يعطي الذين فقدوا الذاكرة، أو من في نفسهم غرض، حزب النهضة التونسي، و" قيادته المستنيرة نسبيا"، الفضل في نجاح التجربة التونسية وتجاوزها للمطبات التي وقعت بها دول الربيع العربي الأخرى.
ويأتي هذا الكلام في سياق نجاح التونسيين في إجراء انتخابات نزيهة يشارك فيها الجميع، دون " فيتو " من أحد، ودون استئثار من فريق، أو استقواء من آخر.
ابتداء لا ننكر أن ظاهر المشهد التونسي، يشير إلى أن حزب النهضة التونسي، الذي يشكل الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، كان أكثر حصافة ، وأكثر كياسة في إدارة العملية السياسية في تونس من الأحزاب المنتمية للجماعة في الدول العربية الأخرى.
فحزب النهضة التونسي، وداعموه من جماعة الإخوان، لم يحاولوا، أو لم يستطيعوا، الاستئثار بالسلطة واحتكارها ، كما فعلت الأحزاب المماثلة في الدول العربية الأخرى. كما أنه لم يحاول، أو لم يستطع تمرير دستور وقوانين، على مقاسه، كما جرى في دول عربية مرت بنفس التجربة، وعاشت نفس الظروف.
الواضح أن حزب النهضة، الذي حافظ على قدر من المرونة في إدارة العملية السياسية منذ نجاح الثورة التونسية، والذي استطاع أن يحافظ على موقع رئيسي في تلك العملية، ما كان له أن يحقق ما حقق لولا طبيعة الظروف والخلفيات التي تتحكم في مسار الحياة السياسية في تونس.
إخوان تونس ، على عكس جماعة الإخوان في دول عربية أخرى، لم يكن بإمكانهم تنفيذ، أو تمرير مشروع لأخونة الدولة، كما حاولت جماعة الإخوان في مصر. فهم برغم كل الجهود التي بذلوها في انتخابات الجمعية التأسيسية لم يستطيعوا تحقيق الأغلبية التي تمكنهم من الاستئثار بالسلطة، أو صياغة دستور على مقاس الإخوان، ووفق رؤيتهم، واضطروا بسبب ذلك للدخول في تحالفات مع أحزاب سياسية أخرى، شكلت ندا عنيدا لهم وضبطت إيقاع عملهم ومنعتهم من أي محاولات لتجاوز قواعد الديمقراطية، أو محاولة تجيير إنجازات الثورة، وجعلها إنجازا للجماعة، أو ثمرة لعملها.
ومن باب القبول بأهون الشرين، فإن حزب النهضة الذي لم يكن يتوقع الإخفاق الكبير لجماعة الإخوان في ساحات أخرى، وجد أن تعثره في الحصول على الأغلبية المطلقة في انتخابات الجمعية التأسيسية التونسية، وفشله في فرض دستور على مقاس الإخوان ،هو الضارة النافعة. فهو وإن لم ينجح في تطبيق الإستراتيجية الإخوانية القائمة على فكرة الاستئثار، وعلى أساس تهميش الآخر وإقصائه، فإنه نجح في الاحتفاظ بمكانه كلاعب أساسي في مفاصل الحياة السياسية والرسمية التونسية. بل إنه استطاع استخدام إخفاقه لتجميل صورته كحزب مستنير، قابل بشروط اللعبة الديمقراطية ومستعد لدفع استحقاقاتها.
بل أكثر من ذلك فقد حاولت قيادة الحزب جعل ذلك الإخفاق أساسا للمقارنة، والمفاضلة مع الأحزاب الإخوانية الأخرى، التي نجحت بالانتخابات، وفشلت في الاحتفاظ بوجودها في الحياة السياسية.
ولعل في النقد المرير لتجربة إخوان مصر، الذي قدمه السيد راشد الغنوشي في اجتماع القيادات العالمية للإخوان في اسطنبول الصيف الماضي، يؤكد تلك المحاولة، حيث انتقد الغنوشي ما اعتبره محاولات استئثار جماعة الإخوان في مصر بالسلطة، الأمر الذي انتهى بهم إلى غياهب السجن أو إلى التشتت في المنافي.
القبول باقتسام السلطة مع الآخرين لم يكن ميزة امتاز بها حزب النهضة عن الأحزاب العربية المنبثقة عن جماعة الإخوان، بقدر ما كان انعكاسا طبيعيا فرضه واقع تونسي، شكلته تجربة سياسية ثرية وضع لبناتها الأولى مؤسس تونس الحديثة ومجاهدها الأكبر الحبيب بورقيبة، الذي كان له الفضل الأول في تكريس مبدأ مدنية الدولة وفي إعطاء المرأة التونسية حقوقا اجتماعية وسياسية أنكرتها عليها كثير من الأنظمة العربية، وكانت مدعاة للتندر والاستهجان من بعضها.
هذه الإنجازات السياسية للجمهورية التونسية الأولى بقيادة بورقيبة، هي البرنامج الذي فاز على أساسه من سيقود الجمهورية الثانية. والإخوان حين أدركوا، أو اضطروا لأدراك هذه الحقيقة، لم يكونوا قادرين على تجاوزها وتجاوز ما رتبته من استحقاقات لا يمكن إنكارها أو إغفالها تحت أي ذريعة، وتحت أي مسمى.
الانتخابات التشريعية التونسية هي الحلقة الثانية من مسيرة الديمقراطية، التي بدأت بإقرار دستور تونسي يؤسس لديمقراطية لا تقوم على ممارسة الانتخابات فقط، بل على أساس مشاركة فعلية لكافة أطياف وألوان المجتمع بعيدا عن التكفير باسم الدين أو التهميش باسم الغلبة.
*رئيس تحرير شبكة إرم الاخبارية