سلسلة من الأحداث الصغيرة المتسارعة ، بدأت بتكرار الانتهاك الجوي التركي من قبل المقاتلات الروسية في تحد سافر للسيادة التركية ،ورغبة واضحة في الاستفزاز والمواجهة ، ولأهداف أخرى أهم منها: اختبار لمدى جدية حلف الناتو وأمريكا في دعم تركيا في مواجهة العدوان الروسي ، والأهم من ذلك وأد مشروع المنطقة العازلة التي يغير معادلة الصراع في سوريا ويخفف كثيرا من الضغط على الداخل التركي. تركيا ردت على هذا الانتهاك بالتنديد والاستنكار وهذا أمر متوقع ، ولكن الذي لم يكن متوقعا لدى صانع القرار التركي رد فعل الناتو وأمريكا حيث توالت الإشارات السلبية والردود الباهتة التي تؤكد على عدم جدية الحلف والأمريكان في التصدي لهذا العدوان الروسي أو دعم تركيا بقوة . مع العلم أن هذه السلبية ستضر بشدة الناتو نفسه ، وكذلك الأمريكان.فالدخول الروسي في أي مواجهة عسكرية مع تركيا يضع الحلف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مساندة تركيا ومواجهة روسيا، أو الامتناع عن أي رد فعل، فتخسر تركيا الحرب – للفارق العسكري الكبير لصالح الروس- ويكون الحلف بذلك قد أطلق على نفسه الرصاص، وتعلن وفاته إكلينيكا ، فتتغير كل المواجهات وتمسك موسكو بالقرار من الشرق الأوسط إلى أوروبا . أما أمريكا فسوف تجد خططها في النزول إزاء جنوب شرق أسيا ومواجهة المارد الصيني قد ذهبت أدراج الرياح بفعل الارتدادات والتراجعات في أسيا الصغرى والوسطى، علما أن أسواقا ضخمة مثل أسواق دول مجموعة "البريكس" مفتوحة أمام موسكو . ورغم كل هذه المخاطر المتوقعة عن التخلي الأطلسي والأمريكي عن تركيا إزاء التهديد الروسي ، جاءت ردود الأفعال باهتة وفاترة مما يؤكد النية المبيتة للتخلي عن تركيا .
الحدث الثاني تمثل في التدفق الكبير للاجئين السوريين الفارين من القصف الروسي الوحشي على ريف حلب الشمالي والذي تزايدت وتيرته مع بدء محادثات جنيف 3 من أجل خلق وضع جديد على الأرض يفرض مزيدا من الضغط على تركيا ويقوض فكرة المنطقة العازلة ، ومع كتابة هذه السطور وصل عدد الفارين من مناطق القصف والقتال إلى نصف مليون لاجئ وقفوا على الحدود التركية من أجل السماح لهم بالدخول ، مما خلق ضغطا شديدا على الدولة التركية المثقلة بمليوني لاجئ من قبل ، وذلك بعد أن أيقن الروس والإيرانيين أن الصمت الأمريكي على جرائمهما في سوريا هو نوع من الرضا الخفي والمباركة المبطنة لمزيد من الوحشية المرعبة بحق المدنيين ، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الفرنسي "لوران فابيوس " الذي ودّع وزارة الخارجية الفرنسية بعد تعيينه رئيسا للمجلس الدستوري عندما تحدث عن "تواطؤ" الروس وإيران في الوحشية المخيفة لنظام الأسد وأن "الصمت الأميركي" دفع الروس والإيرانيين إلى فهم "اللعبة" والمضي في خطتهما المشتركة رغم تباعد الأهداف بينهما. وفي المقابل هدد أردوجان دول الاتحاد الأوروبي والأمريكان بإرسال الملايين من طالبى اللجوء المتواجدين بالفعل في بلاده إلى دول أخرى، وذلك ردا على انتقادات رفض تركيا فتح حدودها أمام عشرات الآلاف من اللاجئين الجدد، وأكد أردوغان بحدة أن "كلمة أغبياء ليست مكتوبة على جباهنا"،مشددا على توافر الطائرات والحافلات اللازمة لعملية الترحيل العملاقة،وذكر أنه سبق وأبلغ رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أن تركيا ربما تفتح في مرحلة ما أبوابها للمهاجرين للسفر إلى أوروبا.
أما ثالثة الأثافي فتمثلت في أسوأ كوابيس تركيا التي على وشك الوقوع ، فالتقارب الروسي الأمريكي المشترك الكبير مع أكراد سوريا المثلين في حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه المليشاوي الممثل في وحدات حماية الشعب ، ورغم وضع الأتراك خطوطا حمراء واضحة وصريحة إزاء هذا الملف الشائك ، ووضوح عبارات الساسة الأتراك عن الرفض القاطع لطموحات أكراد سوريا في إقامة دويلة بشمال سوريا للأكراد إلا إن الروس والأمريكان يمضون قدما نحو تأسيس هذه الدويلة . فموقف الحكومة التركية واضح للإدارة الأمريكية كما هو واضح للحكومة الإيرانية والحكومة الروسية وغيرها، بأن حزب الاتحاد الديمقراطي السوري هو امتداد ، فحزب لحزب العمال الكردستاني المصنف في تركيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا حزباً إرهابياً، ومشاركة حزب العمال في عملية السلام مع الحكومة التركية لم تنجح، بسبب تمسك حزب العمال الكردستاني بنهجه الإرهابي، وممارسته للقتل، والقيام بأعمال مخلة بالأمن الداخلي في تركيا، ليس بهدف تحقيق مطالب للشعب الكردي في تركيا كما يدعون، وإنما تلبية لمطالب دول خارجية تسعى لزعزعة استقرار تركيا.
ووسط هذا "اللعب" الدامي والتآمر المنظم، تبدو نواة فوضوية منتجة لمتناقضات لا يمكن حتى الآن تحديد نتائجها.فموسكو فتحت ممثلية لأكراد سوريا فيها،وقد وصفت "سينا محمد " ممثلة "غرب كردستان" في دول أوروبا وأميركا، افتتاح الممثلية في موسكو بأنه حدث تاريخي، وأنه الخطوة الأولى على طريق افتتاح ممثليات لأكراد سوريا في فرنسا وألمانيا والسويد والولايات المتحدة الأميركية . وليس غريبا على الروس فعل ذلك فهم في حالة عداء كبير مع الأتراك ، وتقاطع كامل مع الأهداف والسياسات والخطط بسبب الملف السوري ، ولكن الغريب حقا كان الموقف الأمريكي.فقد جاءت تصريحات الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية "جون كيري" الذي أعلن بأنّ الولايات المتحدة لا تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، منظمة إرهابية، مفاجأة صادمة للأتراك وخاصة زعيمهم أردوجان الذي شعر بالخيانة الأمريكية لبلاده ، وقد وأعرب وزير الخارجية التركي "جاويش أوغلو" عن استغرابه للخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية، متسائلاً عن الشريك الأساسي لواشنطن في الحرب على تنظيم داعش ؟! وقد فند وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو الادعاءات التي تقول بأن تنظيم داعش منظمة إرهابية سيئة لأنهم إسلاميون، بينما تنظيمي حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، أفضل من داعش لأنهما منظمتين علمانيتين، فتساءل جاويش أغلو: هل يعقل هذا التفكير؟ وكأن الموقف من داعش متوقف على العداء الأيديولوجي وليس على كونه تنظيما إرهابياً، وإلا فإن تنظيمي حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي حزبان إرهابيان، بحكم قيامهما بالأعمال الإرهابية في تركيا وسوريا، بشهادة منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الحقوقية والإنسانية. في حين كانت عبارات أردوجان أكثر وضوحا وحسما عندما رد على هذه التصريحات الأمريكية المثيرة بقوله : "على أمريكا أن تختار بين تركيا وأكراد سوريا ".
وقد برزت التوترات في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا بسبب الأكراد إلى السطح عندما وصل نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى اسطنبول أواخر الشهر الماضي لإجراء محادثات مع القادة الأتراك حول الحملة. ووفقا لمسؤولين أتراك شاركوا في المحادثات، فقد أظهر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو وكبار مستشاريه خريطة دقيقة أعدوها للحدود بين تركيا وسوريا وحدَدت عدة أماكن يهرب فيها المسلحون الأكراد السوريون الأسلحة الموجهة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية إلى تركيا .وقد أوضح القادة الأتراك في لقاءاتهم مع بايدن أن أي تهريب للأسلحة غير مقبول. وبعد الاجتماع قال مسؤولون أتراك لصحيفة وول ستريت جورنال إن كانوا مستعدين لتفجير حلفاء أمريكا في سوريا إذا استمر تدفق الأسلحة . وتأتي التوترات مع تركيا في وقت ترفع أمريكا فيه من تعاونها مع الأكراد السوريين عن طريق إرسال العشرات من المستشارين العسكريين النخبة في شمال سوريا للعمل مع مقاتلي الوحدات الكردية السورية . وكان ذلك واضحا عندما سافر سرا دبلوماسي أمريكي بارز في التحالف ضد تنظيم الدولة إلى شمال سوريا قبل أسبوع للقاء المجموعة الكردية لإظهار دعم إدارة أوباما، وخلال الرحلة، تم تصوير ممثل الرئيس الأمريكي بارك أوباما الخاص للتحالف الدولي، "بريت ماكجورك " مع عدد من قادة الأكراد. ويرى عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين الآن إن تركيا أصبحت واحدة من أكبر العوائق التي تحول دون تأمين حل سياسي للصراع المستمر منذ خمس سنوات في سوريا وتصاعد الحملة العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية ، في إشارة واضحة على تدهور العلاقات الأمريكية التركية بسبب الملف الكردي بسوريا .
كل هذه الحوادث التي تبدو صغيرة وغير مترابطة تقود لحقيقة في غاية الخطورة مفادها أن تركيا قد تحولت من حليف إستراتيجي إلى هدف أمريكي روسي مشترك، وثمة مؤامرة أمريكية روسية مشتركة من أجل كبح جماح تركيا وإرجاعها لمربع الانقلابات العسكرية وإنهاء الحقبة الأردوجانية التي على ما يبدو أنها طالت أكثر من اللازم ، وأمريكا لم تعتد من حلفائها على المراجعة والتنديد واتخاذ مواقف معارضة لسياساتها الخارجية والعسكرية كما يفعل أردوجان ،وأردوجان نفسه يشعر بأن أمريكا تستغفله وتستخف بمصالح بلاده وأمنها القومي، وأن صداقة أمريكا مع أردوجان كصداقتها مع صدام حسين سابقا. تستغله حينا من الدهر ، ثم تتخلى عنه وتعمل على التخلص منه ، وخيارات تركيا أصبحت اليوم صعبة وضيقة ، فأما وقف التنسيق وترحيل القوات الغربية وخوض حرب باردة مع روسيا بدعم كل من يقاتلها ويقاتل الانفصاليين وعدم المبالاة بالإعلام ، والتدخل في سوريا بشكل مباشر يشمل تحرّكا عسكريا. وإذا كانت كل من روسيا وإيران، قد دخلتا سوريا تحت مبررات واهية واستطاعتا ضرب الحدود وطرد الشعب السوري إلى تركيا، فمبررات تركيا وحججها للتدخل أكثر واقعية وشرعية منهم.وأما الخيار الثاني ،فالانبطاح والتشكي لأمريكا وأوروبا بلباقة سياسية ، لأن أردوجان ببساطة لن يقدر على لعب دور بوتن البلطجي.
تقف تركيا حاليا على "حافة السكين". إن تقدمت دخلت في مواجهات خاسرة مجهولة النتائج، وإن تراجعت فقدت كل مكتسباتها خلال أكثر من عقد من الزمان، واضطرت إلى التقوقع مرة أخرى داخل مربع أتاتورك وعصمت أينونو ، وخسرت كل ما ربحته مع "الأردوجانية" في التحول إلى "الرقم الراجح" في معادلات منطقة الشرق الأوسط . لذلك نقول أن تركيا في خطر شديد ، وربما يواجه أردوجان نفس مصير صدام حسين.