أخبار الساعة » حقوق وحريات » العمال

العمّ إبراهيم

- همدان العليي - العربي الجديد
28 عاماً، والعمّ إبراهيم خيرالله يجوب شوارع أحد أحياء العاصمة اليمنيّة صنعاء. يحمل مكنسته ويرتدي الملابس الخضراء ذاتها ويغطّي رأسه بالحطّة البيضاء الحمراء نفسها، ويجرّ خلفه كيساً من النايلون يجمع فيه ما يجده من قطع بلاستيكيّة ومعدنيّة صالحة للبيع في سوق الخردة. ويقصد الأمكنة والأرصفة والزوايا نفسها في كل يوم، ليعالج بمكنسته ما أفسده الآخرون. 
 
العمّ إبراهيم (58 عاماً) الذي يبدو للناظر إليه أكبر سناً بعدما غطّى الشيب ذقنه ورأسه، لم يعرف معنى الطفولة في يوم. فهو عمل في الزراعة، منذ نشأته في إحدى قرى منطقة تهامة التي تبعد نحو 250 كيلومتراً عن العاصمة صنعاء. 
 
لم يحمل قلماً في يوم. فهو كان يرافق والده إلى الحقل، يزرع الأرض ويحرثها. هذا كل ما كان يحقّ له. فالمدارس لم تكن متوفّرة له ولأبناء قريته الذين يطلق عليهم المجتمع اليمني اسم "الأخدام" (أو المهمشين)، بسبب ملامحهم الأفريقيّة وبشرتهم السوداء. هؤلاء يُعدّون كأدنى الطبقات الاجتماعيّة في البلاد. 
 
عندما بلغ الفتى إبراهيم عامه الثاني عشر، غادر قريته وتوجّه إلى صنعاء باحثاً عن عمل وقد أصبحت زراعة الذرة والبقوليات غير مجدية. وكان الفتى قد سمع "عن المدينة وعن الأعمال المتوفّرة فيها. فوصلتُ صنعاء وحدي وعملت في البناء". لكنه، "ومنذ عهد الرئيس إبراهيم الحمدي (منتصف سبعينيات القرن الماضي)، رحت أعمل في صندوق النظافة". وبعدها سافر إلى المملكة العربيّة السعوديّة ليعمل في مجال الحدادة. ومذ رجع إلى صنعاء في عام 1986، عاد ليعمل من جديد مع صندوق النظافة. 
 
كان أجر هذه الأعمال متواضعاً جداً، لكنه كان يكفيه لتدبّر أموره ويساعده على توفير مبالغ لأسرته في تهامة. كان يجني 750 ريالاً (دولاراً أميركياً واحداً)، الذي كان في ذلك الزمن مبلغاً كبيراً. فيشتري به الأغنام والأدوات المنزليّة "وأرسلها إلى أهلي في القرية. أما اليوم، فلو كنتَ تملك 100 ألف ريال (500 دولار)، فأنت لن تتمكّن من شراء ما يرضيك"، نظراً لتراجع سعر صرف العملة. 
 
اليوم، يتقاضى العمّ إبراهيم 27 ألف ريال يمني (125 دولاراً) كراتب شهري من صندوق النظافة والتحسين التابع لأمانة العاصمة، مقابل ثماني ساعات من العمل يومياً. وهذا المبلغ لا يكفيه لأيام قليلة من بداية الشهر، و"لولا أنني أجمع المخلّفات البلاستيكيّة والمعدنيّة وأبيعها وأقوم ببعض الأعمال في بعض المنازل، لكنت متّ أنا وأسرتي جوعاً". 
 
يشعر العمّ إبراهيم بالرضا والفخر في مهنته هذه، كعامل نظافة. "فالنظافة من الإيمان، ونحن نقوم بدورنا في جعل البيئة نظيفة. هذه رسالة إنسانيّة وعمليّة مقدّسة، لا يعرف البعض عظمتها وقيمتها". لكنه، لا يخفي انزعاجه من عدم قيام أمانة العاصمة بتثبيته وظيفياً على الرغم من سنوات العمل الطويلة التي قضاها فيها. "لو حدث لي مكروه، لن تنال أسرتي أي مرتّب تعتاش عليه. أنا ما زلت أعمل بالأجر اليومي. وعدونا كثيراً بالتثبيت ورفع المرتبات، لكن هذه الوعود سرعان ما تبخّرت". 
 
يعيل العمّ إبراهيم اليوم أسرة مؤلّفة من 12 فرداً، أي زوجته وأبناؤه وبناته. ومعظم هؤلاء، لم يتابعوا إلا دراستهم الابتدائيّة. فهم اضطروا سريعاً إلى العمل. ويأسف لأن "أبنائي توصّلوا إلى قناعة مفادها عدم فائدة الدراسة، بخاصة مع تدنّي مستوى التدريس وسوء معاملة بعض المدرّسين والتلاميذ لهم، باعتبارنا من فئة الأخدام. فأولادنا يوضعون في المقاعد الخلفيّة في الفصول، ويُعاملون معاملة غير إنسانيّة. هذا ما دفعهم إلى العزلة وترك الدراسة". 
 
بصوت خافت وقد وجّه ناظرَيه صوب الأرض، يشكو. "نحن فئة المهمشين كما يصفوننا، نعاني من معاملة عنصريّة تعزلنا عن المجتمع بسبب بشرتنا السوداء". لكنّ ابتهاجاً خجولاً لا يلبث أن يبدو على وجهه، "فالناس لا يعاملوننا جميعهم بعنصريّة. ثمة عدد منهم يقدّرون إنسانيتنا ويحترمونها، بخاصة في هذا الحيّ". 
 
وأهالي منطقة هبرة/حيّ وادي جميل في صنعاء، يتعاملون مع العمّ إبراهيم على أنه أحد أفراد الحيّ على الرغم من أنه يسكن في مدينة خاصة بالعمال، تبعد أقلّ من نصف كيلومتر عن الحيّ الذي يقضي فيه ساعات نهاره. بالنسبة إليه، "أفضل لحظات حياتي عندما أسمع الأطفال وهم يدعونني عمّ إبراهيم، بعيداً عن لغة العنصريّة التي يستخدمها بعض المتكبّرين الذين ينادونني يا خادم ويا قمامة". لكن العمّ إبراهيم يخوض شجارات يوميّة مع بعض الأهالي والأطفال "بسبب رميهم المخلفات والأوساخ بالقرب من منازلهم، من دون توضيبها في أكياس من النيلون تسهّل التعامل معها وتحافظ على مظهر الشارع".

Total time: 0.0541