المستفيد الأول من فشل الربيع اليمني هو النظام القديم الجديد، فليس في اليمن دولة حتى نصفها بالـ'عميقة' وليس هناك سلطة بل تسلط ودولة هشة.
بعد نحو أربع سنوات مضت من الثورة اليمنية والتي وأدت من قبل الإسلام السياسي بشقيه المذهبي، والمؤسسة القبلية وعناصر النظام أنفسهم، وكأن اليمنيين اليوم يلاقون جزاء محاولتهم في التغيير، ولعل المستفيد الأول من فشل الربيع اليمني هو الرئيس السابق، ففي علم الجريمة مقولة ابحث عن المستفيد، والمستفيد النظام القديم الجديد والذي لم يتغير قيد أنملة ومخطئ من يظن بأن هناك نظاماً قديماً وآخر جديداً أو دولة عميقة، فليس هناك دولة حتى نقول "عميقة" وليس هناك سلطة بل تسلط ودولة هشة.
تداخل مصالح القوى المتناحرة على كعكة السلطة التي لم تعد مغرية هو سبب تعثُر العملية السياسية، فكل من في المشهد السياسي فاشلون لا محالة، وإجمالاً فإن المشهد السياسي مع مرور الأيام يزداد قتامة وضبابية بانسداد الأفق السياسي وتعثر العملية السياسية التي يتشدق بها الجميع، وبداهة فإن انزلاق الأمور على هذا النحو تجعل اليمن أكثر ارتهانا للخارج.
وما يحصل اليوم ماهو إلا نتاج فساد ثلث قرن مضى من حكم تسلط في اليمن ولم يعمل على إرساء أسس دولة مدنية، وهو الأمر نفسه في تطورات سبتمبر الماضي بسقوط صنعاء بيد من يسمون أنفسهم بأنصار الله وبانقلابهم بقوة السلاح تجاوزا خارطة الطريق التي رسمتها المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار وكان اليمنيون على أعتاب الاستفتاء على الدستور وكانت تلك التطورات المؤسفة نسفاً صارخاً للإجماع الوطني وله تبعاته على الوحدة الوطنية والقضية الجنوبية، فقد اعادوا اليمن للمربع الأول.
ومن السذاجة القبول بعناصر هذا النظام بما فيهم الرئيس هادي نفسه الذي هو جزاء من نظام صالح وهو ممن شملتهم حصانة المبادرة الخليجية السيئة الصيت، الإشكال الاساسي في مألات المشهد السياسي المتداعي في اليمن أن كل هؤلاء العابثون ليس فقط منحوا حصانة ولا زالوا يمارسون السلطة والتسلط سواء جناح صالح او هادئ ولكنهم أيضا يشاركون في رسم معالم المستقبل.
أحزابنا بدون استثناء لا تمارس العمل الحزبي بصورة ديمقراطية، ففي العالم المتقدم والنامي على السواء عندما يخسر رئيس الحزب السلطة يتوارى بدون ضجيج وبدون مبادرات إقليمية فعلى سبيل المثال فإن حزب المؤتمر بدلا من ان يكون وسيلة لخدمة الوطن يبدو في غير صالحه فزعيم الحزب الرئيس السابق كان يفترض أن لا يكون له دوراً سياسياً بعد خروجه "النظري" من السلطة فلوا كان هناك ديمقراطية داخل الأحزاب اليمنية لتم إزاحته من الحزب حتى لا يبقى مسمار جحا، ولو تضمنت المبادرة نقطتين أساسيتين وهي عدم ممارسة السياسة سواء في السلطة او من خلال الحزب وكذلك كان على قواعد الحزب ان تتدارك ذلك سواء قبل او بعد وتعقد مؤتمراً وبدلاً من إخراج صالح من الحزب تم إخراج رئيس الجمهورية مع إن ذلك لا يعني شيئاً، فالحزب وجوده وعدمه على السواء، وليس الا مجرد احد معرقلي العملية السياسية، ولكن في ذلك تناقضاً صارخاً للوائح المؤتمر نفسه فرئيس الحزب هو رئيس الجمهورية ومن هنا فلم يعد حزب السلطة بل حزب يسعى للتسلط والسلطة.
وهو الأمر نفسه للبرلمان الذي كان يفترض نظرياً بأنه صوت الشعب ولكنه لأنه أقدم برلمان في العالم ومعظمهم من الحزب الذي خسر السلطة لهذا فيفترض انه المؤسسة الرئيسية غير شرعية ولكنه في نظر صالح كما صرح انه المؤسسة الوحيدة شرعية والحال عكس ذلك فالمؤسسات الشرعية كالرئاسة الجديدة والحكومة هي في نظر من أطيح به غير شرعية، ولم يمنح الثقة لحكومة خالد بحاح إلا بمقابل عدم الاعتراف بمطالبة المجتمع الدولي والأمم المتحدة بفرض عقوبات على الرئيس السابق!
اما الرئاسة فهي من الضعف ما يجعل الرأس الأول فيها يكيل التهم لمن اسقط صنعاء ويصرح غداة سقوطها بأنها مؤامرة ويتهم ايران في معظم خطاباته وفي نفس الوقت يوقع اتفاق سلم وشراكة مع أصحاب المؤامرة، ويتهم إيران في كل خطاب بأنها محرضة للعنف وتدخل، وحين بات أنصار الله حقيقة واقعة يستجدي إيران ان تتواصل مع المؤسسات الرسمية وليس مع حركة متمردة، وليس بعيدا انه قد عقد صفقة سرية مقابل بقائة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم لايقولون إلا كذبا، تماما كسلفه صالح كل تصريحاته وخطاباته في معظمها كذب وتدليس ويندرج في ما يُسمى الديماغُوجية والبرغماتية التي عرف بها صالح الذي ينحني للعاصفة عكس الدكتاتوريين العرب الذين لقوا نهاية درامية، ولهذا استمر في حكمه واستمر حتى بعد حكمه، إنها من مفارقات المبادرة الخليج السيئة الصيت لم يحصد منها اليمنيون سوى حصانة لمن عبث بوطنهم ثلاثة عقود وظل يمارس العبث حتى بعد خروجه من السلطة.
يعيش اليمنيون الآونة الأخيرة على إرهاصات ومخاوف منها احتمال تدبير انقلاب مع انه من الصعوبة القيام بانقلاب فالجيش اصبح جيوشاً والولاءات متعددة، وكذلك إرهاصات مضمون الدستور الذي يدبر أمره بليل بعكس الحوار الوطني الذي امتد لتسعة أشهر وينقل اعلاميا الغث والسمين، ويتيه آخرون حول مصير الأقاليم والتي كأنها قدر لليمنيين مع ان منح صلاحيات واسعة للمحافظات كانت كفيلة بحل الإشكال وأشبه بما هو معمول به في الفدراليات.
فقد كانت أهداف ثورة الربيع في اليمن لإشكال بين الحاكم والمحكوم وليس بين المحكومين والأرض، فما ذهب الوطن يقسم بسكاكين السياسة وهكذا وبعد مستجدات وصول أنصار الله لمقاليد السلطة أصبح تقسيم اليمن لإقليميين يفرض نفسه كأمر واقع بالنظر للمعطيات الجيوسياسية، وربما لا نصل حتى لهذه الافتراضية بل اقاليم متناحرة لان مفهوم الفدرالية في بلدان العالم انها تستند لنواة صلبة مركز قوي وليس لواقع مهلهل!
اليمن غدا حقل تجارب لمراهقي السياسة وليس سعيدا بوضعه المزري منذ أكثر من نصف قرن مضى ولا سيما في العقود الأخيرة التي نتجت هذه الفوضى فلو كان نظام صالح خلال ثلث قرن قد أسس لدولة مدنية لما وصلت الأمور لما هي عليه، والمواطن اليمني غدا في وضع بائس عندما يرى وطناً يذبح كل يوم أمامه وحكاماً مهووسين بالسلطة ويتهافتون عليها وكلهم يتكلمون بالوطنية والدولة المدنية والحوار الوطني، الإشكال الجوهري بأن اليمنيين يعيشون فقط على قيم افتراضية، ديمقراطية، جمهورية، وحده، تعددية حزبية، برلمان، حوار وطني...إلخ فالحزب ليس بحزب وقيادات فالأحزاب معتقة ومخلدة فلا ديمقراطية حقيقية ولا جمهورية بلا توريث واستبداد ووحدة اقصائية وتفريخ أحزاب وأطول برلمان في مدته في العالم وحوار وطني أفرغ من محتواه وغدت مخرجاته أمنيات مستحيلة!
وكلها مجرد مسميات في غير مسماها وكما قال الشاعر الأندلسي ذو الوزارتين بن عمار في ذم آخر ملوك اشبيلية المعتمد بن عباد في قصيدة يذمه فيها وابيه يقول في مطلعها:
مما يزهدني في ارض أندلس اسمـــاء معتضد فيها ومعتـــــمد
القاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
عبدالوهاب العمراني
دبلوماسي يمني وكاتب سياسي
بداية الانزلاق للفوضى في المشهد السياسي اليمني
اخبار الساعة - عبدالوهاب العمراني
المصدر : ميدل ايست أونلاين