طال انتظار حسم الأزمة في اليمن، التي تتأرجح بين حلين لا ثالث لهما، إما النهج السلمي الذي بدأت به ثورة الشباب في ساحات التغيير قبل ستة أشهر أو الحسم العسكري الذي بدأت مظاهره تظهر شيئاً فشيئاً، بخاصة في الأسابيع الأخيرة، حيث بدا أن الطرفين يقتربان من هذا الخيار أكثر وأكثر، بعد أن سد النظام أذنيه عن المناشدات الإقليمية والدولية للوصول إلى حل مرض يخرج بالبلاد من أزمتها الحالية إلى بر الأمان، حيث استمر، كعادته، يبحث عن حلول تؤخر الحل السلمي، مفضلاً الخيار العسكري، وهو نهج سارت عليه الأنظمة الجمهورية في اليمن، سواء قبل الوحدة، أو بعدها .
على الرغم من أن النظام الحالي يتباهى بأنه يسلك النظام الديمقراطي والتعددي، إلا أن الأحداث أكدت تمسكه بسلطة الفرد الواحد، ولو أدى ذلك إلى ذهاب البلاد كلها إلى مربع التقسيم، وهو خطر يتنامى كل يوم مع إصرار الأطراف السياسية على عدم الاستماع إلى صوت العقل من أجل الحفاظ على يمن واحد مستقر وقوي، فأقطاب النظام القائم لا يزالون على حالهم من التعنت في التعاطي مع المبادرات التي تقدم لإخراج اليمن من أزمته الراهنة، مستعصية الحل، فيما الطرف الثاني لا يزال متمترساً خلف مواقفه التي أعلنها في وقت مبكر والقاضية بإسقاط النظام ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح .
أي أفق، إذاً، يمكن الحديث فيه عن مستقبل اليمن، وأي خيار يمكن أن ينتصر في حالة التجاذب القائم بشأن الحل الأفضل للبلاد التي تتمزق بين ولاءات متعددة؟ فالخيارات تنحصر اليوم في خيارين اثنين، إما طريق الأمن والسلام أو طريق الحرب والدمار .
بروفة حرب
الأحداث التي تشهدها بعض المناطق اليمنية، بخاصة في كل من أرحب، شمالاً وأبين وتعز (جنوباً)، تؤكد أن كافة الأطراف في الأزمة تنتظر “ساعة الصفر” للبدء بحرب تأكل الأخضر واليابس، فقوات الجيش الموالية للنظام لا تزال تتعاطى مع الأزمة من منظور عسكري بحت، فالقصف المستمر والمركز على أرحب وتعز والمواجهات الدائرة في أبين، جميعها مؤشرات ترجح خيار الحرب أكثر من خيار السلام، على الأقل وفق المعطيات الحالية .
ويبدو أن الصقور في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم هم الذين يتسيدون الموقف في الوقت الحاضر، بخاصة مع الغياب الطويل للرئيس علي عبدالله صالح، الذي يتعالج في المملكة العربية السعودية منذ الرابع من شهر يونيو/ حزيران على إثر محاولة لاغتياله تعرض لها في الثالث من الشهر نفسه في جامع دار الرئاسة، إذ إنه كلما اقترب الناس من الحلول السياسية تبدر تصريحات من قبل قياديين في الحزب الحاكم تشير إلى رغبة في استمرار الأزمة لا في إنهائها، حتى أن العقلاء في هذا الحزب سلموا ملف الأزمة للمتشددين اعتقاداً منهم أن هؤلاء يمكنهم أن يقلبوا الطاولة على الجميع .
وجاء خطاب الرئيس علي عبدالله صالح الذي ألقي نيابة عنه بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، ليؤكد أن الخطاب الذي صنع الأزمة لا يزال هو السائد بعد الأزمة، فالخطاب التخويني والتحريضي والذي صنع الأزمة قبل الاحتجاجات الشعبية وبعدها، هو الذي يقود إلى الحرب . صحيح أن الرئيس صالح دعا إلى الحوار وإلى “كلمة سواء”، إلا أنه في الخطاب نفسه لا يزال يهدد ويتوعد، ويتحدث عن “مؤامرات” و”انقلابيين” وغيرهما من المصطلحات التي كانت سبباً في استدعاء الأزمة مع بقية أطراف العملية السياسية منذ سنوات وليس فقط منذ عدة أشهر .
ولا تزال الخيارات أمام الطرف المقابل مفتوحة على كافة الاحتمالات، وإذا ما استثنينا الشباب الذين يتواجدون في ساحات التغيير ومنظمات المجتمع المدني، فإن الأطراف المعارضة لتوجهات الرئيس صالح ومؤسسات الحكم التي بناها طوال 33 سنة من حكمه، تترقب الحسم العسكري أكثر من البحث عن الحل السلمي، لأنها تدرك أن الرئيس صالح ونظامه لا يؤمنان إلا بمثل هذه الحلول .
من هنا بدأت القناعة تترسخ في صفوف مناوئي النظام مفادها أن النظام لا يعرف سوى لغة القوة، وأن الحلول السلمية التي ينادي بها البعض في الداخل والخارج لا تفيد مع نظام يحكم بالقبضة العسكرية منذ عقود، وتربى على هذه العقيدة، ويؤمن بأن بقاءه مرتبط بالقوة التي تستخدم اليوم وبإفراط في أكثر من مكان، بخاصة في المناطق الملتهبة التي تشمل أبين، تعز وأرحب .
ولعل التطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية من مواجهات عنيفة في أرحب بمحافظة صنعاء، والقريبة من مطار صنعاء الدولي، تؤكد اقتراب الجميع من لحظة الانفجار الكبير، فقوات الحرس الجمهوري التي يشرف عليها النجل الأكبر للرئيس صالح (أحمد) وقوات مشاه جبلي التي يشرف عليها نجله الأصغر (خالد)، وهو خريج إحدى الجامعات البريطانية منذ ما لا يزيد على عامين، تخوض معارك يومية مع رجال القبائل الذين استنفروا إمكاناتهم لمواجهة هذا العنف الذي تستخدم فيه المدفعية وراجمات الصواريخ وحتى الطيران الحربي، العنف الذي دفع بمئات الأسر إلى النزوح من قراها باتجاه كهوف الجبال، وقد اتجهت الأنظار إلى أرحب باعتبارها الجبهة التي ستندلع منها المعركة الأشمل، في ظل إصرار النظام على تصويرها بأنها “المعقل الأبرز لجماعة الإخوان المسلمين”، وأن المعركة من أجل الدولة المدنية الحديثة تبدأ من القضاء على هذه الحركة في هذه المنطقة .
الحليف بات خصماً
ترتبط أرحب باعتبارها مسقط رأس الشيخ عبدالمجيد الزنداني، الذي تحول، إضافة إلى الشيخ صادق بن عبدالله بن حسين الأحمر، وقائد الفرقة الأولى مدرع، علي محسن الأحمر، إلى واحد من ألد أعداء النظام، بعد أن كان الرجل، وإلى وقت قريب، واحداً من أقرب المقربين إلى الرئيس علي عبدالله صالح، فقد كان ذراعه الدينية القوية في معركته ضد خصومه في الحزب الاشتراكي اليمني عام ،1994 تماماً كما كان الشيخ عبدالله الأحمر ونجله صادق ذراعه القبلية واللواء علي محسن الأحمر ذراعه العسكرية، أما اليوم فإن الحلفاء الثلاثة تحولوا إلى “متآمرين ضد النظام” وإلى أعداء للوحدة والديمقراطية، كأن هذا التحول ولد اليوم ولم يكن نتاج سنوات طويلة من التعامل مع هذا الفريق .
يبدو أن الحلفاء الذين كونوا جبهة قوية من التحالفات العسكرية والقبلية والدينية قد تفرق شملهم، فالشيخ القبلي صادق الأحمر، والعسكري اللواء علي محسن الأحمر، والديني الشيخ عبدالمجيد الزنداني وجدوا أنفسهم خارج الحلف الرباعي، بل إنهم، برأي النظام تحولوا إلى “حلف شيطاني”، يهدف إلى الانقضاض على النظام الجمهوري، حيث يستخدم النظام فزاعة “القاعدة” و”الإخوان المسلمين” وكل صنوف الإرهاب الفكري والسياسي للتخويف منهم، ويؤكد من خلال خطابه الإعلامي والسياسي وصول هذا الثلاثي إلى مبتغاه بإقامة “دولة الخلافة”، وهي القضية التي كثف النظام من الحديث عنها خلال الأسابيع الأخيرة بعد أن بدأت تتضح قوة هذا التحالف، فالشيخ الزنداني لم يعد يغيب عن المشهد، حاله تماماً كحال الشيخ صادق الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، الذي أقسم أمام تحالف قبلي مطلع الأسبوع أنه لن يدع الرئيس صالح يحكم طالما بقي على قيد الحياة، واللواء علي محسن الأحمر، قائد الفرقة الأولى مدرع .
خيار السلام
تطرح التحركات الأخيرة التي تبذل من أطراف إقليمية ودولية خيار السلام كخيار بديل عن خيار الحرب الذي يتقاطع بشكل كلي مع المساعي التي أعلنت مع بداية الأزمة وتوجت بمجزرة “جمعة الكرامة” في الثامن عشر من شهر مارس/ آذار الماضي، التي راح ضحيتها أكثر من 50 معتصماً في ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء .
تستند هذه التحركات إلى المبادرة الخليجية التي طرحت في وقت لاحق من أحداث ساحة الجامعة، إلا أن النظام ظل يتهرب من استحقاقاتها، وبالتالي تم تعديلها أكثر من مرة لتتواءم مع المطالب التي كان يضعها الرئيس صالح مقابل تنفيذها، مع أن الجميع كان يعلم أن المبادة أعطت للرئيس ضمانات لم تكن المعارضة ترغب في أن يحصل عليها، إلا أن عوامل ضغط كبيرة جرت على المعارضة، سواء من الوسطاء الإقليميين أو حتى من شركاء اليمن الدوليين، ونقصد بذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي .
خيار السلام هو الأفضل لليمن الذي يعاني اليوم كارثة اقتصادية، فالشعب اليمني يعاني أزمات متعددة، والاقتصاد ينهار في ظل اتساع مساحة العاطلين عن العمل وتوقف البلاد عن إنتاج النفط، والخسائر التي تتكبدها خزينة الدولة بسبب الانفاق اليومي على العمليات العسكرية الجارية في أكثر من منطقة ونفقات لاستقطاب وحشد الأنصار، تعرض البلاد إلى إفلاس شامل وبالتالي إلى دولة فاشلة، وهناك معاناة تتزايد كل يوم من جراء استمرار انهيار العملة الوطنية (الريال)، يضاف إلى ذلك انعدام الخدمات الضرورية للناس، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي وانعدام المشتقات النفطية وغيرها من الأزمات التي كل واحدة منها تجر أخرى .
وخيار السلام لا يمكن أن يتم من دون أن يكون هناك توافق عليه من قبل كافة أطراف الأزمة، فتتخلى عن تشددها للحل المقبل، بحيث لا يشعر أي طرف من هذه الأطراف بأنه خارج بخسارة من هذه المعركة لأن اليمن هو الذي سيكسب وليست المشروعات المطروحة للحل من قبل هذا الطرف أو ذاك، اليمن الذي تمزقه الصراعات وتتجاذبه الأزمات المستمرة منذ سنوات وليست فقط منذ أشهر، هي مدة الأزمة الأخيرة .
لن يرضي الحل القادم من الخارج أماني كافة الأطراف، وإلا لما كانت وساطة أو مبادرة، وبالتالي فإن على الأطراف السياسية أن تمنح الشعب اليمني أملاً في أن تتمكن من ردم الهوة التي خلفتها الأزمة الأخيرة بين اليمنيين بعضهم بعضاً .
على الجميع أن يتحرك لإيقاف توجه البلد إلى “الصوملة”، وهو ما حذر منه مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن جمال بن عمر، الذي قال إن اليمن لا يعاني أزمة سياسية فقط، بل أزمة بلد ينهار ويتجه نحو حرب أهلية شاملة شبيهة بالنموذج الصومالي، فهل أمام اليمنيين خيار آخر غير خياري “الحرب” أو “السلام”؟ بالتأكيد لا، لكن عليهم أن يأخذوا بالثاني، فهو أكثر قدرة على نقل البلد من حالة التمزق الذي أصابها منذ أشهر إلى حالة من التصالح مع نفسها، وهذا التصالح لن يكون ممكناً، ما لم تقتنع الأطراف السياسية كافة في السلطة والمعارضة بأنه الحل الأمثل لمشكلاتهم، التي لن تنتهي إذا ما تم الأخذ بالخيار الأول .
المبادرة الخليجية
التحرك لتحقيق خيار السلام ربما تكون بدأت بوادره تتكشف بالمعلومات التي تم تداولها مؤخراً، ومن أبرزها تلك المتصلة بزيارة من المتوقع أن يقوم بها الدكتور عبدالكريم الإرياني، المستشار السياسي للرئيس علي عبدالله صالح إلى الرياض في مهمة على ما يبدو للالتقاء بالرئيس صالح وتحريك المبادرة الخليجية التي لا تزال تعتبر أفضل الخيارات المطروحة لحل الأزمة، بخاصة أن الأحزاب السياسية في السلطة والمعارضة قد وقعت عليها في شهر مايو/ أيار الماضي، ورفض صالح التوقيع عليها .
مصادر دبلوماسية أشارت إلى أن الدكتور الإرياني قطع إجازته التي يقضيها في إحدى دول الاتحاد الأوروبي وقرر العودة إلى الرياض في زيارة يبدو أن لها علاقة مباشرة بتفعيل المبادرة الخليجية والدخول في عملية انتقال السلطة من الرئيس صالح إلى نائبه عبدربه منصور هادي، الذي لا يزال يمارس مهامه كنائب رئيس وليس قائماً بأعمال الرئيس، مؤكدة أن الإرياني تلقى مكالمة من أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني ناقش معه خلالها أهمية تحريك المبادرة الخليجية والبدء الفوري بتنفيذها .
ورأت مصادر مقربة من حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم والمعارضة معاً أن تكون نتائج زيارة الدكتور الإرياني للرياض بصورة مفاجئة هي الإعلان عن توقيع الرئيس صالح على المبادرة الخليجية والشروع في عملية نقل السلطة إلى نائب الرئيس، قائلة إن “إعلان الرئيس عن تمسكه بالمبادرة الخليجية في خطابه الذي أُلقاه الأحد بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك يمكن قراءته بأنه مقدمة للإعلان عن قبول الرئيس بالتوقيع على المبادرة الخليجية” .
وحذرت المصادر ذاتها من أن “أي تعثر للجهود الأخيرة التي يبذلها الدكتور الإرياني يعني وفاة المبادرة السياسية للخروج من الأزمة الراهنة وبأن الأزمة والأحداث وثورة الشباب ستحدد مسارها المتغيرات على أرض الواقع وفي مختلف الصعد” .
ويبدو أن الأطراف الدولية باتت تستشعر خطورة بقاء الأوضاع في البلاد على ما هي عليه من التوتر، بخاصة أن الأطراف المتصارعة تعتقد أن الحل بيدها، وأنها قادرة على حسم الأمور وحدها، وهو في حقيقة الأمر سباق بين خياري “الحرب والحرب” وليس بين خياري “الحرب والسلام”، ذلك أن لغة الحل السلمي ليست متوفرة على صعيد الواقع، فالإعلام الرسمي لا يزال يعتقد أن الحل بيده وحده وأن ما يحدث من تطورات اليوم لا يعدو كونه رغبة من قبل البعض للاستيلاء على السلطة، فيما يرى الطرف الآخر أن النظام قد سقط فعلياً وفقد شرعيته بخروج الملايين من المواطنين إلى الشوارع وإلى ساحات التغيير للمطالبة بإسقاط النظام ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح .