محمد حمداوي
شن الكيان الصهيوني حربه الحالية على قطاع غزة وهو يظن أن الظرف مناسب لإلحاق الهزيمة بالمقاومة. فالمرحلة تشهد تصدعات في أكثر من ساحة من ساحات الربيع العربي، ومصر المحاذية لفلسطين المحتلة عرفت انقلابا عسكريا على أول رئيس منتخب، هذا الانقلاب عمل مع إعلامه المأجور على شيطنة حماس والنيل من المقاومة والتزلف للصهاينة.
كما ظن أن قبول حماس بالمصالحة الوطنية ناتج عن الشعور بالضعف بسبب الوضع المصري والعربي العام والتوجهات الإقليمية والدولية المساندة للكيان الصهيوني والمعادية لكل عمل مقاوم مصر على دحر الاحتلال.
لكن المفاجأة كانت صادمة للعدو الصهيوني عندما اكتشف التطور النوعي لسلاح المقاومة ورسوخ إراداتها القوية في مواجهة الإجرام الصهيوني رغم قلة الموارد والإمكانيات.
فمعدات الجيوش العربية التي تنفق عليها مليارات الدولارات ويتم تجديدها بين الحين والآخر بمليارات الدولارات كذلك قابعة في المخازن ومليارات الدولارات من ثروة الأمة البترولية فضل القائمون عليها صرفها في مواجهة موجات المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية في البلاد العربية، ولعل أبرز مثال على ذلك ما حصل في مصر، حيث تلقى الانقلابيون حتى الآن أكثر من عشرين مليار دولار، و تبقى غزة جائعة ومحاصرة وبدون غطاء أو دواء وتهدم بيوت أصحابها على رؤوسهم تحت أعين وأسماع المجتمع الدولي المتحضر.
"منطلق المقاومة أنها في حالة دفاع عن النفس وعن الوطن وعن هوية ومقدسات الأمة، في قضية عادلة ضد عدو محتل متغطرس لا يحترم أو يقدر عرفا ولا عهدا في حالة حرب أو سلم"
يحتضن المقاومة مشروع تربوي وفكري وعملي ونضالي متكامل، منطلق من الإيمان بالله ناصر المستضعفين والتوكل عليه، ويتجه نحو بناء الإنسان المؤمن على أسس العزة والكرامة وقوة الإرادة وعدم الرضى بالهوان والإصرار بكل المتاح على انتزاع الحقوق ومواجهة الظلم والتصدي للعدوان وعلى العمل الجماعي الأخوي وعلى التكافل الأهلي الاجتماعي وعلى الصبر في كل أبعاده الإيجابية، والذي يعني الصبر على طلب الحق والصبر على مقارعة الطغيان والصبر على العلم والتعلم والابتكار. لا على الظلم والجهل، ولا على تحمل الذل والهوان (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) (سورة المنافقون، الآية 8).
ولقد ذكر لي أن شبابا مقاومين أثناء حرب 2008-2009 قضوا أكثر من عشرة أيام في الصفوف الأمامية للقطاع في الخنادق صائمين قائمين طعامهم التمر والماء فقط.
منطلق المقاومة أنها في حالة دفاع عن النفس وعن الوطن وعن هوية ومقدسات الأمة، في قضية عادلة ضد عدو محتل متغطرس لا يحترم أو يقدر عرفا ولا عهدا في حالة حرب أو سلم. هذا المنطلق يعطي للمقاومة ثقة أكبر في النفس وصبرا على تحمل الشدائد وعلى منازلة العدو.
العدو الصهيوني رغم قوته في العدة والعدد ورغم توفره على التحصينات الحديثة فإنه مع ذلك جبان لا يجرؤ على المواجهة المباشرة مع أشاوس المقاومة وهذا الأمر يجعله دائما يقاتل من وراء جدر، جدر الدبابات وجدر الطائرات وجدر القباب الحديدية وجدر الخوف والرعب.. لذا تجده دائما يتجنب المواجهة البرية المباشرة مع رجال المقاومة مما يخلق جوا من الانهزام النفسي لجنود الصهاينة ويعطي زخما مستمرا للمقاومة.
''أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ'' (التوبة، الآية 109).
ولقد أعطت المقاومة النموذج الرائع في الأخذ بالأسباب في أدق تفاصيلها, فطورت إمكانياتها بكل ما أتيح لها من علم وإبداع ومواد أولية في ظروف قاسية وقياسية. فالصواريخ التي بلغ مداها أربعين كيلومترا في حرب 2008-2009 تطورت إلى حوالي مائة كيلومتر في حرب 2012 ليصل مداها في الحرب الحالية 2014 إلى أكثر من مائة وعشرين كيلومترا، وأصبحت تغطي كامل فلسطين تقريبا ووضعت ستة ملايين إسرائيلي داخل الملاجئ إضافة إلى تسيير طائرات بدون طيار فوق عدة مدن في أراضي 1948، واختراق وسائل الإعلام الصهيونية لتوجيه بعض الرسائل للصهاينة بالعبرية عبر قنواتهم التلفزية. كما عززت المقاومة من وسائل رصدها الاستخباراتية فأصبحت أكثر تحصينا عبر كشف العملاء والحفاظ على المؤسسات القيادية بعيدة عن الاختراق.
"العدو الصهيوني رغم قوته عددا وعدة، وتوفره على التحصينات الحديثة فإنه مع ذلك جبان لا يجرؤ على المواجهة المباشرة، وهو ما يجعله دائما يقاتل من وراء جدر، جدر الدبابات وجدر الطائرات وجدر القباب الحديدية وجدر الخوف والرعب"
وإزاء ذلك أتقنت المقاومة إدارة المعركة مع العدو بشكل مواز ومتكامل مع تثبيت الإدارة المدنية الناجحة للقطاع في مختلف مستوياته الخدماتية والعمرانية والصحية والتعليمية والإدارية والأهلية الاجتماعية العامة، وهو أمر يدعو إلى التقدير والإكبار في وضع كالذي يعيشه القطاع من حصار جوي وبري وبحري ومن انحياز القوى العالمية الكبرى للكيان الصهيوني وتخاذل عربي مخز.
وفقت قوى المقاومة وفي قلبها حماس في العمل على تغليب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني عبر مدها لجسور التواصل مع جميع الهيئات والفعاليات الفلسطينية والحرص على الالتقاء إلى أبعد حد على الأسس الجامعة رغم ما يعتري المصالحة الفلسطينية من صعوبات كبيرة خصوصا أثناء المواجهة مع العدو كما يحدث الآن حين يصرح وزير خارجية حكومة الوفاق الفلسطيني أنه من حق الإسرائيليين أن يدافعوا عن أنفسهم ويصرح مندوب فلسطين في الأمم المتحدة بأن إطلاق الصواريخ على الكيان الصهيوني جريمة ضد الإنسانية. رغم أنه كان يفترض أن تعزز هذه الحكومة وحدتها الداخلية وموقفها تجاه العدو بما تحقق من إنجازات المقاومة.
وقد عززت حالة الارتياح العام التي تسود عموم فلسطين المحتلة والأوساط الشعبية في العالم العربي والإسلامي والأشكال التضامنية السائدة الآن في عدة مناطق من عالمنا الإسلامي، ومن جهات عدة من أحرار العالم، عززت هذه الحالة الجوانب النفسية والمعنوية المندفعة لقوى المقاومة، كما عززت الشعور القوي بالانتماء العضوي العالمي الواسع الذي يرى في إنجازات المقاومة آمالا مبشرة في ظل الانتكاسات التاريخية للأمة وحالات الإعاقة السائدة الآن في بعض بلدان الربيع العربي.
كما تتعزز حالة الاطمئنان العام لجماهير الأمة التي تقف سندا للمقاومة خصوصا من الناحية المادية، إذ رغم البخل الفظيع للأنظمة الحاكمة في البلدان العربية فإن ما يصل لأيدي المقاومة الأمينة ولقطاع غزة من قبل الأمة يباركه الله عز وجل ويصنع كرامات النصر والاعتزاز وترى ثماره الآن في دحر العدو الصهيوني ونشر الرعب بين صفوفه.
ويعتبر الحرص الدائم على المواقف السياسية المستقلة من قبل المقاومة والحفاظ على مسافة واحدة تجاه أطراف الصراع المختلفة في الأمة، عنصر قوة أساسيا في بنية العمل الوطني الفلسطيني المقاوم وفي تماسكه وفي أدائه في الميدان وفي مكانته المعتبرة داخل الأمة مما جنبه الانحرافات الخطيرة التي سقطت فيها بعض الأطراف المقاومة عندما أصبحت ظهيرا لأنظمة مستبدة تقتل شعوبها.
"يعتبر الحرص الدائم على المواقف السياسية المستقلة من قبل المقاومة والحفاظ على مسافة واحدة تجاه أطراف الصراع المختلفة في الأمة، عنصر قوة أساسيا في بنية العمل الوطني الفلسطيني المقاوم "
العمل الكبير الناجح الآن سواء على مستوى الحركات أو على مستوى الدول هو العمل المؤسساتي الشوري الديمقراطي الحر والنزيه الذي يحترم خيارات واختيارات مؤسساته، وميزة المقاومة في قطاع غزة أنها لبست هذه الأوصاف وعملت على تجذير روحها في الصفوف وعبر الأجيال.
إن تربية الأجيال على الوفاء لروح المبدأ المؤسس للعمل يقوم بمهام كبرى في رص الصفوف وبعث الإرادات والحرص على إمضاء الخصال الشريفة البانية المنبثقة من هذا المبدأ جيلا بعد جيل.
فما نراه اليوم من إنجازات يمثل ثمرات لما غرسته أيادي الشهيد أحمد ياسين والشهيد فتحي الشقاقي وإبراهيم المقادمة وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهم كثر رحم الله الجميع.
إن الأمة الآن في حاجة ماسة إلى أناس أوفياء أقوياء أمناء يغلبون جانب العمل والإنجاز والفعل في الواقع بعد إحكام التفكير والتداول والتخطيط اللازم على جوانب كثرة الجدل والقيل والقال والتفريعات المملة التي أنهكت الأمة وضيعت أوقاتا طويلة من عمرها.
باختصار إن المقاومة الآن في قطاع غزة تفري فري سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عندما قال في الحديث الذي رواه البخاري: ''فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه" (يفري أي يعمل العمل بجد وإتقان كبيرين).