حرفت مسيرة المصالحة الوطنية بين حركتي فتح وحماس قبل أكثر من شهر من الآن، المزاج الإسرائيلي وأخّرت إلى الوراء جوانب كثيرة من العلاقة المتناغمة مع السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن اتفاقها مع حركة حماس، هو خطوة سلبية للغاية وانتكاسة غير منتظرة للوراء، أضافت ألماً زائداً، كان ترتّب على انهيار المفاوضات السياسية بين الجانبين، وكان مأمولاً أن تأتِ بالخطوة التي يجب أن تليها، لتُظهر إسرائيل على أن الوضع المرئي أمامها، يقتضي تغييراً أساسياً لسياستها باتجاه السلطة الفلسطينية والعملية السياسية بوجهٍ عام.
إسرائيل وهي معتادة على السعي لإثبات أن خطوات السلطة الفلسطينية هي غير صالحة للسلام، وهي بصدد تفضيلها لممارسة الأخطاء تلو الأخطاء في تعاملاتها المريبة باتجاهها (القضاء على مسيرة أوسلو، دعم الإرهاب والتشجيع عليه، اتخاذ خطوات انفرادية، وأخيراً الالتجاء إلى حركة حماس وعقد اتفاق معها، على الرغم من تباينها معها في الفكر والمنهج)، لجأت إلى اختلاق حفلة من الضجيج والصراخ (تأففاً وتمرّداً) في ذات الوقت، وعلى كل مسرح - المجلس الوزاري، داخل الكنيست، على المنابر الإعلامية المختلفة، حيث بدأت برفض المصالحة جملةً وتفصيلاً، وقد شمّرت إلى دعوة المجتمع الدولي إلى عدم الاعتراف بحكومة التوافق الفلسطينية المرتقبة، بحجة أن دعمها، لن يساهم في دفع عملية السلام، بل سيبعث على تجديد مخاوفها وسيعمل على تعزيز الإرهاب على المستوى الدولي. ومن جهةٍ أخرى، استرسلت في التلويح بردود مناسبة وقاسية سياسية واقتصادية، فضلاً عن أنها أعلنت بأنه سيقع على عاتق السلطة مسئولية أيّة أعمال عنف، تبدأ منذ الساعة الأولى من تشكيل الحكومة، وبالمقابل ستجد الحلول بنفسها لنفسها.
لكن إسرائيل في الحقيقة أخفت هدوءاً لا مثيل له غطى على جملة مخاوفها التي نالتها خلال السنوات الفائتة، فبعد وقتٍ قصير من استخلاصها محاسن المصالحة، وتيقنها من أن آثارها الجانبية ليست ضارة لها بالضبط، لاسيما وأن كل المؤشرات الآتية سواء من قِبل السلطة أو من ناحية حماس، لا تُشير إلى مكروهات قادمة. فالسلطة كانت ولا زالت تحت السيطرة، والأمور الأمنية التي اضطرّتها حركات المقاومة إلى مداومة الاشتعال بها والخشية من سير السحاب من أن يكون محملاً بالصواريخ أو مشبعاً بـ (T.N.T)، ربما انتهت الآن، فالمناطق الداخلية الإسرائيلية آمِنة، والمزارعون الإسرائيليون بمحاذاة الحدود يتابعون أعمالهم بسلام.
تعزز الهدوء لديها، عقب تطمينات أمريكية مُقنعة، نبّهت إلى أن الوضع الفلسطيني في ضوء المصالحة المنتظرة، لن يذهب بعيداً عن السيطرة والحال برمّته لن يتغير كثيراً عن ذي قبل، والمطلوب فقط، هو انتظار ماذا سيحصل بشأن الحكومة المرتقبة وحماس متواجدة بداخلها، وهي تأخذ بعين الاعتبار مسألة أن تلك الحكومة ستضم منظمة مسجلة لديها على أنها (إرهابية) وبموجب القانون الأمريكي يحظر تقديم مساعدات إلى حكومات تختلط بمنظمة (إرهابية).
وعلى صعيدٍ آخر فإن عامل الضرر الذي كانت إسرائيل تعلق عليه، في أن مسألة الانقسام هي السبب الرئيس لديها التي تجعلها لا تأمل ولا تأمن حدوث سلام، قد انتهت صلاحيته، وارتفع عنها الآن بصورة مريحة، وأن في الأفق، المزيد من الخيارات والحجج البسيطة والمركبة الأخرى، وهي كفيلة بخلق منتوجات سياسية وأمنية جيدة، سواء ضد الحكومة الجديدة أو ضد الفلسطينيين بشكلٍ عام، علاوة على أن الاتفاق في حال حصوله، سيلعب نفس الدور الذي لعبه منذ البداية. وحتى في حدوث انتخابات مستقبلية وفوز إحدى الحركتين فتح أو حماس، بسبب أن نسبة الفارق لن تكون كبيرة تستطيع أحدها من خلاله وخاصة حركة فتح، من تمرير سياسات مهمّة وخاصة المتعلقة بالصراع مع إسرائيل.
من جهةٍ أخرى، فإن بروز وقائع فلسطينية مطمئنة كان لها الصدى النافع في وقف العنفصة الإسرائيلية وتقصير جريِها نحو إسناد مواقفها بشأن جدوى التفاوض مع السلطة، وأهمها: أن الرئيس الفلسطيني "أبومازن" لا يزال أمام الكل مؤمنٌ وبشدّة بالعملية السلمية وبإمكانية التوصل مع الشركاء الإسرائيليين، إلى حلول عادلة، ولديه الاستعداد لمواصلة المفاوضات وبشروط مُيسرة، وأن أيّة خطوة من طرفه ضد إسرائيل، سوف لن تمس بمبدأ التنسيق الأمني معها باعتباره (مقدساً)، وأنه سيستمر.
كما أن خطوة تكليف "أبومازن" لرئيس الوزراء الحالي "رامي الحمد الله" بتأليف الحكومة، وهو تابع لحركة فتح، والذي رشح عنه بأن حكومته ستدعم سياسيات منظمة التحرير الفلسطينية، وخاصة تلك المتعلقة باتفاقات السلام، وذلك تطبيقاً لإعلانات "أبومازن" المتكررة في هذا الاتجاه، أعطت وزناً مهمّاً لدى إسرائيل، وعزز الشعور لديها بالراحة في هذه المرحلة على الأقل. ويمكن إضافة احتمالية أن تكون حماس بناءً على تقارير استراتيجية مختلفة، قد يئست من اعتمادها على فكرة تدمير إسرائيل، بلجوئها إلى فتح لتعفيها من الاستمرار في تحمّل متاعب هذه المسألة، باعتبارها بادرت إلى الاعتراف الذي لا لُبس فيه بإسرائيل، ولديها الاستعداد - في إطار دولة-، لتبادل علاقات متميّزة مستقبلية معها.
إسرائيل وعلى الرغم من رؤيتها محاسن المصالحة، إلاّ أنها لن تعدم الآمال التي ما زالت تتعلق بها وتتمناها باتجاه حصول انتكاسةٍ ما بشأنها، ليس بسبب خشيتها على العملية السياسية والعودة إلى مربع العنف، لكن بسبب أن استمرار تفوّقها على المسرح التفاوضي أمام الكل وعلى مدار الوقت، يكمن في تلك الانتكاسة.
خانيونس/فلسطين