.. في السنة الدراسية الثانية أصبحت أكثر انتظاماً مع الحزب. كانت الأسرة التنظيمية تتكون من خمسة إلى ثمانية أفراد. امتاز المشرفون على الأسر التي تنقّلت خلالها بصفة موحّدة: الهدوء الصارِم، والإيمان العميق. حتى إن المرء ليشعر كما لو أنه يواجه ضابط مخابرات رفيع في كل مرّة. كان اللقاء التنظيمي يبتدئ بالقرآن، حفظاً، ثم التفسير. بعد ذلك ننتقل إلى كتب الإسلاميين العتيقة، تلك التي تشعّ صفاراً حتى ليخيّل للمرء أنه يقطع الصحراء الكبرى حافياً.
سرعان ما شعرتُ بالملل، فخارج الأسرة التنظيمية لدي أصدقاء كثيرون مهتمون بالشعر والرواية والمسرح والفلسفة. وعلى مدى سنين طويلة لم يحدث أن سمعت اسماً روائياً واحِداً داخل التنظيم، باستثناء روائي رومانتيكي اسمه "نجيب الكيلاني"، ولا أدري من الذي اكتشفه لأول مرّة.
وفي مرّة قام الشاب القباطي بإنجاز التكليف الذي تلقاه. فقد أعطانا درساً مطوّلاً عن صفات الداعية الإسلامي. كان الدرس على شكل تلخيص مباشر لكتاب "جند الله ثقافة" لداعية إسلامي اسمه سعيد حوّى. وسعيد حوّى هذا مسؤول إلى حد بعيد عن تدمير خيال الأجيال القديمة من الإسلاميين. ولطالما كنتُ أسألهم من حين لآخر "من الذي اكتشف سعيد حوّى؟". الشاب القباطي ذاب مع حوّى وجعل يقول "على الشباب الإسلامي أن يكون واعياً بمخططات العلمانيين ودعاواهم، كميشيل عفلق وغيره". عندما طلِب منا التعليق قلتُ لهم إن عفلق توفي في العام 1989 فقاطعني القباطي "وانا مو درّانا". أما مسؤول الأسرة فقد أبدا إعجابه بمعرفتي. وبتواضع متكلّف قال إنه استفاد شيئاً جديداً من نقاشنا، وأن ذلك لا يحدث معه إلا نادراً. في الأسبوع التالي أخرج القباطي ورقة الدرس من جيبه ونظر إلي. تبادلنا الابتسامات فقال بصراحة جبلية "أنا شاقول اللي مكتوب بالورقة والغفوري لو سمع أي اسم ميّت يقول لي هذا ميت، أنا مو درانا".
لمحوا غيابي التدريجي عن الدرس الحزبي، فهمس أحدهم في أذني "ولا يزالون يتأخرون حتى يؤخرهم الله". وعندما توقفتُ عن حضور صلاة الجماعة في المسجد، ثم صلاة الجمعة، كانوا قد فقدوا الثقة في أن يجعلوا مني داعية. "ما الذي تريده منّا بالضبط" سألني أحد المرّبين في الحزب. "أن تكونوا حزباً سياسيّاً وحسب، وأن أكون عضواً في حزب سياسي لا في جماعة" أجبته. وفي مرّة اصطحبتُ الصحفي حمدي البكاري، وكان لا يزال نائباً لرئيس تحرير صحيفة الوحدوي، لحضور ندوة يقيمها الإصلاحيون تحت غطاء "المثقفون المستقلون في القاهرة" فهاجم بكاري المواقف السياسية لحزب الإصلاح. في الندوة اضطررت للرد على مداخلة حمدي بكاري وقلتُ إن حزب الإصلاح ليس حزباً سياسياً خالصاً، وأنه مستعد للتضحية بالسياسة كفداء للعمل الدعوي والتربوي. وأن واحدة من مشاكله الأساسية أن قادة العمل الخيري في الجماعة أصبحوا هم القادة السياسيين في الحزب مع الانفتاح السياسي مطلع التسعينات. وقلتُ إن الإصلاح قد يتراجع عن التزامه لشركائه فيما لو رأى أن مصلحته "الدينية" ستتضرر. وانتهيتُ إلى القول إن هذه الفلسفة مركزيّة في تفكير الحزب، وفي مدونته السلوكية.
مع الأيام أبلغني أحدُهم بمعلومة مهمّة. قال إن مسؤولاً حزبيّاً رفيعاً يتواجد في القاهرة وأنه يريد أن يلتقي شباب الحزب. حضرتُ، وقلتُ مداخلة امتازت بالحدّة والصرامة والمعلوماتية، كما قال لي بعضُهم. ارتبك المسؤول الكبير، الكبير فعلاً، ثم اختار أن يعلّق على مداخلتي مستخدماً العبارة التالية "بطّل فلسفة زيادة وقل لي كم كسبت للتنظيم، كم أطّرت، كم نسّبت. هذا هو الميدان، مش الفلسفة". باندفاع وعصبية قلتُ له "مهمّتي أن أدافع عنك عندما تفقد القدرة في الدفاع عن نفسك". ولكن يبدو أن هذه العبارة لم تصلِه كاملة بدليل أنه ابتسم لي فيما بعد، وحاول تطييب خاطري.
غير أن الحدث الذي أفزعني على الإطلاق كان ليلة أخبروني بأن دارساً يمنيّاً ألف كتاباً حول تاريخ الحركة الإسلامية في اليمن. حضرت الندوة الحزبية واستمعتُ إلى متحدّث كبير يعرض الكتاب. كان يتحدث بفخر عن تاريخ الحركة. مسكوناً بالنشوة طمأننا "نحن الإسلاميين ننتج رجالاً في الميدان، لا نؤلف الكتب ولا نصنع المفكّرين". لم يكن مزاجي معتدلاً في تلك الليلة لذلك لم أتحمس للطرفة التي سمعتها. بيْدَ أنه كرّرها أكثر من مرّة حتى بدا لي أني الوحيد الذي فهم كلامه كما لو أنّه طرفة. "ماذا تفعل هُنا" سألتُ نفسي. وغبتُ مرّة أخرى، غبتُ ودخلتُ في بيات.
استعادوني للتنظيم مرّة أخرى. لا يفرّط حزب الإصلاح في أفراده، وهذا امتياز غير عادي.
داخل الحزب عشتُ صراعاً على مستوى الثقافة عصف بكل يقيني دفعة واحدة. لكن الجو الحميم داخل الحزب كان، بالفعل، يغني المسافر منّا عن الوطن. وفي تقديري فإن تلك الرومانتيكية الفائقة هي ما يربط الأفراد داخل الحزب ببعضهم، وبتنظيمهم. وعندما أصبح التنظيم عهدة أحد الباحثين في الأدب العربي، كانت رسالة الدكتوراه خاصته حول أبي الفرج الأصفهاني، فقد تغيّرت الملامح الداخلية والخارجية للحزب في القاهرة. أبعد من ذلك، فبدلاً عن مجاملة مسؤولي الأسرة التنظيمية فقد أصبح المسؤول العام للتنظيم صديقي. وعندما فاز ديواني الشعري "ليال" بجائزة الشارقة للإبداع العربي أقام رئيس التنظيم حفلاً بالمناسبة وقال لي أنه سيسمي ابنته ليال. لم يكن محبّاً لأبي الفرج الأصفهاني، بل صديقاً للعالم. وبعد سنين طويلة سيلتقيني، وقد وزعّتنا الأيام في الجهات كلها، وسيطلب منّي أن أمده بملاحظاتي حول مشروعه الذي يعتزم تنفيذه. قال إنه ينوي تأسيس حزبٍ علماني، لأنه صار مقتنعاً بحقيقة أن الأحزاب الإسلامية استنفدت قدرتها على البقاء، وعلى الإقناع، وفقدت ضرورتها التاريخية، كما أنها لم تعد قادرة على مجاراة إيقاع الحضارة. وقلتُ له إني ربما أتفق مع الفكرة لكني أرى آخر أحدث الجماعات الإسلامية تحاصر اليمن ومن المحتمل أن تسقط صنعاء تحت سيطرتهم قبل أن يرى الحزب العلماني النور.
في رمضان المنصرم عدتُ إلى صنعاء. في أمسية مكتظة، كانت مليئة بحملة الدكتوراه، هوجم حزب الإصلاح بوحشية. حتى إن أكثر من شخص قال إن حزب الإصلاح أكثر سوءً من الحوثيّة. وبسبب الاحترام الذي أحظى به لدى هذه النخبة، زاد عددهم عن ثلاثين شخصاً، فقد جعلوني آخر المتداخلين ليكون بمقدوري أن أتحدث بلا ضغط. كانت الكلمات الأولى التي قلتُها هي أني أشعر بالفزع مما سمعته، وأن يدي ترتجف. لم أكن أبالغ، لقد ملأوني بالهلع وهم أصدقائي وزملائي كأعضاء هيئات تدريس في الجامعات. همستُ، بعد ذلك، إلى صديق على يساري "بمعنى أنك تريد أن تقول إني كنتُ حتى ما قبل عام ونصف من الآن إرهابياً ومحتالاً وبلا أخلاق" فقال لي إنه لا يقصدني بمداخلته، بل يحسدني على التجربة التي خضتها في الحزب.
في "الخيارات الصعبة" قالت هيلاري كلينتون إن الإخوان المسلمين جماعة لا تميل إلى العنف، ولا توجد دلائل تقول إن هذه الجماعة ستلجأ للعنف في المستقبل. من تجربتي الخاصة داخل الحزب الإسلامي، الإصلاح، وهو مستوحى من حركة الإخوان المسلمين ومنفصل عنها بالمعنى الإداري والفلسفي بشكل كلّي، عرفتُ كيف يربّى الفرد الإصلاحي متصوّفاً، وخائفاً. يدرّب على الجبن، والخجل، والانطوائية.
مع الأيام لا يصير الإصلاحي فقط غير مؤهلٍ لحمل السلاح، بل حتى لاستخدام المفردات التي تعبّر عن السلاح. كان حسن البنا صوفيّاً، ومات كذلك. أسس الحركة على شكل فعالية صوفية كبيرة انخرطت في سياسة الموقف، لا في السياسة. النقد السلفي المنهجي للإسلاميين السياسيين اعتمد إلى حد بعيد على النيل من الجماعة عن طريق تذكيرها بحقيقتها الصوفيّة الحُصافية طبقاً لسيرة المؤسس، وكما يقول تعريفها في رسائله الشهيرة. "نحن حقيقة صوفية" قال البنا.
سياسيّاً اختار الإصلاح أن يكون ضمن الجماعة الوطنيّة، وخاض نضالاً رهيباً لأجل الديموقراطية. في تقرير مهم لصحيفة النيويورك تايمز قبل شهرين تتجه الصحيفة لتذكير القرّاء بما تقول إنه حقيقة الصراع بين الإسلام السياسي وملكيّات الخليج. إذ تذهب الصحيفة إلى القول إن السبب يعود إلى أن الإسلاميين لا يتوقفون عن المطالبة بالديموقراطيّة، كما أن التصور الإسلامي الذي يقدمونه يعتبر متقدماً جدّاً على التصور الإسلامي الرسمي والشعبي السائد في الخليج. كان سمير أمين، المفكر العربي الماركسي الأشهر، قد كتب مقالاً في العام 2012 في صحيفة الشروق، أعاد موقع سي إن إن نشره، عن علاقة الإسلام السياسي بأميركا. ذهب أمين إلى القول بإن هناك عنصراً عميقاً يربط الإسلاميين السياسيين بالغرب، وهو استعدادهم للحُكم ضمن مفاهيم النيوليبرالية. سأتحدث في الأيام القادمة عن مشاهداتي للبنيان من الداخل.
أما ما دفعني لسرد مذكراتي الآن، وليس فيما بعد، هو اعتقادي بأنه لا بد من وضع منطق ما في السيرك الذي يملأ الأرجاء. فقد كان الشاب القباطي يحذرنا من ميشيل عفلق ويضحك عندما يكتشف قلّة معرفته. لكني عندما أخذته بعد ذلك إلى المقهى وقرأت عليه جزء من خطاب ميشيل عفلق في الجامعة السورية 1944 بمناسبة مولد النبي، على وجه الخصوص قول عفلق "لقد استجمع محمد كل قوته وأنجب هذه الأمة، أما هذه الأمة فقد حشدت كل قدرتها وأنجبت محمداً" عند ذلك لمعت عينا الشاب القباطي، وأدرك أن ميشيل عفلق كان صديقنا، صديقنا نحن الاثنين.
هذه الديناميكية الكامنة في الذات الإصلاحية هي عنصر القوة الأكثر بقاء داخل حزب الإصلاح، بخلاف الأحزاب الأخرى، تلك التي تعيش كأنها أخشاب ساقتها السيول من الماضي.
يتبع ..