اليوم السادس من الشهر الأول من عام 1434، في فندق يعرف بـ “فندق اليمنيين” بميناء عصب الإريتري، اجتماع بين تجار يمنيين وإيرانيين وأصحاب الزوارق التي تنقل المهربات من القرن الأفريقي إلى اليمن، خصوصا تجار السلاح المرتبطين بالحوثيين، وكذلك المخدرات.
2008 بداية العلاقة المشبوهة
وتقول الوثائق إن الجانب الإيراني أخذ على عاتقه عملياً الدخول إلى القارة السمراء عبر “إريتريا”، في نهاية عام 2008، حيث عمدت طهران إلى تدريب العسكريين الإريتريين التابعين لسلاح المشاة، وصيانة الأسلحة والمهندسين، ومن هنا بدأت عملية التوسع شيئاً فشيئاً.
أنظمة اتصالات بحرية
وبحسب الوثائق، فإن البحرية الإيرانية زودت حينها نظيرتها “الإريترية” بأنظمة اتصالات للبحرية شملت “رادارات، وأجهزة لكشف الأعماق، وأجهزة إنذار مبكر”، تم تركيبها لاحقاً على المحطات البحرية الثابتة، والقطع المتحركة، بواسطة خبراء إيرانيين موجودين في الأساس بميناء “مصوع” الإريتري.
موانئ عسكرية بإشراف إيراني
وتتعاون إيران مع حكومة إريتريا في عدة مشاريع، كإنشاء ميناء عسكري في جزيرة “ترما” الواقع شرقي ميناء “عصب”، بإشراف مهندسين إيرانيين وبمواد بناء تم جلبها من إيران إلى ميناء “مصوع”، وتم نقلها تدريجيا وبأغطية متفاوتة إلى ميناء “عصب”، ومن ثم مكان إنشاء الميناء العسكري.
السلطات اليمنية تكشف المخطط
شحنة السلاح المقدمة من الجمهورية الإسلامية إلى جماعة الحوثي في اليمن، كان لها الفضل في كشف تلك المخططات، التي تعتمد على تغذية تلك الجماعة بطرق ملتوية. حيث قدمت طهران مساعدات عسكرية للنظام الإريتري، وأفرغت شحنة أسلحة من طائرة إيرانية في مطار “أسمرة”، وقبل ذلك قدمت إيران شحنة أسلحة تم إفراغها في ميناء “مصوع”، وأخرى تم القبض عليها من قبل السلطات اليمنية في سواحل حضرموت، كانت هي السبب في كشف التوغل الإيراني في تلك المنطقة، من أجل إمداد الحوثيين بالسلاح لإحداث قلاقل لدول المنطقة.
تحركات وأنشطة ملحوظة
وتقول الوثائق، إن نشاطاً ملحوظاً ومكثفاً للعربات والشاحنات والمعدات العسكرية التابعة للوجود العسكري الإيراني في إريتريا، خصوصاً من ميناء عصب إلى المعسكرات الخاصة بالإيرانيين بالداخل، وهو ما يعطي دلالات دامغة على وجود معدات وأسلحة تم توريدها، في وقت لوحظ فيه وجود أفراد عرب في تلك المعسكرات، مما يؤكد وجود معسكرات مهمتها الأساسية “تدريب الحوثيين”. يضاف إلى ذلك رصد وصول باخرتين إيرانيتين إلى ميناءي “عصب – مصوع”، محملتين بحاويات كبيرة لا يُعلم محتواها، تم نقلها على الفور إلى المعسكرات الإيرانية، بحراسة من الجيش الإريتري.
توغل في إطار الاستثمار
مؤخرا لوحظ وبشكل قاطع، تزايد الأنشطة الاستثمارية الإيرانية، مقروناً بزيادة وجود عناصر يمنية في منطقة “مصوع”، وهو ما يُعطي إشاراتٍ لها علاقة بمحاولة الحصول على مصادر جديدة للدعم من إيران، أو أي دولة أخرى عن طريق إريتريا.
الحوثيون في استقبال السلاح الإيراني
وتشير الوثائق السرية إلى رصد وصول باخرةٍ إيرانية محملة بالسلاح إلى مرسى “تخلاي” كان في استقبالها عدد من الأشخاص من الجنسية اليمنية “حوثيون”، وأشرفوا على عملية تفريغ الباخرة من السلاح بواسطة عربات، ومن ثم تحركت العربات باتجاه جزيرة “دهلك”، ليتسنى تهريبها في نهاية المطاف إلى الأراضي اليمنية. يُضاف إليها وصول طائرة إيرانية إلى ميناء “مصوع” محملة بمواد متفجرة تدخل في صناعة ذخائر الدبابات والأسلحة الثقيلة، نقلت هذه المواد إلى معسكر “دنقلو”، بالقرب من “مصوع”، وهو المعسكر الذي يُعدُ مقراً لسلاح البحرية الإريترية، ويضم في جنباته مصنعا للحديد والصلب، تم إنشاؤه في بداية العام 2005، بخبرات إسرائيلية، وبدأ الإنتاج فيه عام 2006.
مواد متفجرة
ورصدت التقارير وصول سفينة حربية إيرانية لأحد الموانئ الإريترية، قامت بإنزال مواد تموينية، إضافة إلى معدات تشمل “مولدات كهربائية، وغرف مكيفة جاهزة “كرفانات”، تم نقلها شمالاً بواسطة الشاحنات باتجاه معسكرات بالقرب من منطقة “رأس قصار”، يُعتقد أنها معدة لسكن الخبراء الإيرانيين.
نقاط التهريب من إريتريا إلى اليمن
وتتم عمليات تهريب السلاح إلى الأيادي الحوثية في اليمن، عبر السواحل الإريترية، ويرجع السبب إلى عجز الحكومة اليمنية عن فرض قبضتها وبقوة على تلك الممرات المائية، في عمليات التفتيش عند عبور القوارب والأشخاص، وهذا ما سهل عمليات التهريب في هذه النقاط.
ميناء ميدي.. شريان التهريب لليمن
وعمليات التهريب تلك تتم وصولاً إلى المناطق التي تقع على الساحل في “ميناء ميدي” المُطل في الأساس على السواحل الإريترية، حيث يتم تنزيل المواد المهربة من السفن، بعد أن ترسو في المياه الدولية عن طريق القوارب، وهي “عزقة بن علوان، ومرسى سعيد، والطويل، ومركز حبل من الشمال إلى الجنوب، ومركز عقم العاتي ومركز يحيص”، وتأتي “جزيرة مجعش” التي يستغلها الحوثيون كملاذٍ أخير عندما يضيق الخناق عليهم في النقاط السابقة.
الاستقبال والتدريب
وتقول الوثائق، إنه يتم استقبال العناصر الحوثية وجمعهم في إريتريا، ومن ثم نقلهم إلى معسكرات التدريب الموجودة في شمال إريتريا، وبالتحديد في منطقة رأس قصار، نظراً لبعدها عن الوجود السكاني ولكونها منطقة عسكرية ساحلية. ويرجح وجود إحدى السفن الراسية بالقرب من “جزر زبير” التي يتم استخدامها في عمليات تخزين الأسلحة والبشر، ومن ثم نقلها بواسطة قوارب الصيد بين سواحل البلدين. ويُوظف مرسى “ترما” الذي يبعد 35 كيلومترا شمال “ميناء عصب”، مقابل مدينة المخا الواقعة على الساحل اليمني، ويعتقد أنه تم إنشاؤه سابقاً بمساعدة “إيرانية”، لاستقبال السفن الصغيرة، ولا يستبعد استخدامه لنقل السلاح المهرب من إريتريا إلى اليمن.
التدريب على يد إيرانيين
يتم تدريب عدد من العناصر الحوثية تحت إشراف مجموعة من المدربين العسكريين الإيرانيين في معسكر تدريب يقع في منطقة غير مأهولة بالسكان بالقرب من مرسى “بريطي”، وبالقرب من منطقة “رأس قصار” شمال إريتريا، إضافة إلى مرسى حسمت وهو مرسى قديم يبعد حوالي 31 كيلومترا جنوب منطقة رأس قصار. ومنطقة تعرف باسم متر، وهي منطقة صحراوية جبلية تبعد حوالي 44 كيلومترا جنوب منطقة رأس قصار. فيما أشارت الوثائق إلى الانتهاء من تدريب 120 عنصرا من الحوثيين على السلاح في هذا المعسكر. ويعتبر مرسى برعصوليا، ومنطقة ساحلية تعرف باسم خور حمار، بالإضافة إلى مرسى طيعو، أهم المعابر الرئيسة المستخدمة لتهريب البشر والسلاح من إريتريا إلى اليمن.
مشروع الأخطبوط التوسعي
في ذات السياق، لم يجد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت الدكتور عايد مناع، خلال حديث له مع “الوطن”، بُداً من وصف الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ”الأخطبوط”، الذي يقوم على حلم توسعي “إمبراطوري”، يهدف إلى وضع يده على أكبر قدر من المساحة في المنطقة، عبر تغذية جماعات متطرفة هنا وهناك، ويستغل في ذات الوقت بعض الدول الفقيرة في القارة السمراء، كإريتريا على سبيل المثال.
سياسة الالتفاف
الدكتور مناع، يجد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تنظر لدول المنطقة نظرة وصفها بـ”الدونية”، وهو ما أعطاها مجالاً للحلم أكبر، بأن تسعى لتنفيذ سياسة الالتفاف، من خلال المناطق أو الدول “الرخوة”، التي تستطيع من خلالها تغذيتها في إطار مشروعها التمددي والتوسعي. واستدل باليمن التي تنشط طهران في تغذية أطراف متطرفة فيها كجماعة الحوثي، وحزب الله في لبنان، من أجل خلق قلاقل لدول المنطقة.
التوسع على أساس أيديولوجي
التوظيف الأيديولوجي الذي تتخذه طهران ركيزة في حلمها التوسعي، يجده أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت بمثابة عقيدة لا تواجه إلا بعقيدة مقابلة. وتعتمد طهران طبقا لمناع على “تصدير الثورة للعالم الإسلامي”، عبر استغلال دول القرن الأفريقي بالمال، وسد باب الحاجة. واستدرك بالقول: لا تستغرب أن تجد إيران تضع أصبعها في القارة السمراء. هذا أمر يستدعي من دول المنطقة المعتدلة الالتفات من أجل قطع المشروع الإيراني التوسعي. يجب مواجهتها بخلق مصالح مع تلك الدول لسد هذا الباب أمام المشروع الإيراني الإمبراطوري، أو يجب مخاطبة الآخرين بلغة المصالح.