معركة الحرية لا تتجزأ والانتصار للعدل والكرامة والحرية في مكان ما يفرض أن تنتصر لهذه المبادئ في كل مكان والانتقائية في المواقف يسئ لمجموع المواقف كلها. فلا يجوز أن تنتصر للنضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وتؤيد الفصل العنصري في إسرائيل ولا يجوز أن تقف مع المظلومين في هايتي والصومال وميانمار وتقف ضد طالبي الحرية في فلسطين والشيشان وكشمير. فالحرية والعدل والمساواة التامة بين الأجناس والأعراق والعقائد واحترام كرامة الإنسان ليست ثيابا تفصل على مقاس هذا النظام أو ذاك الفصيل أو الزعيم أو الأمير بل هي مثل عليا توافقت آراء الشعوب جميعها عبر التجربة التاريخية على أنها صالحة لكل مكان وزمان وقد أقرتها الأديان والثورات المتعاقبة ضد الظلم وجاءت منظومة القوانين الدولية الحديثة لتثبتها على شكل اتفاقيات ومعاهدات ومواثيق وشرائع وإعلانات تفرض على الدول جميعها الالتزام بها. وقد خطت البشرية وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين خطوات واسعة نحو تبني تلك المثل والمبادئ الإنسانية وتنفيذها بدرجات متفاوتة. فقد تم إلى حد كبير التحرر من الكولونيالية واستعباد الشعوب من قبل الدول الاستعمارية وانتهت العبودية والاتجار بالبشر وحرمت جرائم الإبادة البشرية وحددت الحقوق القانونية بين جميع أطياف الشعوب والأقليات والسكان الأصليين والمرأة والطفل واتجه العالم بعد انهيار منظومة الدول الشمولية التي كان يمثلها الاتحاد السوفييتي إلى المزيد من الحريات العامة والتعددية والديمقراطية والتعاون وانهارت الدكتاتوريات الواحدة بعد الأخرى من شاه إيران إلى ماركوس الفلبين ومن ساموزا نيكاراغوا إلى بوكاسا أفريقيا الوسطى ومن منجستو مريام إثيوبيا إلى موبوتوالكونغو ومن بنوشيه تشيلي إلى دي فالييه هايتي. إنهار جدار برلين وانهارت معه أنظمة الحزب الواحد والقائد الواحد والإيدولوجية الواحدة وتبنت هذه الدول النظام الديمقراطي الذي يتيح تداول السلطة وتعددية الآراء ومحاسبة الفاسدين ومراقبة نزاهة الانتخابات. وشهدت هذه الدول نهضة صناعية وتجارية وسياحية هائلة. فبلد مثل جمهورية التشيك (طبعا ليست دولة نفطية) تحتل المرتبة الاقتصادية 28 في العالم بميزانية احتياطية تصل إلى 261 مليار دولار. وتحتل إستونيا المرتبة ال 34 وهنغاريا المرتبة 36 وأول دولة عربية من بين الدول 169 على سلم قائمة مؤشر التنمية الدولي تحتل قطر الموقع ال 38 في حين تحتل ليبيا المرتبة 53 والسعودية الموقع 55 بينما تنزلق مصر إلى المرتبة 103 في حين تحتل سوريا المرتبة 113 وتحتل المغرب الموقع 116 أما اليمن غير السعيد فبضل حكم علي عبد الله صالح غير الصالح فلم يتم تضمينه من بين الدول 169 لأنها من بين الدول العشرين الأقل نموا في العالم. الاستثناء العربي.. ومع نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وصلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم العربي إلى حالة غير مسبوقة من التمزق والانهيار والتخلف وانتشار الفقر والأمية والبطالة وتراجع التعليم والقراءة والصحافة المحلية واتساع الهوة بين حفنة من الأغنياء وجموع من الفقراء وتهميش للمرأة وتركيز عل قشورالدين وتغييب متعمد لجوهره وتوقف عمليات التنمية واتساع رقعة الفساد وانفلات الطائفية والعرقية في أكثر من بلد وقيام صراعات متعددة بين مكونات البلد الواحد وانهيار للبنى التحتية حتى أصبحت فيضانات بسيطة تؤدي إلى مقتل العشرات في بلد غني كالسعودية. ولا يكاد يمر يوم دون أن تسمع عن انهيار أو انفجار أو مذبحة أو فضيحة. بل وشهد لبنان والجزائر والسودان واليمن نوعا من الحرب الأهلية وتم احتلال العراق وتمزيق بنيانه الديمغرافي بمساهمة عربية أساسية وخسر السودان جنوبه وتعمق الاحتلاال الصهيوني لكل فلسطين وتم تهويد القدس تحت سمع وبصر النظام العربي الذي تمثله جامعة عربية لا عمل لها ومشروع سلام ولد ميتا يجسد حالة العجز والاستسلام الشامين. وقد أشار تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في نهاية عام 2009، والذي أعده مجموعة من الخبراء العرب، إلى أن العالم العربي مصاب بالعديد من العلل القاتلة وأهمها ثلاثة: نقص في االمعرفة ونقص في الحريات ونقص في حقوق المرأة. وتحدث التقرير عن البطالة والأمية ومعدلات الدخل ومعدلات الإنتاج وغيرها وكلها تشير إلى وضع غير مسبوق من التراجع أو الجمود أو الانهيار أو كلها مجتمعة. هل هناك مؤامرة خارجية؟ إن الحديث عن مؤامرة خارجية أتفه من أن يؤخذ بشكل جدي.. بل إن عدم قيام انفجارت شعبية ضد تلك الأوضاع قد يثير الكثير من التساؤلات حول مؤامرات خارجية. فمثل تلك الحالة المأساوية تعتبر مثالية لإسرائيل والولايات المتحدة ومن مصلحة الطرفين استمرارها لتسهيل نهب ثروات البلاد والإبقاء عليها كسوق مستهلك فقط في ظل صمت حكام فاسدين لا علاقة لهم بهموم شعوبهم ومعاناتهم وأولوياتهم. والحديث عن الممانعة والمقاومة والصمود لم يعد يقنع أحدا في ظل ما تعيشه الشعوب من ضنك اقتصادي وخنق للحريات وفساد مطلق لم يعد سرا في عصر أصبح تبادل المعلومات سهلا والوصول إلى الحقيقة ليس حكرا على النظام، وإجراء مقارنة بين ما يجري داخل البلاد من تخلف وما يجري خارجها من ازدهار وتقدم أمرا سهلا لا يحتاج أكثر من نقرة على فأرة الحاسوب. هل هناك حجة في مقولة علي عبد الله صالح بأن هناك مؤامراة على حكمه "الرشيد" تديرها أمريكا من تل أبيب، أو أن هناك مؤامرة من تنظيم القاعدة على جماهيرية القذافي العظمى أو أن هناك مؤامرة إيرانية ضد نظام العدل والمساواة في البحرين أو وجود مؤامراة سعودية سلفية تمول عصابات مسلحة ضد نظام "العدل والحريات والرخاء وسيادة القانون" في سوريا؟ أي هراء هذا؟ إذن المؤامرة الحقيقية ليست في العمل على إسقاط هذه الأنظمة التي تنتمي للعصور الوسطى بل الخوف كل الخوف أن تحاك خيوط مؤمرات متعددة الأطراف والجوانب لتبقي على هذه الأنظمة والتي يعتبر وجودها عامل استقرار لأمن إسرائيل من جهة ونهب ثروات الأمة بسهولة من جهة أخرى. ألم تكن تعرف الولايات المتحدة أن هذه الأنظمة مكروهة من شعوبها؟ ألم تكن تعرف أنها معادية للحريات والتعددية وسيادة القانون وحقوق المرأة وأنها تنهب خيرات شعوبها كما جاء في برقيات سفرائها في المنطقة التي نشرت على موقع الوكيليكس؟ إذن هذه هي المؤامرة ولا مؤامرة غيرها.. لكننا كلنا ثقة أن خيوط مؤامرة إبقاء طاقم الحكام الثمانيين وأولادهم لا بد أن تنهار بفعل ثورة الجماهير العربية الشريفة الشجاعة والتي ستدفن مع هؤلاء الحكام عصور النهب والفساد وتبديد الثروات والانصياع للقوى الخارجية والتفريط بكرامة الوطن والمواطن. |
* أستاذ جامعي وكاتب سياسي يعيش في نيويورك. |
النظام العربي ونظرية المؤامرة.. تأخير الانهيار لا منعه
اخبار الساعة - عبد الحميد صيام