اخبار الساعة
المواقف العامة ليست مجرد تعليقات عابرة نقولها ونمضي.
الموقف العام، هو التزام شخصي مالم تكن مستعدا لتدفع حياتك ثمنا لما يستحق من مواقف عامة، فانك مجرد عابث تلهو بالشعارات..
غير أن هذا مجرد كلام، أما في الواقع فقلة قليلة من البشر لايعرفون التفريق بين القول والفعل.. لايقولون مالايستطيعون فعله، ولا يفعلون مالايستطيعون الدفاع عنه.
في الفيلم Amistad عن مكافحة العبودية، يندهش الافريقي القادم من الادغال من هذا الرجل الابيض الذي يعتذر انه لم يستطع فعل ماوعد به، ويقول له: "لماذا تقولون مالاتفعلون.."، ويشرح المترجم بينهما الجملة بان هذا الافريقي قادم من قبيلة لاتعرف ان في الدنيا شيئ اسمه الكذب، ولا حتى المجاملات ولا الوعود الوهمية، لايقولون الا مايمكنهم فعله فقط..
وانا اسمع حكايات رفاق "فؤاد دلهوس"، كأني رأيته ذلك الافريقي القدير.. لايرى في الحياة شيئ يستحق أن تقول مالايمكنك فعله.
نموذجا مبهرا لشاب لافرق عنده بين القول والفعل، كله التزام مستعد للموت من أجل مايقوله ويؤمن به..
حينما التحق بالحرس الخاص، وحينما غادره بعد تحول الرئاسة الى مصدر اعلامي يتهم جنوده بكل سهولة تحت تأثير الصراعات السياسية..
شاب، كان يحرس بوابة الرئاسة، ومنها بدأ اثبات شخصيته.. وحين غادرها الى قريته في سنحان، سجل موقفا بطوليا خاصا به، وفاء لكلمته رافضا قياده تتهمه وتخونه وتظن أنه سيفعل ضدها ماقد وعد بأنه لن يفعله..
وحين بدأ العدوان جرائمه، حمل ذات السلاح الذي رفض تسليمه في صنعاء، وكان على الحدود يتصرف كأنه يحرس منزله، كأنه يسير في أرضه الخاصة.
هو اليمني الوحيد الذي سمع العالم كله صوته مدويا: "سلم نفسك ياسعودي أنت محاصر"..
سألت كل من استطعت الحديث اليه من رفاقه، عن سر هذه الجملة، هل كانوا يتحدثون عنها، هل كان يرتب لها.. ولم أجد جوابا، غير أن وصف رفيقه الاخر لمشاهد اللحظات تلك، تقول أنها كانت طبيعته، هو لايعيش المعارك انصافا ولا ارباعا، لايعيشها الا كاملة بصوته وروحه وحركته وعقله وقلبه..
ارتدى زيه العسكري الذي عمل به طيلة سنوات عمره العسكري الصغير، وحمل بندقيته الايكي، وثبت اقدامه في مكان لايخطر للسعودي على بال، ثم هتف باليمنيين جميعا: انا ابن لكم وأخ منكم.. يمني يعيش الكرامة خلودا وثباتا واقداما واصرارا..
يمني لم آتي هنا الا غيضا من عذوان غشوم متجبر، رأى نفسه فرعونا يمكنه أن يفعل بنا مايشاء.. هل تريدون التأكد من أن بلادكم قوية وشامخة وصامدة وجسورة ومقدامه، اسمعوني اذا، مؤذنا ملئ المكان: سلم نفسك ياسعودي أنت محاصر.
هي اليمن، هنا في قلب دولة العدوان، الواحد منها يرى نفسه المجموع كله.. التاريخ كله، الصمود كله..
خمسة عشر سعوديا يختبئون في جرفهم، لم يخطر لأي منهم ولا من قياداتهم بالا أنه بمقياس العسكرية والحروب يمكن لشخص أن يفكر باقتحام مكانهم..
قرؤوا كثيرا عن البطولات والشجاعات والمآثر التاريخية، لكنهم قرؤوها كماضي.. أما فؤاد فلعله لم يقرأ منها شيئا.. بل عاشها.. كانها.
يقول لي ابن عمه "ما تشتيني اقول.. اقول انه مجنون، كان يقفز للحرب كانها نزهة".. قلت له: "وما الحياة الا جنون"..
الذهاب الى مواجهة الرصاص.. ليس كالكتابة، ليس كالتخطيط.. ليس كأي اختيار..
الايمان بالجسد وتحوله ضوءا وقوة وخيالا فوق حدود المادة.
الايمان بالمواقف، عظمة خالصة فوق حدود الممكن وغير الممكن..
الثقة أن الحياة يوما او عاما او مائة عام، شيئ واحد، ولكن قد يغيرها موقف واحد فقط، يجعل اليوم من حياة الواحد دهرا بالاف السنين من حياة البشرية.
عمرا تعيشه يخلده موقفا في نصف دقيقة.. يرفع للسماء أو يحطه في أسفل سافلين..
وكان هذا هو فؤاد.. قدمه الثابتة لم تكن مجرد قدم كالتي تحملنا جميعا.. لقد كانت قدم البطولة والاقدام والشجاعة والهمة والتعالي..
وعقله وعينه ويده على الزناد..
بمثله يمكن للشهادة أن تفاخر..
وللحياة أن تبكي خسارة جسورة..
ولليمن أن يردد كل صداها في كل زمان ومكان صوت شاب يمني تحوم فوق رأسه الطائرات، وتطيش رصاصات من كل نوع في كل مكان، وهو ثابت عنيد مؤمن مقبل يهتف: سلم نفسك ياسعودي أنت محاصر..