من مفارقات العلاقات بين إيران والولايات المتحدة اليوم، أنهما كانتا قبل نصف قرن من أقرب الحلفاء، بعد وصول حكومة الشاه العلمانية للسلطة بفضل انقلاب نظمته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إذ تدفقت على الحكومة الجديدة أسلحة أمريكية تضمنت مقاتلات إف-14 توم كات، ومروحيات إيه إتش-11 كوبرا الهجومية، وصواريخ تاو المضادة للدبابات.
ولهذا السبب عندما طلبت وكالة الاستخبارات الأمريكية من إيران إجراء رحلات تجسس جوية إلى الاتحاد السوفيتي كان الرد: “كم قاعدة جوية ستحتاجون؟” و “هل باستطاعة طيارينا الركوب في المقعد الخلفي؟” و “هل بإمكاننا شراء طائرات تجسس منكم للمساعدة؟”.
ولم يتساهل الاتحاد السوفيتي مع الأمر، إذ كان المقاتلون السوفييت يطلقون نيرانهم صوب الطائرات الإيرانية، وعندما لا يأتي ذلك بنتيجة يقومون بالاصطدام بطائرات الاستطلاع الأمريكية-الإيرانية.
عملية جين الظلام
كان الهدف الأساس من العملية التي أطلق عليها “جين الظلام” هو العثور على ثغرات في شبكة رادار الدفاع الجوي في الاتحاد السوفيتي على طول الحدود الإيرانية واستغلالها وكذلك اختبار آلية عمل أنظمة الدفاع تلك عند تنبيهها.
وفي عام 1968، تسلمت القوات الجوية الملكية الإيرانية 12 طائرة استطلاع RF-FA تايغر- آي، وهي من نسخ المقاتلة الأمريكية إف-5. وبقيادة طيارين في سلاح الجو الأمريكي كانت هذه الطائرات تنفذ رحلات تجسس منتظمة عبر الحدود.
ثم في عام 1971، استحوذت إيران على أكثر من 20 طائرة RF-4C فانتوم ريكون ذات سرعة وثقل أكبر مع تعديلات خاصة من أجل التجسس على الاتصالات السوفيتية.
وكانت الطائرات ذات المقعدين تحلق في مهام تجسس مرتين في الشهر، بطاقم مكون من طيار أمريكي وآخر إيراني، وكان الأخير يشارك لأغراض التدريب.
مشروع إيبكس
وفي برنامج منفصل عرف باسم “مشروع إيبكس” استخدم مزيج من طائرات الاستخبارات الإلكترونية الكبيرة “ELINT/ سواتل استخبارات” و 5 مواقع أرضية مشتركة بين إيران والولايات المتحدة للتنصت على الاتصالات اللاسلكية السوفيتية وجمع بيانات التردد والقياس عن بعد.
وكان يتم الدفاع عن المحطات الأرضية بالألغام والأسلاك الشائكة ونظم التدمير الذاتي ويتم تزويدها بالمواد فقط جوًا. ويقال إن إيران دفعت 500 مليون دولار لشركة “روكويل الدولية” من أجل المعدات.
واشترى السلاح الجوي للإمبراطورية الإيرانية 4 طائرات سي-130 هيركيوليز الناقلة مزودة بأدوات سواتل استخبارات، إضافةً إلى طائرة 707 لا تزال مستخدمة في خدمة سلاح الجو الإيراني لليوم.
ولم يكن الأمريكيون والإيرانيون يخرجون دومًا من المجال الجوي للاتحاد السوفيتي دون إصابات. ويزعم أن طائرتي RF-5A وطائرتي RF-4C اسقطت خلال السبعينيات وادعى الطيارون المقذوفون منها ببراءة بأنهم كانوا يخضعون للتدريب.
ووقع أكثر لقاء مأساوي موثق بالكامل في الـ 28 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1973 عندما تعرضت طائرة Rf-4C يقودها اللواء محمد شوكوهونيا، والعقيد في سلاح الجو الأمريكي جون سوندرز في المقعد الخلفي للاعتراض من قبل طائرة 34 ميغ-21 يقودها النقيب جينادي إيليسيف انطلقت من قاعدة جوية في فازياني، جورجيا. أطلق الطيار عندها صاروخا من نوع R-3S المتعقب للحرارة على طائرة الاستطلاع لكنها تمكنت من الإفلات.
وصواريخ R-3S هي النسخة السوفيتية من صاروخ إيه.آي.إم-9 سايد وايندر الأمريكي التي أعاد السوفييت تصنيعه بشكل عكسي بعد حصولهم على صاروخ من طائرة مقاتلة صينية بعد معركة جوية في تايوان، لكن لم تكن النسخ الأولية من صواريخ سايد واينر موثوقة.
واحتاجت أنظمة تعقب صاروخ R-3S ل22 ثانية للتثبت، وكان الحد الأدنى من النطاق المشترك المطلوب هو كيلومتر واحد. ثم حاول إيليسيف إشراك الفانتون بمدفعه ذي الـ 23 ملم، لكنه تعطل بعد أن ضغط على الزناد.
بعدها طلب منه قائدة من الأرض محاولة تنفيذ هجوم اصطدام، ووافق إيليسيف على ذلك، إذ كان الطيارون السوفييت يستخدمون تكتيكات الاصطدام خلال الحرب العالمة الثانية على نطاق واسع، نظرًا للتدريب المتميز والأعداد الهائلة من الطائرات الحربية الألمانية، وكان ينظر إلى فقدان طيار مقابل آخر على أنه مكسب، بالطبع ليس للطيار.
ودفعت مناورات الـRF-4 المراوغة إلى فقدانها لسرعتها مقارنةً بإيلسيف لذلك اصطدم الطيار السوفيتي بموزع الوقود وحطّم مقاتلته الأصغر حجمًا بذيل الطائرة الأمريكية التي يعد وزنها ضعفي وزن مقاتلته. وكانت آخر رسالة لإيليسيف هي “نلت منه!”.
وقذف ساندرز وشوكوهونيا بنجاح من طائرة الفانتوم وقبض عليهما قوات برية سوفيتية. أما إيليسيف فلم ينج. ومنح بعد وفاته لقب “بطل الاتحاد السوفيتي” وأقيم نصب تذكاري له في مدينة فولغوغراد ( ستالينغارد سابقًا). أما طاقم الصيانة والأسلحة المسؤول عن طائرته فقد سجنوا لبضع سنوات كنوع من العقاب.
وقف رحلات التجسس
رسميًا، وافقت الولايات المتحدة على وقف رحلات التجسس في الستينيات من القرن الماضي. وكان البروتوكول المتبع عند الطيارين الأمريكيين والإيرانيين هو الادعاء ببساطة أنهم ضاعوا خلال إجراء تدريبات مشتركة. وافق الاتحاد السوفيتي على التغاضي عن الحادثة وإعادة الطيارَين (اللذين حصلا على ميداليات لاحقًا) مقابل استعادة بيانات من قمر صناعي للتجسس السوفيتي تحطم في إيران.
وبعد 3 أعوام، أسقطت طائرة RF-4 أخرى، إلا أن المعلومات حول هذا الحادث قليلة. واستجاب الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف من خلال إرسال طائرة ماخ-3 الاستطلاعية من فئة 25RBSh إلى المجال الجوي الإيراني ويدعي البعض أن طائرات الفانتوم الإيرانية تمكنت في إصابة إحدى الطائرات السريعة؛ ما تسبب في سقوطها على الجانب السوفيتي من الحدود.
ومن المفارقات أن برنامج التجسس تسبب بقتل طيارين إيرانيين كانوا في مهمات تدريبية بحتة. ففي الـ21 من يونيو/ حزيران 1978، انحرفت 4 طائرات هليكوبتر شينوك CH-47 ثقيلة ضخمة من القوات الجوية الإيرانية 12 ميلاً عبر حدود تركمنستان حاليًا في مهمة تدريبية. أطلقت طائرتا ميغ 23 إم مقاتلتان، النار وأمرت الثانية بإطلاق النار أيضا. أطلق الطيار فاليري شكيندر صاروخَي R-60 الموجهة بالأشعة تحت الحمراء وضرب كلاهما إحدى طائرات الهليكوبتر. وأطلق النار من مدفعيته ذات 23 ملم باتجاه طائرة شينوك ثانية مدمرًا بذلك أحد محركَيها. وتمكنت المروحيتيان الأخريان من الهرب.
لم يكن هناك أي ناجين من ضمن الطاقم المكون من 8 أفراد في مروحية CH-47 الأولى، لكن الثانية أجبرت على الهبوط القسري بالقرب من عاصمة تركمنستان، عشق آباد، واعتقل أفراد طاقمها الأربعة. ومع ذلك، تمنت كل من إيران والاتحاد السوفيتي تفادي وقوع حادثة دبلوماسية، لذلك أعيدت مروحية الشينكوك وطاقمها بعد فترة وجيزة، وحرم شكيندر من الحصول على ميدالية بسبب الحادثة.
سقوط الشاه
ومع سقوط الشاه عام 1979 وأزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، عُلقت العلاقات الإيرانية – الأمريكية الرسمية وأوقف برنامج التجسس. إلا أن العلاقات بين إيران والاتحاد السوفيتي ازدادت سوءًا إذ استمر الاتحاد السوفيتي بتزويد العراق بالأسلحة.
ومهد هذا التوتر الطريق لاشتباك أخير عام 1988 عندما تجولت طائرات مروحية AH-1J الإيرانية على علو منخفض في أجواء أفغانستان المحتلة من الاتحاد السوفيتي.
واستخدمت القوة الجوية الإيرانية ضد مهربي المخدرات والمتمردين على طول حدودها مع أفغانستان، ومن المحتمل أن الطائرات المروحية الإيرانية كانت تقوم بمهمة استطلاعية عندما عبرت الحدود بالخطأ. أطلقت طائرتا ميغ -23MLD من قاعدة شينداند الجوية على بعد 50 ميلاً. وبالتحرك من الغرب، أطلق الطيارون السوفييت صاروخ R-24R الموجه بالرادار من مسافة 5 أميال نحو المروحيات والتي اختفت فورًا من راداراتها. وبعد أسبوعين، عثرت القوات السوفيتية على بقايا المروحيات التي أسقطت.
الحرب في سوريا
وعلى عكس الاتحاد السوفيتي، لا تملك روسيا حدودا برية مع إيران، لكنها تقوم بالأعمال التجارية مباشرةً عبر بحر قزوين.
ويتعاون البلدان الآن من أجل دعم نظام بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية على الرغم من أن أهدافهما في البلد الممزقة بالحرب ليست متوافقة. وفي إحدى المراحل، تفاخرت موسكو بأن طائرة تي يو-22 إم القاذفة للقنابل تنفذ غارات جوية في سوريا من القواعد الجوية الإيرانية.
وترغب إدارة الرئيس الأمريكي ترامب الجديدة في الوقت ذاته بعلاقات أكثر دفئًا مع موسكو، بينما تشكك في الاتفاق النووي مع طهران؛ ما من شأنه تعقيد العلاقات بين الدول الثلاث.
وفي الوقت الراهن، لم يعد الطيارون الإيرانيون يملكون سببًا للخوف من طائرات موسكو لا سيما وأنهم يحلقون ببعضها بأنفسهم مع أسطول كبير من الطائرات الأمريكية القديمة التي حصلت عليها عندما كان البلدان شريكين في التجسس.