انتهت الأشهر التسعة التي حددها وزير الخارجية الأمريكي "جون كيري" في إطار مساعيه السلمية لانتهاء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلاوة على عدم نجاح الطرفين في التوصل إلى حل، فقد سادت مناخات قاسية غير متوقعة، وكان سببها الجانب الإسرائيلي، جعلت من السهل توصل الفلسطينيين إلى نقطة يصعب معها التمديد إلى فترة إضافية واللجوء إلى الخيارات المتوفرة وأهمها، التوجّه إلى الأمم المتحدة.
بالمقابل، بدأت مسيرة المصالحة الوطنية بين حركتي فتح وحماس، من خلال الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في الأيام القليلة الماضية في القطاع، والذي يؤكد على ضرورة أن يستعيد الفلسطينيين عافيتهم بإنهاء حالة الانقسام التي عصفت بهم منذ يوليو العام 2007.
برغم الإرباك الذي حصل للجانب الإسرائيلي، من النوايا الفلسطينية باتجاه المفاوضات أو باتجاه المصالحة، إلاّ أنه تنفس الصعداء، نظراً لوجوده فجأة في المكان الخطر في نظر المتشددين على الأقل، والذين ما فتتوا يدعون إلى الزوغ عن المفاوضات بأي ثمن، وليكن بتنشيط الاستيطان أو بتغليظ متطلبات الأمن، ولذلك فقد أقدموا على افتعال طقوس احتفالية وانتقامية في آنٍ معاً، وتزداد تباعاً كلما تمددت احتفالية الفلسطينيين بالمصالحة، وكان أشدها الإعلان صراحةً، بتعليق المحادثات مع الفلسطينيين فوراً رداً على اتفاق المصالحة، على الرغم من المراهنة الإسرائيلية على شيطان التفاصيل، الذي أودى بحياة ثلاثة اتفاقات مصالحة فائتة، مكة 2007، والقاهرة 2011، والدوحة 2012، وعلى احتساب إعلان الرئيس الفلسطيني "أبومازن" من أنه لا يرى تناقضاً بين مفاوضة حماس ومفاوضة إسرائيل، وأن حكومة وطنية فلسطينية مقبلة، ستقبل بشروط الرباعية، وأساسها الاعتراف بإسرائيل، وفي ذات الوقت تركه الحديث عن التهديد بحل السلطة وأغفاله التهديد بالأمم المتحدة.
منذ قبوله استئناف المفاوضات، بعيداً عن الاشتراطات الفلسطينية، اضطر رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" عن الكشف عن عددٍ من الأهداف وأهمها، كسب الرأيين المحلي والدولي، وتخفيف حدة الانتقادات الغربية، وخاصةً تلك المطالِبة بإجراءات سياسية واقتصادية ضد إسرائيل، ثم محاولة عرقلة أيّة أفكار تدور حول نشوء دولة ثنائية القومية كما تُطالب بعض الأصوات من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، والمحاولة في منع قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، لرغبته في السيطرة على كل المناطق بسيادة إسرائيلية مع منح حكم ذاتي للفلسطينيين فقط، بدلالة تمسكه بشدة على منطقة غور الأردن، وتصريحاته الواضحة بأن إسرائيل لا يمكنها التخلي عن أراضي الضفة بسبب أنها تعبق بتوراة إسرائيل.
أسلوب التفاوض الإسرائيلي منذ بدء المفاوضات وإلى ما أُغلِقت عليه، لم يُعجب بالمطلق اليسار الإسرائيلي – أحزاب وحركات وقوى مختلفة- وعلى رأسهم في المعارضة (حزب العمل) وسواء فيما يتعلق بتشددات الحكومة الإسرائيلية حول عدم تقديمها تنازلات مهمّة أو بالنسبة لمطالباتها المختلفة، وخاصةً بالنسبة لموضوعات اعتبرتها هامشية ولا قيمة حقيقية لها، كالاستيطان في مناطق فلسطينية أو بمسألة الاعتراف بيهودية الدولة، وكانت في كل مرة تقلل من قيمة الاشتراطات الإسرائيلية وباتهام الجانب الإسرائيلي بمسؤوليته عن تعثّر المفاوضات، واعتبار خطوات "نتانياهو" على مدار الفترة الأخيرة نحو تجميد البناء في المستوطنات، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين وتركه انطباعات توحي بجديته في السلام، لم تكن كافية أو ناجحة كما هو مطلوب.
وبصورة صارخة ومتجاوزة، انطلقت مؤخراً أصوات يسارية إسرائيلية، تدعو إلى مقاطعة دولية ضد إسرائيل، بحجة استنتاجها بأن الإسرائيليين ليست لهم القدرة الكافية على انقاذ الدولة بذاتهم، بسبب قوة اليمين في الحكم، بحجة أنه لا يسعى إلى السلام، ويقود الدولة نحو نظام أبرتهايد ضد الفلسطينيين، الذين يشكلون أقليّة متنامية، ويعلقون على المقاطعة على أنها تمثل الأمل الأخير لديهم، لإيمانهم بأنها ستعمل على أن إنهاء الاحتلال وإحلال السلام.
حتى فيما يختص بالمصالحة الفلسطينية التي تدخّل فيها "نتانياهو" بشدة، اعتبرت القوى اليسارية، أنها شأن فلسطيني داخلي وليس لإسرائيل الحق في مناقشتها، مثلما لا تريد أن يتدخل أحد ما، في شؤونها الداخلية، وتساءلت فيما إذا كان "نتانياهو" سيجني أي شيء في مقابل ذلك.
وإن كان ينسَ نفسه الرئيس "أبومازن" حينما يقول كلاماً ناعماً أمام اليسار الإسرائيلي على نحوٍ خاص، فإن رجع صداه من دون ريب غير مجدٍ، وبصورةٍ أوضح فإن ما ينتج عن ذلك اليسار بالجملة ليس جديداً، لا على الفلسطينيين ولا على الإسرائيليين أنفسهم، بسبب أنه لا يمُت للحقيقة بصلة، وهو فقط ككل معارضة، تسعى لتهزيل خطوات السلطة القائمة ولتسمين مواقفها بالمقابل، ولظهورها على الملأين المحلي والخارجي بصورة أوضح، أملاً في استعادة الحكم في الدولة.
حتى العام 1977، كانت سلطة الحكم بين يدي حزب العمل، المعارض الآن لسياسة اليمين الإسرائيلي، منذ عهد "بن غوريون إلى إسحق رابين" أي ثلاثة عقود متواصلة وكانت الظروف أسهل بكثير من الآن، ولم ينتوِ السعي بجديّة للبحث عن حل مع الجانب العربي أو الفلسطيني، وبغض النظر عن اللاءات العربية حينها، فقد كان المشروع الصهيوني كان في ذروته، وحزب العمل (الصهيوني) زكما في علم الكل، هو صاحبه الأول، الذي كان سبباً في توطيد أركانه كما هو الحال في هذه الأثناء.
ولا شك، فإنه لا يمكن وإن بشديد الفحص، التفريق بين اللعبتين اليمينية واليسارية فزعيم حزب العمل "إسحق هيرتسوغ" ومن يلف لفّهُ، هو مثل "نتانياهو" زعيم اليمين ومن يُشايعه، فهما معنيان بشطب القضية الفلسطينية، وترسيخ دعائم الدولة وسواء كانت الصهيونية أولاً واليهودية ثانياً، كما يرى اليسار الصهيوني(العلماني) باعتبار المشروع الصهيوني هو في الأساس يرتكز إلى الاستيلاء على فلسطين واليهودية هي فقط تحصيل حاصل. أو اليهودية أولاً والصهيونية ثانياً كما يرى اليمين الديني (التوراتي) على اعتبار الأولوية (دينية) لنوال الدعم الإلهي للدولة والمرتكزة على المفهومات الصهيونية للمساعِدة في استمرار نمو الدولة وتطورها، ولكل منهما طريقته في الحفاظ على الدولة، وأداته التي يحاول بها شطب القضية الفلسطينية أو كَفرها لمدة أطول على الأقل.
وفي الإطار، فإن الوضع في إسرائيل الآن يميناً كان أو يساراً، يمكن بسهولة للمرء أن يبيت في الإحباط، ويصحو على اليأس، فالدولة الإسرائيلية (حكومة ومؤسسات) هي ملك خالص للأحزاب الدينية القومية – الدينية، وهي لا تؤمن بالسلام مع الفلسطينيين، بسبب منافاته للدولة اليهودية الخالصة. والأحزاب الصهيونية اليسارية على الجهة الأخرى، هي تُمانع أيضاً قيام دولة فلسطينية حقيقية، ولا نزال نذكر جيداً ما تفوّه به زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود باراك" حتى العام 2000، عندما قال، بأن (لا شريك لنا للسلام) وبات لا يتحدث إلاّ عن (تسوية سياسية) وهي تلك المقولة التي يتحدث بها اليساريين في أنحاء إسرائيل والخارج، وليس بما يروّجون به ضد اليمين الإسرائيلي الآن.
خانيونس/فلسطين