اخبار الساعة - منى صفوان
ومن بعدهم يرتص ويركض كل المثقفين والأكاديميين، السياسيين والشيوخ والضباط الكبار.ولكن أتعرفون لما وصل مشروع الثورة اليمنية إلى مرحلة الخمود الآن! لأنه الآن يعتمد على تحويله إلى مشروع سياسي، و الثوار الشباب الذين لم يأتوا من العالم النظري، عالم "مقايل القات السياسية " والمنتديات الفكرية والندوات الثقافية والدورات الحقوقية، أنجزوا مهمتهم الثورية، فأشعلوا الثورة، وكانت أرواحهم وقودا لها. هؤلاء هم أبطال "السلمية".
وحان الآن وقت المثقفين –الليبراليين، و ناشطي المجتمع المدني وبالذات "مثقفي اليسار" . لأنه حان الوقت لإقامة "المجتمع المدني"، لكن الثورة تجمدت لأننا نعول على محامين فاشلين لقضية عادلة.
هؤلاء أبطال "السلبية" الذي يحترفون التعامل معها، كي يتعالون بها على المجتمع، ولم تفلح الساحة الثورية ان تنتزعها منهم أو تنتزعهم منها، لأنهم دخلوها بذات العصبوية والتكتلات المدنية " الشللية" بل أقاموا لها مدرسة داخل الساحة، واستثنوا الشباب البسطاء، الثوار الحقيقيين.
والنتيجة أنهم كانوا بلا اثر ، اهتموا بحماية تكتلهم حين شعروا أنهم عرضة للخلاف الذي يفترس الساحة، وهذا "الخلاف المفترس" سببه الحقيقي فقدان التوازن المطلوب، في غياب قوة ليبرالية – علمانية- يسارية أمام تصاعد قوة يمينية- إسلامية.
فكما كان توازن الأسلحة "توازن الرعب" مطلوبا في المرحلة الثورية، لإيقاف صالح عند حده، جعله يسلم البلاد كما استلمها برئيس مقتول، فان تنوع الأفكار والمذاهب السياسية وتساوي قوتها في التأثير بالشارع، أمر مهم الآن لبناء الدولة الحديثة، دولة المساواة.
واختفاء تساوي التأثير يعود لغياب القوة المدنية – العلمانية وغرقها في البحث عن المصالح الشخصية والحزبية الضيقة وبعدها عن الصالح العام والتنظيم وتوحيد الصف الذي يجيده الآخر الإسلامي، بشكل يدعو للحزن على مستقبل مثقفي الحركة المدنية، وهل سيبقى علينا انتظار "انبثاق" مشروع العلمانية من داخل الحركة الإسلامية، و"انبلاج" مشروع المدنية من داخل المؤسسة القبلية؟!. وسؤالي هنا غرضه التعجب والاستنكار فالتجارب حولنا لحكم الإسلاميين لا تقول بذلك سوى طبعا في النموذج التركي الذي انبثق فيه حزب إسلامي عن دولة علمانية وليس العكس.
وفي غياب فاضح، وظهور مبتذل، للحركة المدنية، فلن يبقى أمامنا إلا التعويل على الحركة الإسلامية التي تنشط باتجاه انشطارات ذاتيه، ربما ستعلن ولادة حركات مدنية جديدة وقيادات وسطى من جموع الشباب والمثقفين الإسلاميين، الذي استقلوا عن الحركة الأم، وبدؤوا خلال الثورة ينشطون كمستقلين متمتعين بكاريزما شعبية الوحيدة القادرة على إحياء التيار المدني غير المتأسلم.
فالحركة المدنية العتيقة عتق شيخوخة "مثقفي اليسار" ظلت حبيسة نظرياتهم الفكرية وحتى شخوصهم، بعد ان عزلوا حركتهم في مجتمع داخل المجتمع اليمني الواسع، وظلت هذه الحركة لسنوات تظهر بشكل منفصل، ضيق، غير مؤثر، متمرد مع وقف التنفيذ، يمارس الليبرالية كحرية شخصية وأنانية فردية.
هذا المجتمع (الحر- الليبرالي –المدني- العلماني- اليساري) منذ سنوات ينشط في إطار ضيق، بعيدا عن الشارع، لا يبارح البرج العاجي إياه، وحين جاء زمن الشارع ليكون ساحة النزال، نزل كل طرف بقوته، وظهر "أبطال السلبية"عراة وخارج لعبة توازن القوة، بل اكتفوا بالتذمر والنقد والتهديد بشق الصف، وهددوا رغم أنهم لا يتمتعون بقاعدة شعبية أصلا، وبعيدا عن البيانات الحرفية، لم يرصد لهم أي فعل عملي في الساحة، ليوقف الصراع أو ليكون قوة جديدة.
وكان المنفردون بالساحة قوة جريئة، ومتجبرة أحيانا، تكسب شعبية عريضة وهي بطبيعة الحال القوة الإسلامية التي لا تنفك القوة الأضعف على وصفها بالمفترية، وهذا طبيعي لأنه ما من قوة أخرى تقابلها .
ان الدولة المدنية في اليمن تحتاج قوى سياسية متكافئة. وخلال مسيرة الثورة " المرحلة الأولى" لم يكن للقوة المدنية دور: لا إعلاميا ولا سياسيا ولا ثوريا، ولا حتى حقوقيا كرصد وتوثيق وتدوين الانتهاك اليومي بما يسمح لفتح الملف الجنائي للثورة. وبقيت الحركة المدنية كما بدأت "حالات فردية"
إن هذا لمؤسف ومخزي، إلا أن له تفسيرا منطقيا، فالمجتمع اليمني لا يمكن وصفه منذ عقود بأنه مجتمع مدني، والحركة المدنية كانت دائما ضعيفة وبلا شعبية، رغم ان فيها علامات فارقة من الشخصيات في تاريخ اليمن، لكنها لا تمتلك قدرة الحشد والتنظيم الموجودة لدى الحركة الإسلامية قبل الثورة وجاء خلالها ليؤثر ايجابيا عليها بشكل لا يستطيع احد ان ينكره، اما الصوت الليبرالي الذي يرفض الوصاية السياسية والدينية، فان صوتهم يكاد يكون غائبا، وتواجدهم الميداني محصور ومغلق.
ولا يمكن إنكار انه في لحظة ما يجب التسليم ان نازع الثورة ليسوا اليساريين ولا حتى الإسلاميين بل المتصدر دائما للنشاط الإعلامي، والفعل السياسي، والمسار الثوري، والرصد الحقوقي والتدوين اليومي للثورة، هم الشباب المتمردين سياسيا وبلا أي أيدلوجية، والاهم أنهم حافظوا على وحدة الصف رغم الخلاف، وكانوا شوكة الميزان.
هذه الثورة كانت ثورة على السلبية، ومن يفشل في مشروعه الخاص لا يعول عليه، في بناء مشروع الدولة. ومن لا يستطيع انتزاع حريته الشخصية، وفرض احترامه ، ليتقبله ويرحب به كما هو، لا يعول عليه في تغيير وتحرير المجتمع.
أصحاب الحركة المدنية يحتجزون أنفسهم داخل اختلافهم، يغرمون في حريتهم الشخصية، ويتهمون المجتمع انه يرفضهم ولا يسمح لهم بممارسة هذه الحرية، وينسون ان احد أهداف المشروع الثوري هو انتزاع الحرية، وهم لم يستطيعوا انتزاع حريتهم ولا إثبات تواجدهم. ويبقى التعويل على: النضج السياسي للشباب المستقل غير المؤدلج، لتكوين حركة مدينة قوية تقف أمام القوة العسكرية والحزبية و الدينية.
وربما تأتي المفاجأة من الانتظار للتغيير العاصف في داخل الحركة الإسلامية عبر مثقفي هذا التيار، الذين استقلوا أو انشقوا، أو بقوا يغيرون من الداخل لجعل التيار الإسلامي يتحرك باتجاه "طريق ارودوغان"، إلى جانب الرهان على القبائل الذين أعلنوا منذ البداية أنهم مع المشروع المدني واثبتوا أنهم يدركون معنى هذه المدنية ومستعدين للبدء بها. ولا يمكن ان تنجح المدنية في اليمن، دون مباركة المؤسسة القبلية لأنها الجدار الصلب أمامها.
كل هؤلاء يعول عليهم لأنهم قوة، نزلت للساحة، إلا أصحاب الحركة المدنية... لأنهم منذ البداية، ومن قبل الثورة كانوا أفرادا لا جماعات، محصورين لا منتشرين، سلبيين ويكتفون بالنقد.
وسيكون علينا انتظار الحركة المدنية الحقيقية والتي ستأخذ وقتا أطول لأنها غير جاهزة وما تزال تنضج، وستعلن عن نفسها من داخل الثورة والساحة.
وهذا الانتظار لن يطول لان القطار يمشي بسرعة، القطار الذي دهس "علي عبد الله صالح".
ومن استطاع اللحاق بالقطار، وكان له دور في الثورة، هو من سيكمل المشوار وسيكون له دور في المستقبل، وللأسف من لم يسمع صوته لا في الساحة الثورية، ولا في الاعلام، ولا في النشاط السياسي، فإن عليه الاستسلام لمشهد اليساري الكلاسيكي: البقاء في المحطة الخالية وحيدا، مشعلا سيجارته، ويطارد بعينيه هباء الدخان