أخبار الساعة » شخصيات ومشاهير » شخصيات سياسية

صفحة من تاريخ الحركة الوطنية في الجنوب: الشيخ فريد بن ابوبكر بن فريد العولقي .. الفارس الذي ترجل..

- محسن محمد ابوبكر بن فريد

في 16 / 8/ 2011، عادت روح الشيخ فريد بن ابوبكر بن فريد العولقي إلى بارئها في مدينة القاهرة، بأرض الكنانة، بعد ان عانى فقيدنا في الأشهر الأخيرة من العديد من الأمراض، عن عمر يناهز الثامنة والسبعين. ونقل جثمانه إلى صنعاء في اليوم التالي. ومن صنعاء حملته طائرة خاصة هو وأبناؤه وذووه وعدد من رموز محافظة شبوة إلى مطار عتق، ومن مطار عتق انطلق في موكب مهيب إلى مدينته الأثيرة، إلى محبوبته، مدينة الصعيد، حيث ووري الثرى في يومٍ مهيب وحزين. وبفقدانه فقدنا، نحن أسرة آل ابوبكر بن فريد، بل أسرة آل فريد بشكل عام، بل محافظة شبوة بأسرها، علماً كبيراً من أعلامها، ومرجعية قبلية نادرة من مرجعياتها وشخصية وطنية كان لها باعاً طويلاً ومتميزاً في الحركة الوطنية الجنوبية في العقود الستة الماضية.

وبمناسبة الأربعينية على تلك الوفاة، التي هزتنا من الأعماق، والتي ألجمت ألسنتنا عن الحديث عنها حينها، أجدها مناسبة أن أقف للحظات لأستعراض لمحات بسيطة من شخصية فارسنا الذي ترجل، وكذا محطات من تاريخ الحركة الوطنية في الجنوب في الستة العقود الماضية، التي كان فارسنا أحد فرسانها..

مرحلة الصبا والشباب
ولد الشيخ فريد بن ابوبكر بن فريد في مدينة الصعيد، حاضرة مشيخة العوالق العليا، في ثلاثينيات القرن الماضي. وكان هو الابن الثامن للشيخ الجليل الاسطورة القبلية ابوبكر بن فريد. تربى وترعرع في كنف والده المهيب وبين اخوانه وأبناء عمومته وقبائله، في تلك الفترة الزمنية التي كانت آخذه في الانحسار والتراجع ليحل محلها نظام مدني، تبدو تباشيره في الافق، ولكنها غير واضحة المعالم.. وتكتنفها الكثير من التوجسات والمخاوف من ذلك القادم الجديد.
أسرة آل فريد بن ناصر هي بيت المشيخة في منطقة العوالق. وكان الجد الجليل الشيخ محسن بن فريد هو "عاقل" العوالق (أي شيخ المشايخ). وكان الجد الجليل ابوبكر بن فريد هو ساعده الأيمن القبلي والعسكري، لفرض هيبة العوالق من جانب، ولتأمين الحياة الكريمة في تلك المنطقة الوعرة والصعبة من جانب آخر.
شهد الشيخ فريد بن ابوبكر آخر "المخارج" القبلية برفقة والده الجليل إلى مدينة حبان، في حادثة قبلية شهيرة كانت هي بمثابة الختام المسك للمرحلة القبلية في مشيخة العوالق (ليس هنا مجال الحديث عنها).

درس الشيخ فريد الدراسة التقليدية في تلك المرحلة، وهي القرآن الكريم واللغة العربية، على أيدي مدرسين أجلاء، على رأسهم السيد الجليل الزاهد العالم حسن بن علوي الحداد. كما درس الشيخ فريد هو وعدد من أبناء الأسرة، لمدة عام في مدرسة جبل حديد (وهي المدرسة المخصصة لأبناء المشايخ والسلاطين والأمراء). ولكنه لم يواصل الدراسة هناك.

عاش الشيخ فريد مرحلة الصبا والشباب في كنف قامات قبلية كبيرة. وتطبّع وأخذ من صفات العصر القبلي الذهبي الشي الكثير، كالشجاعة والكرم ونجدة الضعيف، كما غُرس الوازع الديني في كيانه من خلال والده ومحيطه العائلي من جانب وكذا من السيد حسن وبعض السادة والمشايخ واهل العلم في المنطقة والذين كان لهم تأثير مميز على القبائل في تلك الفترة (كالسادة آل الجفري.. والمشايخ آل بانافع والسليماني).

مرحلة التمرد والثورة
ما ان دخلت بريطانيا مشيخة العوالق العليا في عام 1951 إلا ودخلت المنطقة في عهد جديد. تميز بالتحفز والتجاذب والشكوك والذي انتهى إلى صراع بين طرفين: الطرف الأول بريطانيا والمتعاونون معها في المنطقة، والطرف الآخر هو من يمثل بدايات الحركة الوطنية في الجنوب، أي "حزب رابطة أبناء الجنوب"، الذي كان على رأسه رئيس ومؤسس الحزب السيد الجليل محمد علي الجفري، وأخيه الشاب الأسطورة (في فهم الطبيعة والعقلية القبلية) السيد علوي علي الجفري، وآل ابوبكر بن فريد وانصارهم.

شهدت تلك الفترة من 1951 إلى 1954 التعايش الحذر والتربص الدائم بين الطرفيين المرشحين للصراع. وبالفعل انفجر الصراع في 1954. فغادر آل ابوبكر بن فريد ديارهم في الصعيد ومعهم شاعر وحكيم العوالق فريد بن محمد الصريمة والشيخ أحمد بن صالح بن فريد وعدد كبير من الثوار. وتمركزوا في كور العوالق وعلى رأسهم الشيخ فريد بن ابوبكر. واستمرت تلك الانتفاضة المبكرة لعدة أشهر. وقد ارسل الشيخ فريد كمرسول من الانتفاضة القبلية في كور العوالق حينها إلى امام اليمن أحمد حميد الدين. وبعد ان مكث في صنعاء أيام ليست بالقليلة (قابل خلالها ولي العهد البدر والقاضي محمد بن عبدالله الشامي)، عاد الشيخ فريد إلى كور العوالق بخفي حنين. ولم يكن امام تلك الانتفاضة القبلية المبكرة  (التي كانت تهدف إلى مشاركة شعبية في إدارة شؤون البلاد وتأمين تنمية تخرج البلاد من أوضاعها المعيشية الصعبة) إلا ان تتوصل إلى حلول وسط مع الطرف الآخر. ونزلوا من الجبال إلى مدينة الصعيد. وكانت تطبع العلاقات بين الطرفين الشكوك والمخاوف والحذر. وقد أخذ المد الوطني والقومي ينشر تأثيره على المنطقة في تلك المرحلة. وكان لحزب الرابطة دور رئيسي في إذكاء المشاعر الوطنية والمناداه بتحرير الجنوب من الاستعمار البريطاني وتوحيد الـ23 سلطنة ومشيخة وامارة في كيان سياسي واحد. نذكر بهذه المناسبة حرب السويس عام 1956، وكذا الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958، والتأثير الهائل لهذين الحدثين الكبيرين على مدينة الصعيد والمنطقة والتفاعلات التي تجري فيها.

في فجر أحد أيام شهر ابريل 1959 فوجئ الشيخ فريد واخوانه، بل أسرتهم كلها، بالجنود وبدبابات الانجليز وهي تحاصر منازلهم وذلك بهدف القبض على رموز الأسرة الكبار وأخذهم كـ"رهائن" إلى عدن، وبذلك تأمن بريطانيا من اندلاع اي انتفاضة مسلحة، كانت تتفاعل في المنطقة في ذلك الحين، ولكن الرؤوس المطلوبة (الشيخ صالح بن ابوبكر، الشيخ فريد بن ابوبكر، محمد ابوبكر عجرومة، وعبدالله محمد "جعفان") تمكنت من الافلات – بمعجزة – من وسط الحصار ولجأت إلى كور العوالق المنيع للمرة الثانية. وتمركزوا في تلك الجبال المنيعة لفترة سنة كاملة. يشنون فيها هجمات على المراكز والادارات الحكومية وينادون بتحرير المنطقة، بل بتحرير الجنوب كله. وتجدر الاشارة إلى انه قد كانت الطائرات البريطانية تقوم من على حاملة الطائرات في سواحل أحور لتدك معاقل الثوار في جبال العوالق بصواريخ وقنابل زنة ألف رطل. وقد كان للشيخ فريد دور مميز ومشهود به في المعارك التي جرت في تلك الفترة.

وهنا يمكن الاشارة إلى إحدى المعارك الشهيرة التي كان الشيخ فريد هو فارسها الا وهي معركة "مُرَيد". فقد لجأ الشيخ فريد في احدى الليالي إلى كهف في جبل مريد القريب من مدينة الصعيد وبرفقته ابن اخيه عبدالله محمد "جعفان" وعلي صالح المحوري ورويس بن دافر وأحمد البعم السالمي. وقد عرفت سلطات المنطقة بمكان الصيد الثمين. وتم تجهيز حملة عسكرية من أكثر من مائة ضابط وجندي مزودين بالاسلحة والاجهزة اللاسلكية وذلك بهدف القاء القبض على الصيد الثمين في ذلك الكهف المعزول. وبالفعل مع شروق الشمس حدثت المداهمة وفوجئ الجنود المهاجمون بأن الفرسان الخمسة لم يرفعوا أيديهم مستسلمين – كما كانوا يتوهمون – ولكنهم فاجأوهم بإطلاق النيران. وتم تبادل اطلاق نيران كثيفة، وقتل مباشرة اثنان من الجنود واصيب الشيخ فريد برصاصة في كتفه الأيمن أثناء خروجه من الكهف وصعوده إلى أعلى الجبل. واستمر تبادل اطلاق النار إلى ان تمكن الشيخ فريد والكوكبة التي برفقته من الاختفاء تحت شجرة في أحد الشعاب. وعاد الجنود (الحرس القبلي) إلى مدينة الصعيد يحملون قتلاهم وجرحاهم. وعلى ضوء اصرار قائد الحملة على ان يدخل الجنود المدينة وهم يهزجون بالزوامل، قال احد الجنود بيت الشعر الشهير التالي:
وأنا ســـــلامــــي مــن بنــــادقـنــا   دي في النسم عيب الخطأ فيها
وان قد دعى "جعفان" من المحجا    اخشامـهـا تـرجــع كـراسـيـهـا

 

مرحلة الخذلان والانكسار
وبعد سنة بالضبط من التمركز والقتال في كور العوالق وبعد ان نضبت الامكانيات الشحيحة، ولم يأت الدعم لا من الامام ولا غير الامام، وبعد صفقة شهيرة عقدها المندوب السامي البريطاني كندي ترافسكس "Kennedy Trevaskis" مع مستشار الامام القاضي محمد بن عبدالله الشامي تقضي بوقف اي دعم لحركة العوالق، من داخل اليمن او من خارجه. جهزت بريطانيا حملة شهيرة في ابريل 1960 عبر البر والجو بهدف اقتلاع حركة كور العوالق من جذورها. وقد وصف المندوب السامي هذه الحملة بشكل دقيق في كتابة الشهير (Shades of Amber: A South Arabian Episode ) فوصف كيف بدأت عملية الهجوم والتمشيط الارضي ومطاردة الثوار من جبل إلى آخر ترافقها الطائرات برمي القنابل والمنشورات التحذيرية إلى ان وصل الثوار (بعد حوالي 3 اسابيع من المطاردة) منهكين متعبين منكسرين إلى مدينة البيضاء في ذلك اليوم الحزين من شهر ابريل. وعند وصول آل ابوبكر بن فريد وجماعاتهم إلى البيضاء كان في استقبالهم على مشارف المدينة حشد كبير من أبناء المقاومة من مختلف مناطق الجنوب (الذين قد لجأوا إلى مدينة البيضاء حين ذاك)، ومن أبناء مدينة البيضاء نفسها، وكان على رأس المستقبلين الرجل الشهم النقيب صالح بن ناجي الرويشان، نائب القاضي الشامي وحاكم البيضاء، والذي كان له موقفاً متعاطفاً مع الثوار. وما ان استقبل النقيب صالح بن ناجي موكب الوافدين إلى مدينة البيضاء إلا وأخذ يرحب بهم بحرارة ويشد من ازرهم ويخفف من حزنهم وغضبهم، وقال لهم: "لا تيأسوا ولا تحزنوا.. فقد هاجر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، ولكنه عاد إلى مكة – ولو بعد حين – ظافراً منتصراً". وقد قيلت العديد من الاشعار والزوامل في موكب الاستقبال على مشارف مدينة البيضاء، منها زامل الشاعر محمد امفضل، الذي قال فيه: 
حيا الله الليـلة بلمتــكـم    يـاذي ربشتوا الكور واصباره
رحب بكم بن ناصر الجـعري  والحصن ذي حليت في ضبـاره
قـالوا لنا الطـيـار والعسكر  تصبح بكم غـارة وراء غـارة
ياريت والله من حضر معـكم  ياخـذ من النامـوس مـقـــداره

استقر الشيخ فريد واخوته وجماعاتهم في مدينة البيضاء الحدودية حينها. وكان الاعتقاد لديهم ان ماهي إلا بضعة أشهر ويعيدون الكرة إلى جبالهم وإلى قراهم وسهولهم ووديانهم. ولكن القضية خرجت من أيديهم.. ودخلت قضية الجنوب في اطار الصراع المحلي والاقليمي والدولي مع قيام الثورة في الشمال في سبتمبر 1962، ومجيء القوات المصرية بقضها وقضيضها إلى هناك.
كانت علاقة الشيخ فريد وآل ابوبكر بن فريد وجماعاتهم بحزب الرابطة علاقة قوية بل علاقة مصيرية. وقد انعكست العلاقات السيئة التي طبعت علاقة قيادة حزب الرابطة في القاهرة مع القيادة المصرية، على آل ابوبكر بن فريد وجمعاتهم، ان في البيضاء او في تعز (التي كان للرابطة مكتباً ووجوداً مؤثراً بها تحت ادارة الشيخ علي بن ابوبكر بن فريد والاستاذ مهدي عثمان المصفري والشيخ عبدالله محمد بن فريد الشمعي..). وقد شنت أجهزة الاعلام المصرية وكذا اليمنية بعد الثورة حملة شرسة ضد الرابطة وجماعاتها وانصارها متهمة أياهم بالعمالة والرجعية والانفصالية. وبلغ الامر إلى حد ان تم الهجوم على مقر الرابطة في تعز في شهر ما من عام 1963 وألقي القبض على عبدالله محمد "جعفان"، عبدالله محمد بن فريد الشمعي، وأحمد محمد ابوبكر بن فريد، وتم أخذهم إلى صنعاء مكبلين. ولو لم يتم التدخل السريع من بعض المشايخ  وعلى رأسهم الشيخ أحمد عبدربه العواضي والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والنقيب أمين ابو راس لتم إعدام الثلاثة في حالة الفوضى والفلتان التي كانت سائدة في تلك الفترة.
وقد مكث الشيخ فريد وآل ابوبكر بن فريد ما يقرب من 6 سنوات في مدينة البيضاء مترقبين متربصين منتظرين. وقد كانوا يشعروا بالألم وخيبة الأمل عندما يتابعون مجريات تطورات قضيتهم والاطراف المتصارعه حولها.

مرحلة الاستقلال المنقوص
مع منتصف عام 67 كانت الامور واضحة في ان بريطانيا في طريقها لمغادرة الجنوب، وتسليم السلطة إما لحكومة إئتلاف وطني، او لإحدى الجبهات المتصارعة حينها. وفي تلك الفترة عاد آل ابوبكر بن فريد وعلى رأسهم فقيدنا الكبير الشيخ فريد ابوبكر إلى مدينة الصعيد (التي كانت تفور وتغلي وتموج بالصراعات بين الاطراف السياسية المختلفة). وقام الشيخ فريد بالتواصل والتعاون مع ممثلي الجبهة القومية في المنطقة (التي كان من الواضح ان بريطانيا في طريقها إلى تسليم السلطة لها) وذلك لتجنب شرها (أي تجنب شر الجبهة القومية) وتأمين مرحلة كمون مؤقت لمرحلة قادمة صعبة وخطيرة امام آل ابوبكر بن فريد وجماعاتهم والرابطة. ولكن حكام المنطقة، آل محسن بن فريد، لم يستسلموا لفدائيي الجبهة القومية وكبار ضباط الجيش الذي انحاز للجبهة. بل قاتلوا قتالاً عظيماً ومشرفاً لأكثر من ثلاثة أيام ولياليها، في شهر اكتوبر 1967، ولكنهم اضطروا في نهاية الأمر إلى الاستسلام ومغادرة المدينة بل الوطن كله متجهين إلى المملكة العربية السعودية (وهذا فصل مؤلم يطول الحديث حوله).

صفحة من تاريخ الحركة الوطنية في الجنوب: الشيخ فريد بن ابوبكر بن فريد العولقي .. الفارس الذي ترجل..

وجاء يوم الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، ولكنه كان استقلالاً مبتوراً وحزيناً وناقصاً. فبدلاً من ان تحتفل كل القوى الوطنية بهذا الحدث التاريخي المشهود الذي شاركت في صنعه، اذا بفصيل واحد فقط، اي الجبهة القومية، هو الذي يتسلم السلطة ويتسلم شؤون البلاد والعباد ويقصي الآخرين ويشرّع للتنظيم الأوحد والرأي الواحد والحزب الأوحد (وهذه قصة يطول شرحها).

عاش الشيخ فريد واخوانه وجماعاتهم وأعضاء الرابطة في المنطقة في تلك الأيام الصعبة تحت مجهر تنظيمات الجبهة القومية و أجهزة النظام الجديد. وكانت فترة تتسم بالقلق والخوف والتربص.

ومن المفارقات انه كما تم في شهر ابريل 59 الهجوم على مدينة الصعيد لأخذ الشيخ فريد ومجموعة من اخوانه وذويهم كـ"رهائن" لدى بريطانيا، يتكرر نفس الطلب، بعد 3 أشهر من الاستقلال، اي في يناير 1968، (وهنا وجه المفارقة) من قبل حكومة "الثورة". فقد وجهت الضغوط على الشيخ فريد واخوانه في مدينة الصعيد كي ينزلوا إلى عدن ويتم الاحتفاظ بهم كـ"رهائن" لدى النظام الجديد، وبذا يأمن النظام الجديد ان لا تقوم حركة معارضة وطنية في المحافظة الرابعة (شبوة حالياً)، كبداية، وتنتشر في بقية المحافظات. (واذكر انني قد كنت برفقة العم عوض بن ابوبكر والاخ ابوبكر محمد والقاضي محمد سعيد مجور – والد رئيس الوزراء الحالي – في حمل رد الشيخ فريد واخوانه إلى حكومة الثورة، كنا نحن الثلاثة في طريق العودة إلى القاهرة لمواصلة الدراسة بعد ان امضينا اجازة نصف السنة في الوطن لأول مره بعد الاستقلال. كان مضمون الرد الشفهي ان آل ابوبكر بن فريد وجماعاتهم ملتزمون بالقانون الذي يحظر العمل الحزبي والنشاط السياسي، ولكنهم لن يبرحوا مدينتهم، التي بالكاد عادوا إليها بعد ست سنوات من اللجوء في مدينة البيضاء. وقد قابلنا الأخ العقيد عبدالله صالح سبعة، مدير الأمن العام حينها، ورتب لنا موعدا مع وزير الداخلية، محمد علي هيثم حينها. وأخذنا مدير الأمن في سيارته في صباح أحد الأيام في أواخر شهر يناير 68 من معسكر شمبيون لاين (النصر حالياً) إلى مقر وزارة الداخلية في مدينة الشعب. وكان لقاءاً مشهوداً مع وزير الداخلية (حيث كانوا في اوج جنوحهم ومدهم الثوري حينها.

اذكر ان هيثم قد قال لنا: "أننا سنضع أحجارا على بطوننا ونشد الأحزمة ولن نركع للرجعية والامبريالية". وكلام كثير حول هذا الأمر ليس مجال ذكره هنا).

حركة الوحدة الوطنية صيف 68 والانكسار مرة اخرى
بعد بضعة اشهر، وفي شهر اغسطس 1968، انفجرت الاوضاع في المحافظة الرابعة، وفي منطقة الصبيحة في المحافظة الثانية (لحج حالياً) تنادي بضرورة تأليف حكومة وحدة وطنية (تضم الجبهة القومية وحزب الرابطة وجبهة التحرير). وكان الشيخ فريد بن ابوبكر على رأس حركة الوحدة الوطنية في الصعيد ومنطقة العوالق بشكل عام. وانفجر الصراع المسلح وتم أسر أكثر من 120 جندي وضابط بمدينة الصعيد، وانتشر التوتر إلى مدينة عتق (حيث توجد قوات الجيش الرئيسية هناك)، وتم اسقاط طائرة قرب مدينة عتق. ولكن حدثت كارثة معركة "السوداء"، والتي غيرت مجرى الأحداث. فقد زحفت الدبابات الحكومية وحاصرت تل صغير يسمى "جبل السوداء" وهو معزول وتحيط به الصحراء من كل الجوانب ويبعد عن عتق حوالي 20 كيلو متر. وقد تمركز في ذلك التل نخبة من مختلف قبائل العوالق بهدف منع نزول الطائرات إلى مطار عتق من جانب والتجمع للزحف على مدينة عتق نفسها، ولكن فاجئتهم الدبابات بالحصار وبإمطارهم بسيل من القذائف والقنابل وتم استشهاد اكثر من اربعين شهيدا وجرح العشرات. وكانت تلك الضربة القاصمة لحركة الوحدة الوطنية. فأنكسرت روح القتال وتغيرت الأجواء لصالح الجيش والأمن الذي جهز عدته وعتاده وانطلق من مدينة عتق في اتجاه مدينة الصعيد، التي مشطها بقذائف المدافع بعيدة المدى تمهيدا للدخول إلى المدينة. وبالفعل دخل الجيش والأمن إلى المدينة، بل إلى وادي يشبم كله، وعاثوا فيه تفجيراً لمعظم المنازل العائدة لقيادات الحركة الوطنية في المنطقة. وانسحب على اثر ذلك ثوار حركة الوحدة الوطنية إلى جبال الكور المنيعة (للمرة الثالثة).

جمعوا قواهم واستعادوا روحهم المعنوية، وكان للشيخ فريد بن ابوبكر واخوانه الدور الرئيسي في جمع الشمل ورفع الروح المعنوية والصمود في جبال العوالق. واستمرت هذه الحركة لما يقرب من عام، أي حتى اواخر عام 1969. وكانت تنصب الكمائن لقوات الأمن والجيش، وتداهم المراكز الحكومية وتنادي وتصر على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية. وكما خُذلت حركة الكور المناهضة للاستعمار البريطاني عام 1960 خُذلت حركة الوحدة الوطنية في صيف 1969 (وذلك لاسباب محلية واقليمية ودولية ليس هنا مجال شرحها). وانسحب الشيخ فريد بن ابوبكر واخوانه إلى الشمال، البيضاء أولاً، ثم إلى صنعاء، ثم إلى مارب، في طريقهم إلى المملكة العربية السعودية (حيث تتواجد هناك قيادة حزب الرابطة والعديد من اهلهم وانصارهم). وفي مارب تزوج الشيخ فريد بن ابوبكر زوجته الثانية، ابنة شيخ مارب الجليل، الشيخ محسن بن علي بن معيلي. ودخل الشيخ فريد واخوانه وجماعاتهم إلى المملكة العربية السعودية في بدايات عام 1970.

وفي المملكة استقر الشيخ فريد واخوانه لما يقرب من 20 عاما، في حالة كمون وانتظار وترقب ليوم عودة كريمة إلى الوطن (فقد حالت الظروف المحلية والاقليمية والدولية بينهم وبين الوطن الجريح طوال تلك الفترة).

العودة إلى الوطن بعد 20 عام في المنفى
مع قيام الوحدة اليمنية في عام 1990 عاد الشيخ فريد بن ابوبكر في معية اخيه الأكبر الشيخ الجليل محمد بن ابوبكر بن فريد وبقية اخوانهم، وكذا عدد من قيادة الرابطة على رأسهم السيد عبدالله علي الجفري والسيد عبدالرحمن علي الجفري، عادوا إلى ديارهم، وإلى مدينة الصعيد بالتحديد في يوم 2-8-1990. ففي ذلك اليوم المشهود استقبلت المدينة كبرائها ومرجعياتها القبلية والسياسية بإستقبال يليق بهم. فتجمع الآلاف في تلك المدينة الصغيرة التي اكتضت بهم وانطلقت الزوامل والاهازيج.. واطلق الرصاص من كل حدب وصوب، تعبيراً عن الفرح والابتهاج، وتعبيراً عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. وقد تجولوا على العديد من مناطق البلاد في عزومات وزوامل وأهازيج لا تنتهي، وقد عبّر شاعر شبوة صالح خميس الحداد عن لسان حال العائدين في أحد مواكب الاستقبالات التي أقامتها قبائل العوالق بقوله:
هذا تراب الارض مبطي منها  واليوم شفني جيتها بابوسها

استقر الشيخ فريد وعدد من اخوانه وابنائه وذويه منذ ذلك الحين في مدينة الصعيد.. واصبح المرجعية الرئيسية فيها. وقام بدور مشهود له في جمع صفوف ابناء المنطقة وفي حل الكثير من المشاكل، وخصوصاً الثارات القبلية. كما سعى بكل جهده لتأمين ما يمكن تأمينه للمنطقة من خدمات من الدولة المركزية. وكانت له علاقة متميزة مع رئيس الدولة ومع النائب ورؤساء الحكومات المتعاقبة ومع مختلف الشخصيات القبلية والوطنية في طول البلاد وعرضها.

ولكن للأسف جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد اتضح بأن النظام لم يكن جادا على الاطلاق في بناء مؤسسات للدولة وفرض هيبتها والقيام بوظائفها. بل اجاد التشجيع على الفساد والفوضى واثارة الفتن القبلية. وفاضت روح فقيدنا الكبير ليلة 16-8-2011 في ارض الكنانة بمصر وهو بالتأكيد مهموم ومحزون إلى ما آلت إليه الأمور في عموم الوطن.

واذا هناك لنا من عزاء في هذا المصاب الجلل، فيتمثل في ان روحه قد عادت إلى الرفيق الأعلى وبلادنا وسط ثورة شبابية سلمية عظيمة تهز اركان هذا النظام من جذوره وتبشر بإنبثاق فجر جديد وعصر جديد. عصر الدولة المدنية الحديثة. الدولة اللامركزية. دولة النظام والقانون، دولة العدل والحرية والمساوة والتنمية المستدامة.

صفات الفقيد
كان الفقيد الكبير، الشيخ فريد ابوبكر بن فريد، يتصف بصفات كثيرة من ابرزها انه كان مرجعية في الشؤون القبلية. مرجعية في العادات والتقاليد و في الاعراف والنواميس القبلية. كما كان مرجعية في معرفة انساب القبائل واسمائها واسماء مشائخها ومرجعياتها. فما كانت هناك قبيلة في المنطقة إلا ويعرف نقاط قوتها ونقاط ضعفها. اقام فقيدنا شبكة واسعة من العلاقات القبلية والاجتماعية مع مختلف ابناء المنطقة، بل على مستوى اليمن ككل. كان فقيدنا يتسم بالشجاعة والصرامة من جانب وبروح النكته والدعابة من جانب آخر. كان فقيدنا يحفظ الكثير من الشعر ويجيد سرد التاريخ القبلي. وقبل هذا وذاك كان فقيدنا ملتزما دينياً، ولكنه ذلك الالتزام غير المتعصب وغير المتشدد بل الالتزام المنفتح على الآخر، الإلتزام الوسطي الذي غُرس فيه من مدرسة السيد حسن بن علوي الحداد.

كان الشيخ فريد بن ابوبكر هو الابن الثامن من أبناء الشيخ ابوبكر بن فريد البالغ عددهم 11.. وقد تزوج فقيدنا زوجتين انجب منهما 7 من الأبناء و9 من البنات.

.... لقد ترجل ذلك الفارس الشهم النبيل الشجاع الكريم في لحظة نحن، كأسرة، وكمنطقة، في امس الحاجة إليه.
وليرحم المولى الكريم فقيدنا الكبير ويسكنه فسيح جناته
ولاحول ولا قوة إلا بالله

Total time: 0.0478