لم تكن تبحث عن ثروة الوليد ابن طلال أو شهرة أم كلثوم.. كان لديها حلم ليس تحقيقه بمهمة سهلة لكنها ليست صعبة ومستحيلة في نفس الوقت.. هذا الحلم مشحون بغريزة وجدت لتبقى مقرونة بالنفس البشرية منذ ظهورها على وجه الأرض.. فمعركة الإنسان في البحث عن الجديد والانفراد والتألق والحداثة ليست إلا جزءاً من الطرق والأساليب التي تستخدم في تحقيق هذه النقطة المنحوتة في قلوبنا منذ النبضة الأولى بالحياة.
إن إثبات الوجود أمام الذات والأسرة والمجتمع من أصعب المغامرات التي قد يخوضها المرء، لا سيما في وطن لا يتيح الفرصة لأحد أن يقول للعالم ولذاته أولاً بأنه بشر يحمل عقلاً يستطيع من خلاله تغيير شيء ما من حوله يتمكن من خلاله من تحويل المستحيل إلى حقيقة يمكن مشاهدته والتماسه على أرض الواقع.. قد أكون مجازفاً ومبالغاً حين قلت إن محاولة إثبات الذات مغامرة.. لكنها في الواقع المعاش وفي مجتمع لا يسمح ولا يعطي الفرص لأحد قد يكون إثبات الوجود شبيها بمعركة ضد الخوف وكثيراً من العادات والتقاليد البالية.. معركة سلاحها العلم والعزيمة والإصرار والإيمان بالهدف.
إن محاولة إثبات الوجود بحاجة إلى تحديث أفكارنا وطرقنا.. فثوب التفكير الذي نرتديه سيكون أكثر بياضاً ولمعاناً إن أجرينا عليه بعض الغسيل.. وهنا لا أقصد أن نقوم بتخليص الثوب من كل الأفكار الأصيلة بحجة أنها قديمة ولم تعد مناسبة لواقعنا.. فهذا سيكون بمثابة التخلص من الثوب ذاته.. كل ما نحتاجه هو التجديد واختيار الطرق المناسبة والفعالة التي يمكن أن تأخذنا إلى النتائج في أقل وقت وبأقل تكلفة وجهد وخسارة.
هي أرادت حقاً أن تقول لزوجها بأنها امرأة كسائر النساء لها شأنها في الحياة.. تستطيع أن تحقق شيئاً ما.. وأنها لم توجد للبقاء خلف عتبة المنزل وسط مطبخ الدار وجوار الأطفال.. بأن لديها قدرة لفعل كل شيء.. فحين يكون المرء أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يحب أن يستمع للعلم ماذا تتوقع منه أن يحققه تجاه نفسه وأسرته.. حتماً لا شيء سوى الاحترام وتربية الأبناء على الصدق والأمانة والأخلاق الحسنة.
لم يتح لها القدر أن تصرخ أمام الملل اليومي والروتين المنزلي وتقول لهما كفى عبثاً بحياتي وحاضري ومستقبلي.. حاولت جاهدة أن تجد لها عملاً.. لكنها لم تكن تستطيع أن تكتب اسمها الثلاثي أو الرباعي ولا حتى الشارع أو الحي الذي تسكنه.
ذات مساء سهر الشيطان داخل عقلها سيطر عليه وملأه من أفكاره الضالة.. ذلك حين عاد رب ابنتها من العمل اليومي الذي كان يمارسه.. هو عمل شاق.. كان عاملاً مع أحد المقاولين.في البناء.
عاد وبحوزته وثائق أحد أصدقائه الذي وقف القدر بالحظ السيئ أمامه.. وثائق أحد المعسرين بالسجن المركزي بصنعاء.. لقد انقضت فترة محكوميته.. لكنه لم يسدد الدية بعد.. الوثائق التي كانت بحوزة العامل قد أعطاها له أخ المعسر بغرض أن يبحث عن مساعدات بتوكيل رسمي للسجين وباتفاق يقضي إلى تقاسم المبلغ المحصل نصفين..
وبعد مناورات كثيرة بين العامل وذاته تلك الليلة.. قرر في نفسه عدم المغامرة في هذا الأمر.. فتح هاتفه المحمول القديم جداً.. وظل يبحث كثيراً في قائمة الهاتف رقم أخ صديقه المعسر كونه لا يستطيع استخدام الهاتف عن جيداً..
أخيراً وجد الرقم.. اتصل به, فقال له : أردت أن أعتذر لك لعدم استطاعتي مساعدتك وأخيك في الذهاب إلى رئاسة الجمهورية والبحث عن مساعدة مالية.. أتمنى أن تتقبل اعتذاري فأنا لا أقوى على الخوض في مثل هذه الأشياء, فرد عليه : "لا بأس في ذلك سأجد صديقاً آخر يساعد أخي".. رد أخ المعسر بنبرات حزينة ومكتظة بالألم والحزن وربما بالدموع التي غرقت بها لوحة المفاتيح.
لقد كان رفيق دربه وزميل عمله وبئر أسراره وحياته الخاصة.. كان يسأل نفسه حين وصل له خبر رفض صديقه مساعدته.. لماذا رفض مساعدتي.. ما الذي يجعله يتخلى عني بهذه السهولة.. هل السجن خطيئة تجعل الآخرين يبتعدون عنك وعن الوقوف بجانبك ومساعدتك.. ؟!!! كثيرة هي الأسئلة التي وقفت حائرة دون إجابة واحدة.
أخيراً أصدرت قرارا بالخوض في المعركة.. لكنها تراجعت حين وجدت زوجها عائقاً لا يمكن التخلص منه ذلك الوقت بسهولة.. استعانت بأفكار شيطانية, كيف يمكنني إقناع زوجي بأن المهمة سهلة وباستطاعتها الوصول بالوثائق إلى أعلى المستويات وإلى الرئاسة إن أمكن, وما هي إلا لحظات وقد رد عليها رفيق مسائها بأن اختلاق المشاكل مع زوجها والهروب من المنزل الحل الوحيد لتنفيذ المهمة التي ستثبت نفسها من خلالها.
وما إن أوشك القمر الحزين ذلك المساء على الغياب.. وبدأت الشمس تظهر على مشارف المدينة.. إلا وقد أبدت المرأة استعدادها للخوض في المعركة.. استعانت بكل أفكارها الشيطانية واستفزازاتها المهلكة.
لحظات وقد كسبت المعركة مع زوجها ونجحت في الهروب من المنزل إلى دار أحد أقربائها بالمدينة وبحوزتها الوثائق التي تمكنت من سرقتها بالمساء من جوار زوجها.
اليوم التالي كان أول أيام المهمة الصعبة.. فقد تمكنت ومن خلال مساعدة شخص ما من تزوير عقد زواجها واستبدال اسم زوجها باسم السجين المعسر.. اتجهت نحو مبنى الرئاسة لاستخراج المساعدة المطلوبة من هناك, نجحت ذلك اليوم في التمثيل بدور الفقيرة المحتاجة لزوجها.. ذرفت دموع الخداع والمكيدة.. خرجت منها أنات الكذب والمصيبة.
هناك وجدت شخصاً يساندها ويكمل معها معاملتها.. ظلت لأيام بعيدة عن زوجها وابنتها التي كانت بحوزة امرأة زوجها الثانية (ضرتها).. لم يسأل عنها زوجها.. وإن سأل لن يجدها كونها ذهبت عند ابنة خالتها.. وهو لا يتوقع وجودها هناك.. لكن ما كان يشغل تفكيره في كل لحظة هو أين اختفت وثائق صديقه المعسر ولماذا لم يعد يتصل به أخو المعسر من أجل المستندات والتوكيل الرسمي.. أسئلة كثيرة رددها الزوج وتناثرت في الهواء دون أن تجد محطة للنزول فيها.
وما هي إلا أيام معدودة قد تصل نحو شهر واحد.. نجحت المرأة في المهمة وخرجت وبيدها خمسة ملايين ريال.. انتصرت بمساعدة ذلك الرجل الذي التقت به بالقرب من مكتب الرئاسة.. تجاوزت البوابة وهي غير مصدقة أنها تحمل المال.. إنها أخيراً انتصرت وأثبتت وجودها أمام زوجها وأسرتها.. قررت وبرفقتها ذلك الرجل الذي لا تعرف سوى اسمه الأول.. لا تعرف لقبه ولا من أية قرية هو وإلى أي لقب ينتمي أو تحت أي أسرة يقبع.. بادرها بالسؤال :
ـ هل نستقل" تاكس" إلى مكان عمل زوجك حتى تشرفيه بما قمت به وقدمتيه له ولصديقه.. هكذا اقترح عليها الرجل المجهول؟!!
ردت عليه بصوت مليء بالنصر والفرح..
ركبا معاً سيارة أجرة.. ربما لم تكن أجرة.. لقد كانت لأحد أصدقاء المساعد المجهول..أخطأت السيارة طريقها ومضت في غير مسارها.. حتى شارفت على الخروج من المدينة.. لقد تجاوزت المدينة إلى مكان ليس فيه من البشر أحد سوى بضع سيارات تمر من الطرق الرئيسية بوقت متفاوت ومتقطع..
توقفت السيارة نزل الرجل المجهول من مقدمتها وفتح باب الكرسي الخلفي.. طلب منها النزول فرفضت فأنزلها بالقوة.. ضربها حتى كادت أن تفارق الحياة.. تأكد من وجود المال فأخذ منها 500 ألف ريال ورماها جوار جسدها الشبيه بجثة هامدة ذلك الوقت.. وانطلق دون التفات لها.
ليأتي رجل خير يقوم بإسعافها إلى المشفى وهناك تم إبلاغ زوجها الذي اعترفت له بأنها تمكنت من الحصول على مبلغ 500 ألف ريال.. وبدوره هو اتصل بأخ المعسر الذي ذهب يتأكد من المبلغ.. وسرعان ما عرف بما حدث وقام بالإبلاغ عنهما (بالمرأة وزوجها) ليتم القبض عليهما وإيداعهما السجن المركزي بصنعاء.
حكمت عليها المحكمة بالسجن ثلاث سنوات ودفع 475 ألف ريال.. بينما زوجها قضى منطوق الحكم في حقه بالسجن سنة ونصف.
تقول السجينة التي باحت لي باسمها.. أن زوجها بريء وليست له أية علاقة بالمشكلة ولم يكن على علم بشيء.