أخبار الساعة » دراسات ومتابعات » دراسات وتقارير

جيل القطيعة يرحب بالجنون واللعب

- علي مغازي

هذا نص بيان وقعه مثقفون جزائريون في نوفمبر 2004، يتضمن دعوة لقطيعة واعية مع الجوانب الهشة من الذات التاريخية، ويبشر بنهاية هذا الوضع السيزيفي المأساوي الذي آلت إليه الحركية الثقافية في الجزائر.. انه صرخة وسط صحراء التوابيت في العالم العربي وفي بلادنا:

نرفع صوتنا عاليا، ونعلن أننا جيل مختلف، طموحًا ورؤيا وحساسيةً، لا نقتات على الظرف السياسي ولا تَرتهِنُ أصواتَـنا تقلباتُه، لا نهادن ولا نستسلم للجاهز الكرنفالي الذي يمثل التواطؤ المبرمج لسحق إمكان انْبثاق ضوء جديد أو فكر جديد.

نرفع صوتنا، ونعلن رفضنا الاستمرار في ترقيع الراهن الثقافي عبر الاحتكار المستمر للرموز الثقافية من قِبَلِ أشخاص في هيئة مؤسسات أهلية، والاستمرار في نفخ كير منطفئ لرؤى لم يعد لها مبرر وجود سوى أنها كانت آلية ورؤية باتت في ذمة التاريخ بكل تطلعاتها.

إن السائد المكرس ثقافيا في الجزائر اليوم، والذي يُسهم المثقفُ الداجن والكاتب الأجير في إبقائه مسموما وخانقا لهو من الهول بحيث يهيبُ بنا أن نصرخ في وجهه، مجْهزين عليه بمعاول النقد البصير، المسؤول؛ أي ما يمثل قوة التطلع وعبق الوعد فينا لولادة جديدة على الأرض المجدبة.

نشعر عمقيا أننا نتحدر من سلالة الخارجين والملعونين والرؤيويين الذين شهدوا بحياتهم وإبداعاتهم على قامة الإنسان السامقة وهو يصادق الريحَ والبحرَ ويبتهج لأفول الآلهة.

إننا بعيدون عن كل المحاولات الرامية إلى جعل الكاتب والمثقف ديكورا يمنحُ المشروعيةَ للسائد ويبرر بنشاطاته هذا الموات الذي يمارسه كورس هزيل ثقافيا لا يكاد يدرك دلالة نشيد البجعة الذي يمارسُه.

إننا جيل عولميُّ الطالع، حداثيُّ الرؤيا. نقول: وداعا للطوطمية بكل أشكالها. وداعا للطوطم الثقافي. وداعا للطوطم العقلي والفكري. أهلا بالريح الصديقةِ الكانسةِ لقشِّ المبتذلِ، المكرورِ، المنافقِ. أهلا بكلام البدايات المتجذرِ في اللحظة. أهلا بالجنون واللعب.

نعتقد بعمق؛ أن الفاعلية الثقافية والإبداعية لا تخضع للجاهز بل هي دينامية تعكس غنى التجربة الفردية بالجماعي والجماعية بالفردي، إنها النسغ الذي يهدرُ في ذات الإنسان ولا يمكن أن يفصح عن نفسه إلا في مناخ من الحرية والاختلاف.

علينا إذن؛ أن نحرر هذا الهديرَ الداخليَ لينابيع الخصوصية من محاولات اعتقاله وتجفيف ينابيعه، كما علينا أن نحرر غمامةَ الإبداع الجزائري المحبوسةَ في الزجاجة الموهوبةِ للنسيان.

إن راهن اللحظة العولميَّة، كونيَّ الطابع، يحتّم علينا أن نبتكر أصواتَنا وأن نكتشفَ بخصوصياتنا معادلةَ الدخول في هارمونيا الكوني، وأن نسهمَ في تدشين تاريخٍ إنساني جديدٍ تتآلف فيه الأطرافُ ويترسَّخ فيه الوعيُ النقديُ اليقظُ بضرورة فضح كل محاولات التمركز والانغلاق على الذات ونبذ الآخر.

لنا إشكالاتنا التي يطرح عصرنا ووضعنا. لا نصطنع القضايا الزائفة ولا ندَّعي الحنكة في الإجابة عن أسئلة تستدرجنا إلى أرض ملغمة.

ليست لنا مشكلة مع (الهوية) وما يعمد باسم الثوابت لأن هويتنا ليست نقطةً في الماضي ولا هبةً طبيعية ترسم ملامح وجهنا إلى الأبد. إنها تحوّل واغتناء دائم. إنها جدل الذات مع التاريخ والواقع. إنها سؤال الحاضر باستمرار وهي وعد بالتحقق.

ليست لنا مشكلة مع التراث، إنه تجربة الماضين وإنجازاتهم وإجاباتهم عن التحديات العقلية والوجودية والسياسية والحضارية التي واجهتهم، وهذه التجارب غير ملزمة على الإطلاق. إنها مجال رحب ـ كما يبين الفكر المعاصر ـ لإدراك التجربة الإنسانية متلبسة بالتاريخ والنسبية والمشروطية، ما يعني طبعا تفتت القداسة والإطلاقية.

ليست لنا مشكلة مع "امرئ القيس" أو"الشافعي" أو"ابن تيمية" أو"المعري" أو "ابن رشد" أو "الأمير عبد القادر" أو"محمد العيد آل خليفة"، لقد أسهم هؤلاء ـ كل بطريقته ـ في إخراج القدر الإنساني من تفاهته الفادحة في الغبار الكوني إلى أفق الجمال والأبهة والجدارة وتأكيد الذات والتنوع المفتوح.

مشكلتنا بالأحرى مع الاستخدام السياسي والأيديولوجي لموضوعة التراث من أجل ترسيخ وهم الاستمرارية والتواصل مع ماض (ذهبي) في راهن يعتقد أنه (يغرق في الظلام). مشكلتنا مع الوصاية السياسية والأبوية المتكئة على التراث لتبرير احتكار المشروعية الرمزية بكل مناحيها، مع ما يترتب على ذلك من قمع ونبذ وإقصاء للمختلف والمغاير.

إن وعينا الحداثي لا يقوم على التنكر للماضي، بل على احترامه والقطع مع كل ما يحاول تأبيده بوصفه منتهى وشيئا ناجزا ومتعاليا على النقد. وموقفنا الحداثي المنفتح يتيح لنا قراءة الحداثة ليس بوصفها أيقونةً (أثيريةً) تعبد؛ بل تجربة حضارية مشروطة بظروفها ولها أزماتها. إذ أن الراهن الحضاري قائم على هدم الأيديولوجيات والفكر الشمولي، وهو ـ تحديدا على المستوى العالمي ـ لحظة المراجعة الماحصة لمنجزات الحداثة الكبرى التي تم تحقيقها، وهو فرصة لتقييمها والكشف عن بطانتها الأيديولوجية المحتكرة للمعنى النهائي للعالم والتاريخ والأشياء. فما نعيشه اليوم هو تعدد الأصوات وانكثار العالم وانبجاس شرعية المختلف بتزحزح الذات عن المركز. إن التفكيك العظيم الجاري حاليا هو ما يشكل أرضية حوارنا مع ذاتنا التاريخية ومع العالم، وهو ما يمنح أصواتنا نبرة (جديدة) ويهبنا صفة الراهنيّة واليقظة المبدعة وسط صحراء التوابيت في العالم العربي وفي بلادنا.

إن الوضع السيزيفي المأساوي الذي آلت إليه الحركية الثقافية في الجزائر من رتابة وخور وارتهان للرسمي، لدليل على الانسداد العام الذي نسهم كلنا في تتويجه على عرش اللاجدوى الهائلة. إن الحس الرواقي القدري عند جل المثقفين والمبدعين الذين لاذوا بالصمت واستسلموا لآلة الإقصاء الكبيرة، هو أمر واقع، ولكنه لا يبرر الانسحاب، فالمثقف الحقيقي يعي جيدا أن الرماد لا يخنق جذوةَ الإبداع، طائر الفينيق لا يموت. ويلزمنا اليوم نضال كبير انتصارا للإنسان، للعقل، للروح، للجمال، للحرية، للصدق، وانتصارا للكرامة. إن البشاعاتِ والقباحاتِ تطوقنا كالرمال المتحركة، وهي جاهزة ـ في كل حين ـ لابتلاع الكاتب والمفكر وتحويله إلى مرتزق ومهرج وموظف ليتنازل عن مهامه النقدية الأصيلة ويصبح من زبانية الجحيم الثقافي الرديء؛ يصادق على الوضع الراهن. يمنح المشروعية. يحول أفكاره وكلماته بغايا لقاء تحقيق المصلحة الضيقة وكسب رضى المؤسسة الرسمية. وبعد هذا يدعي هؤلاء الأصالة! أهكذا عاش وفكر "ابن رشد" لإشاعة روح البحث العقلي؟ أهكذا حاور "المعري" الوضع الإنساني بقلقه البصير؟ أهكذا كابد "ابن عربي" مواجيده لمعانقة المطلق واكتشاف الكوني في الإنسان؟ أهكذا عاش وناضل "الأمير عبد القادر" و"ابن مهيدي" في الجزائر الحديثة انتصارا للحرية والكرامة؟ ليعلمْ هؤلاء جيدا؛ من كتبَةٍ ومتسولين أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان!.

إن القطيعة التي نبشر بها تتحدد ملامحها بما هي انبجاس للمثقف النقدي، المستقل فكرا وممارسة عن السائد، وبما هي عتق لشرارة الإبداع عند الكاتب الرافض لتوقيع وثيقة موته والصام أذنيه مثل "أوليس" أمام ندَّاهةِ الإغراء الكبيرة.

إن القطيعة مع السائد الثقافي المؤسسي ومع الخور الذي يكاد يلفِّعُ كل كتابنا لهي أكثر من ضرورة، إنها شهادة على مناعة الروح والعقل والشرف الإنساني، إنها موقف حضاري يعيد للمثقف والمبدع الجزائري اعتباره وكرامته.

نرفع.. عاليا ونبشر بمقدم "نيرون" الإبداعي الذي سيشرب نخب احتراق المشهد الثقافي الرديء أمام ناظريه، ولْيرْفعْ نشيد الغبطة.

وقع البيان مجموعة من المثقفين الجزائرين/2004

Total time: 0.0804