أثار الخطاب السياسي والجلبة الإعلامية التي صاحبت وأعقبت أحداث عمران غبارا كثيفا غطى على الحقيقة وأسفر تسطيحا للأحداث عند كثير من النخب وقطاعات الرأي العام، تبعاً لغلبة الخطاب السياسي والإعلامي المتابع لتلك الأحداث والذي صور القضية ضربة للواء علي محسن، أو لحزب الإصلاح، أو لبيت الأحمر، أو لهم جميعا.
وابتداء لا يمكن التقليل من شدة الضربة وأثرها على اللواء علي محسن، نظرا لما يربطه باللواء (310) من علاقة تبدأ بمرحلة التأسيس، مرورا بعملية البناء خلال سنوات طويلة كان الرجل يعمل خلالها قائدا للمنطقة الشمالية الغربية، فضلا عن الطريقة التي ألغي بها اللواء، إذ لم يصدر قرار إلغائه من الدولة، بل تعرض للتصفية العسكرية من قبل طرف محارب، وعلى أن هذه القضية تمس اليمن كله حكومة وشعبا، إلا أن لها مدلولات خاصة باللواء علي محسن لا يمكن إنكارها أو التقليل من شأنها كما سبق الإشارة.
ولا يمكن -ثانيا- التقليل من شدتها على حزب الإصلاح، نظرا لأن مدينة عمران سقطت في يد الحوثيين بسقوط هذا اللواء، الأمر الذي يعني أن الحوثي سيلحق عمران بصعدة بمصادرة حق الآخرين في العمل السياسي، بل وهو يفعل الآن في عمران أكثر مما يفعل في صعدة، مدفوعا بمشاعر الرغبة الجامحة للانتقام، والتلذذ بما يراه إمعانا في إرغام الآخرين، وفي مقدمتهم الإصلاح، ناهيك عن بيت الأحمر التي تعتبر عمران منطقتهم ومعقلهم.
انحصر الخطاب السياسي والإعلامي عند هذه النقاط، وتناول مستوى الضربة وعمق أثرها على هذه الأطراف الثلاثة، وما يعنيه ذلك من إضافة إلى جماعة الحوثي، وتفرعت عن ذلك تفاصيل تتعلق بموقف القوى السياسية من هذه الأحداث، وما يجب أن يترتب عليها، وكيف يمكن معالجتها والتعامل معها من قبل الدولة والمجتمع الدولي الراعي لمؤتمر الحوار الوطني، ولا يزال الحدث طريا وتداعياته مستمرة.
كل ذلك طمس حقيقة المخطط الخارجي المستمر منذ سنوات والرامي لضرب الجيش اليمني، وساعد على ذلك ما تأصل في القوى السياسية اليمنية بشكل عام من نزعة إلى المكايدات وحب التهاتر، خاصة وأن كثيرا من الأطراف تجد نفسها في هذه المناسبات، وتجد راحة نفسها ومتعتها في هذا النوع من الخطاب، إذ تمثل لها هذه المناسبات فرصة سانحة للتنفيس عن المكبوت بداخلها، وتجد فيها مساحة واسعة للانطلاق والإسهاب بما تستحضره من زاد وفير من ماضي الصراعات والخلافات.
وإذ تُستدعى في هذا الخطاب كل محطات الماضي، فإن هناك أمرين اثنين من الماضي هما وحدهما اللذان يغيبان باستمرار: الأمر الأول هو مشروع الثورة الشبابية، مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة، والأمر الثاني هو أن الحرب مع جماعة الحوثي التي هي واحدة من أدوات مخطط ضرب الجيش ليست جديدة ولا وليدة اليوم، وإنما هي حرب تمتد لنحو عشر سنوات، وأبرز ما استجد فيها اليوم أنها زادت فاعلية في خدمة هذا المخطط الأمريكي القديم. وهذا أحد أسباب قيام الأمريكان اليوم بدعم الحوثيين بالموقف السياسي، كرفضهم إدراج اسم أبو علي الحاكم في البيان الأخير لمجلس الأمن.
وكان صالح ينفذ هذا المخطط بطريقة الاستنزاف التدريجي، وأصبح ينفذه اليوم في عهد الرئيس هادي بطريقة التصفية المباشرة.
ويتظاهر الرئيس هادي -من جانبه- بأنه مُقيَّد ومجبر على غض الطرف عن هذا المخطط باعتباره تطبيقا لأجندات خارجية ليس بمقدوره معارضتها أو حتى مراوغتها، فيما هو يُسنِد مشاركته ودوره الفاعل إلى رجالاته في القوات المسلحة، وعلى رأسهم وزير الدفاع!!
صحيح أن لوزير الدفاع مواقف بعيدة عن مواقف الرئيس، خاصة في إطار العلاقة مع القوى السياسية، وله ارتباطات خارجية مباشرة تضعه ندا للرئيس وإلى درجة أن البعض لا يخرجونه من دائرة رجالات الرئيس وحسب، بل يصفونه بـ"سيسي" اليمن، في إشارة واضحة إلى أنه مصدر الخطر الحقيقي على الرئيس، إلا أن هذا من التحليلات التي يمكن اعتبارها متجاوزة للمنطق السياسي طالما وأن الأمر تحليلات مبنية على مؤشرات لا على معلومات، ما يعني أن إخراج الرجل من مربع الرئيس الذي استمات خلال سنوات طوال من أجل استمراره وزيرا للدفاع.
كان صالح يتعامل مع هذا المخطط الخارجي الرامي لضرب الجيش، وينفذه لصالح جيش خاص به يبنيه بمواصفات خاصة وبرعاية أمريكية مباشرة، تسليحاً وتدريباً ومشاركة في التمويل، والآن ينفذه لصالح تقسيم البلاد وتمكين الحوثي من دولته في شمال الشمال، ويشاركه الرئيس هادي بالطريقة المشار إليها آنفا، أي من خلال التظاهر بغض الطرف وهو في الحقيقة يدفع بوزير الدفاع إلى صدارة المشهد.
وفيما أنظار الشعب اليمني شاخصة هذه الأيام باتجاه شمال الشمال، فإنها ستشخص قريبا لتتابع معارك الجيش ضد مسلحي القاعدة وأنصار الشريعة الذين سيكونون قد انتشروا -مجددا- في المحافظات الجنوبية والشرقية، وإن كان الواضح أن هاتين الحربين ستفصل بينهما بضعة أشهر تشهد صراعا سياسيا مدنيا في الدستور والانتخابات وما إلى ذلك، وهو الفاصل الذي تشير إليه الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في الوقت الراهن باتجاه المصالحة بين بعض المتصارعين السياسيين.
خلال ذلك، وعودا عن هذه الاستطرادات إلى مخطط ضرب الجيش الذي هو موضوع التناولة: يكتفي الجميع بالمتابعة وتحويل النظر بين جبهات الحرب هنا وهناك فيما الجيش يتلاشى، بالتصفية المباشرة شمالا، وبالاستنزاف جنوبا، وأثناء ذلك تتهاوى الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ولا يزال الحوثي يعتبر هيكلة الجيش مخططا أمريكيا، ذلك أنه إذا جرت هيكلة الجيش، واختلطت وحداته، وأعيد توزيعه وانتشاره، فإنه سيصعب عليه استهدافه. ويبدو أن هذه هي -أيضا- رغبة الأمريكان ومن إليهم من الأطراف الخارجية، وكأن هذه الأطراف قد أقنعت الرئيس بذلك، ويؤكد هذا أن وسائل إعلام نشرت ما مفاده أن المبعوث الأممي جمال بن عمر طرح على الرئيس هادي هيكلة الجيش قبل الانتخابات حتى يكون الجيش حارسا للبلاد في حال حصول أي تداعيات سلبية للانتخابات، إلا أن الرئيس أصر على تأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد إجراء الانتخابات!!
إنه وضع في غاية الصعوبة، والبلاد بحاجة اليوم إلى قرار شجاع ومفصلي لا يقل أهمية عن قرار الثورة في 2011م، إلا أن من أهم ما قد يقف حائلا دون الاصطفاف الوطني واتخاذ هذا القرار هو ضرورة أن يكون الرئيس جزءا من هذا القرار الشجاع المطلوب لإنقاذ البلاد، فضلا عن حائل سابق يتمثل في اعتماد كثير من القوى السياسية على إدارة قرارها السياسي بناء على الأحقاد وضغائن الماضي لا بناء على الخطط والأهداف والحاجة الوطنية الراهنة والمستقبلية.