اخبار الساعة - مروان الغفوري
في هذا المعمار الضخم للفوضى، اليمن، سنعثر على بعض العناصر المفتاحية المؤسسة. دعونا نتذكر أن حوالي 400 ألف خبراً سيئاً نشر عن اليمن في العام 2013 بحسب إحصائية لمؤسسة محلية. قبل 150 عاماً كتب عالم الاقتصاد الفرنسي فريدريك باستيات: إذا لم تعبر البضائع الحدود سيعبرها الجنود. تطورت بعد ذلك حالة العالم، فعبرت البضائع والأفراد والأفكار. وصلت البضائع الحديثة إلى صنعاء وعدن. في العادة: لا يعتبر المنتج محايداً، وهنا يكمن سر دفاع خصوم العولمة كاليسار الدولي. لقد وصلت البضائع ومعها الأفكار. أصبحنا، بشكل ما، ندور في عالم الحداثة السائلة التي إحدى تجلياتها العولمة. أي لقد دخلنا في الأفكار. ذهب المثقف، وكذلك السياسي ورجل الدين، إلى المتجر. اشتروا الكوكاكولا وشرائح الهامبورغر المجمدة. في الطريق تبادلوا الحديث عن الديموقراطية، وربما التقطوا من الرصيف نسخة مترجمة من اللوموند ديبلوماتيك، أو النيوزويك قبل توقفها. في اليوم الثاني كانوا "يختانون أنفسهم". اعتقد المثقف، ربما، إنه يكفي أن تشتري الكوكا كولا واللوموند ديبلوماتيك لكي يصبح كل شيء على ما يرام. قيم الديموقراطية وأخلاقياتها لا علاقة لها، فيما يبدو، بانحياز المثقف العربي إلى الديموقراطية. إنهم الديموقراطيون غير الديموقراطيين. سيعرفون الإرهاب على هذا النحو: استخدام السلاح، أو التلويح باستخدامه، لتحقيق أهداف سياسية أو دينية إو إثنية. يظهر الحوثي إلى الحيز العام. سيستخدم السلاح لتحقيق أهداف دينية وإثنية وسياسية، مجتمعة. سيلقي خطاباً يشرح فيه حركته: إنها نشاط ديني يهدف لتحقيق مراد الإله "الولاية". أي حراك ديني مسلّح يصبو لتحقيق منجز سياسي وإثني. يعجز المثقف اليمني عن وصف نشاط الحوثي بالإرهاب، رغم إن الحوثي استوفى كل شروط الإرهاب، بحسب تعريف المثقف له.
المثقف اليمني غير متّسق مع نفسه. إنه يخونها على الدوام بفعل وقوعه تحت دائرة حسابات لا تتمتع بأقل قدر من المشروعية الأخلاقية. لقد عبرت البضائع إليه من الخارج، ولم تعبر الأخلاق. عبرت المعرفة المجرّدة، ولم يعبر الضمير. استورد شرائح الهامبورغر ولم يعِ القيمة الأخلاقية التي تتضمنها هذه الشرائح: تناسق السعر مع الجودة، تطابق بيانات الملصق مع المضمون. المثقف العربي، اليمني، قرد عاري، لا يزال.
كان المثقف العربي، على الدوام، غير متّسق مع ذاته، ومع نظام أفكاره. فطلائع الليبرالية العربية، المعتزلة، واجهت السلفية الحنبلية بصرامة تحت لافتة العدل والتوحيد. تعرضت للاضطهاد لكنها سرعان ما وصلت إلى القصر. اختار الحاكم شاعراً معتزلياً "محمد عبد الملك الزيات" للوزارة. سرعان ما نسي الزيات كل القيم الأخلاقية حول الحق والعدل وحرية الضمير. صنع تنوراً عظيماً ألقى فيه بأشهر خصومه "الثقافيين". كان يصيح في مجلسه: الرحمة خور في الحكم. تقلبت الأمور، فألقي به أخيراً في التنور ذاته. عندما ألقى به جلاد جديد همس في أذنه: الرحمة خور في الحكم.
في العام 2012 يسافر الكاتب المعروف عبدالحليم قنديل إلى اسكندرية. يقدم مساهمة فكرية يقول فيه إن كل ضابط كبير في الجيش المصري لم يعد يطمح لأن يكون شبيهاً بعرابي وعبدالناصر، بل بأحمد عز. قال إن المجلس العسكري يدير 40 % من اقتصاد مصر، وإن هذه الثروة تقع كلّياً خارج حسابات الدولة ومعرفتها، إنها مملكة اقتصادية معزولة. كان المثقف المصري على علم بهذه الكارثة الوطنية، لكنها سرعان ما نسيها. كان قنديل من ضمن أولئك الذين لم يعودوا يتذكرون ما قاله قنديل. لقد اختانوا أنفسهم. المثقف اليمني، في الجانب الآخر من البحر الأحمر، اتخذ موقفاً حاداً من جنرال الجيش علي محسن الأحمر. الجنرال الذي ترك رفيقه صالح يغرق في منتصف الطريق ولمعت في رأسه بعض القيم عن الحق والأخلاق فانحاز لنداءات الطلبة. كان أول جنرال عسكري يمني ينجاز لثورة الطلبة، التي ستصبح فيما بعد ثورة عامة. انشطر المثقف اليمني، ذو الموقف الحاد من جنرال الجيش في بلده، فيما يخص علاقته النفسية بجنرالات الجيش في بلدان الربيع العربي. فقد انحاز لجنرالات النظام السوري، وجنرالات النظام المصري. يرفض المثقف اليمني عرض موقفه على ذاته، على نظامه المعرفي والثقافي الخاص. على مدى سنيين من الخبرة والتجربة طور المثقف اليمني نظاماً معرفياً وأخلاقياً خاص به، لكنه لا يعمل على الدوام. إنه يدور في شبكة مبادئ فوق أخلاقية، فوق ديموقراطية، شبكة لا نصيب لها من الأخلاق. الحداثة، في الغالب، لن تتعدى قراءة اللوموند ديبلوماتيك وتناول شرائح الهامبورغر. لقد عبرت الكوكاكولا الحدود، ولم تعبرها المقاييس الأخلاقية والمعرفية الصارمة. دعونا نتذكر أن ما يتملكه ضابط واحد في المجلس العسكري المصري، بحسب معلومات كثيرة تتحدث عن تجاوز اقتصاد الجيش حوالي 230 مليار دولار، يعادل كل "تِباب علي محسن" عشرة آلاف مرة، على الأقل. المثقف اليمني الذي اتسق مع ذاته حين تعلق الأمر بالجنرال محسن سرعان ما فقد هذا الاتساق، كالعادة، عندما تعلق الأمر بجنرالات سوريا ومصر.
يهاجم المثقف اليمني النظام القبلي بضراوة. القبيلة، في اليمن، هي حقيقة تاريخية واجتماعية. كان لا بد للكائن البشري من أن ينتظم نفسه بشكل هيراركي ما، كشرط للبقاء. على الدوام لم يشكل اليمنيون سوقاً كبيرةً، ولم يجر في اليمن نهر كبير. هذا الغياب الكبير للسوق والنهر ترك اليمنيين في الجبال والوديان والصحراء مئات السنين. هناك تشكلت قوى بشرية بطريقة ما، القبائل. حتى الساعة، بالإضافة إلى غياب النهر، لم تحضر الدولة. كانت ألمانيا، حتى لحظة دخول نابليون، تتكون من 400 مملكة، رغم الأنهار. بدت الدولة في ملامحها الأولى أشبه بجزيرة صغيرة في بحر كله قبيلة. نشأت علاقات مختلفة بين القبيلة والدولة: حروب، صلح، تعاون، انصهار، بدرجات مختلفة. لا تكمن المشكلة الرئيسية في وجود القبيلة بل في الكفاءة المنخفضة للدولة. فالدولة الرخوة فشلت في تقديم نفسها، في الصورة الذهنية على الأقل، كبديل موضوعي وتاريخي للنظام القبلي، كنظام اجتماعي وسياسي كفؤ، فعال، وقادر على توفير الأمن وحراسة الحقوق. هذه هي الواقعية الأكثر صرامة في تاريخنا المعاصر، وهي كما نلمح الآن موضوع للدراسة والتفكيك والتجريب. إنها موضوع تاريخي ـ معاصر لا علاقة له بظواهر الهجاء ولا الإنشاءات البلاغية.
جاء المثقف اليمني المعاصر، وذهب ينقر في السطح: القبيلة، القبيلة. لكنه، كالعادة، لم يتسق مع نفسه. فالقبيلة كارثة مستقبلية، يقول المثقف، ثم تجلى في لحظات كثيرة كقبيلي مناهض للقبيلة، انحاز في خطابه المعرفي وانسجامه الأخلاقي إلى قطاع قبلي ضد آخر. شطر القبيلة إلى قسمين: أولئك الذين ينبغي أن نتحدث عنهم، وأولئك الذين لا ينبغي أن نتحدث عنهم. يتندر المثقف اليمني على شيخ ألحن في البرلمان بجملة، لكنه يتجاهل جاره في المجلس، الشيخ الآخر، الذي وقف أمام عيدروس النقيب مهدداً: اخرجوا الكلب الأجرب. وعندما يضرب النواب بأقلامهم على الطاولات احتجاجاً يصرخ فيهم الشيخ الآخر: معكم أقلام ومعنا أحذية! سيكون الشيخ الأول الأحمر، وسيكون اسم الشيخ الثاني الشائف. سينشغل المثقف اليمني في هجاء الأحمر ردحاً من الزمن، رغم كل محاولات الأخير للخروج من المنطقة السوداء، وسيتجاهل آخرين يفوقونه على صعيد انحيازهم للعنف، وحساباتهم الأنانية، وعمق انحراطهم في أنظمة الحكم.
القبيلة في اليمن، في بعض تجلياتها الاقتصادية، تحقق التعريف الماركسي الصارم للبورجوازية الانتهازية: التي كدست الثروة عن طريق علاقتها بأدوات نظام الحكم، ودورانها حوله. عندما تعبر بسيارتك من الحصبة إلى حدة ستكتشف إن سور قصر الشائف يبلغ ضعفي سور قصر الأحمر. سيواصل المثقف اليمني انشطاره أمام نفسه، وسيعجز عن تعريف البورجوازية طبقاً لماركس. سيقف على الدوام ضد بعض الطبقات الطفيلية ليس من موقعه كمثقف مستقل، بل كمثقف صديق لطبقات بورجوازية أخرى.
تنهار فكرة الحداثة كلّياً عندما تعثر على مثقف ينحاز، بطريقة ما، لشيخ قبلي لكنه سينفق وقتاً طويلاً في شرح كيف أن شيخاً قبلياً آخر يعتبر عدواً لقيم الحق والعدل والمساواة، وقيم التجارة النظيفة.
قال باستيات، الفرنسي، قبل 150 عاماً إن البضائع لا بد أن تعبر الحدود، بدلاً عن الجنود. لقد وصلت منتجات ما بعد الحداثة إلى اليمن، اقتناها المثقف اليمني وتجاهل مضمونها المعرفي: اتساق مواصفات الجودة مع الجودة الفعلية، تطابق الشكل والمضمون. خان نفسه للمرة الألف. شطر ذاكرته، ونظامه المعرفي، إلى استثناءات لا حصر لها. أصبح رأساً كله استثناءات، حتى أصبح من الصعب التعرف عليه كمثقف.