أخبار الساعة » السياسية » اخبار اليمن

الكاتب عطوان يستعرض نبذة من سيرة حياة الزعيم صالح

نشر الكاتب عبدالباري عطوان عن طرائف جرت بينه وبين الرئيس علي عبدالله صالح .. وشرح فيها لقاءاته وحواراته ومشاوراته وجلسته معه أثناء زيارته إلى اليمن وفي زيارة الزعيم الصالح إلى لندن وبرلين وغيرها .
 
إليكم نص المقال
 
اتفقنا مع الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح واختلفنا معه أكثر، حول العديد من القضايا اليمنية والعربية، وكان بيننا وبينه حوارات ساخنة، ولكنها لم تعكر أجواء الود والاحترام المتبادل التي استمرت لعقود.
 
التقينا على أرضية معارضة المشروع الأمريكي في العراق، و”عاصفة الصحراء” التي أدت إلى تدمير هذا البلد العربي الأصيل وجمعنا سويا مع عرب آخرين ما سمي في حينها "معسكر الضد"، الذي ضم دول مثل السودان والجزائر والأردن وموريتانيا وتونس، مثلما جمعنا أيضا الوقوف في الخندق المواجه لـ”عاصفة الحزم”، وعدوان التحالف العربي بقيادة السعودية على اليمن، ولكننا اختلفنا معه عندما قرر الانضمام إلى هذا التحالف قبل ثلاثة أيام من مقتله، وهو الموقف الذي صدمنا والكثيرين مثلنا، خاصة انه لم يسعفنا الوقت لنعرف اسراره وخفاياه.
 
آخر مرة زرت صنعاء كانت في أيار (مايو) 2000 تلبية لدعوة شخصية منه لحضور الاحتفال بالذكرى العاشرة للوحدة اليمنية التي كان الرئيس صالح يعتبرها ابرز إنجازاته، ولكنني إلتقيته عدة مرات أثناء زياراته للندن وبرلين وعواصم أوروبية أخرى، قبل عام 2011 الذي شهد الاحتجاجات الشعبية الضخمة التي قادت إلى نهاية حكمه.
 
اللقاءات الصحافية مع الرئيس صالح كانت ممتعة، لأن الرجل يحظى بعفوية محببة، ويتحدث على سجيته، ويجيب عن الأسئلة بصراحة نادرا ما توجد لدى العديد من الزعماء العرب الآخرين، مما يوفر للصحافي عناوين رئيسية جذابة للقارئ، وتوزيعا لافتا لصحيفته او مطبوعته.
 
آخر لقاء أجريته مع الرئيس صالح كان في عام ألفين، على ما اذكر، لم يكن، وكان الرجل متحفظا في أجوبته على غير عادته، فقررت أن اعززه، أي الحوار،  بإضافة مقدمة طويلة تناولت فيها انطباعاتي عن معرض التحف والهدايا التي تلقاها من زعماء العرب والعالم اثناء زياراته الرسمية، حيث كان من ابرز بروتوكلاتها تبادل الهداية، حيث كان المتحف يحتل مكانا بارزا في مجمع القصر الجمهوري في منطقة السبعين.
 
عدة هدايا لفتت نظري، الأولى كانت سفينة من الذهب مقدمة من الشيخ زايد بن سلطان، ومبخرة ذهبية ضخمة من العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز، وسيفا ذهبيا من المناضل الكبير جورج حبش، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان سيفا متواضعا على كل حال بالمقارنة مع الهدايا الأخرى، وساعة روليكس من الزعيم الزعيم الليبي معمر القذافي.
 
هديتان توقفت عندهما طويلا، الأولى من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وكانت عبارة عن مجسم لقبة الصخرة مصنوعة من الخزف، وقد احتلت ركنا كاملا من اركان المتحف الرئاسي الأربعة، مما يوحي بأن الرئيس عرفات في كل مرة كان يزور اليمن، وما اكثر زياراته لها في فترة التسعينات، لان معظم العواصم العربية والخليجية كانت مغلقة في حينها امامه بسبب موقفه من حرب الكويت، وكان يقدم الهدية نفسها لمضيفه وصديقه اليمني، وينسى انه قدم مثلها في الزيارات السابقة.
 
الهدية الثانية كانت من القيادة الصينية وعبارة عن قارورتين زجاجيتين ضخمتين من المشروبات الكحولية المعتقة، وتحويان الى جانب الكحول البيضاء زواحف وسحالي وقوارض مجهولة بالنسبة لي.
 
كتبت مقدمة التقرير في قمة الصفحة التي نشرت فيها المقابلة، متوقعا توزيعا كبيرا في اليمن، واستحسانا من القارئ والقيادة معا، لطرافة الموضوع الذي كان غير مطروق وغير مسبوق، ولكن مراسلنا في اليمن الأستاذ خالد الحمادي، اخبرني ان آلاف النسخ جرى سحبها من الأسواق بعد ساعات، لان حزب الإصلاح اليمني السلفي، ودعاة آخرين، احتج على قبول رئيس الدولة هدية من الخمور وهو المسلم، وكان عليه ان يرفضها لان كل من يمسها ملعون.
 
الموزعون اليمنيون صوروا التقرير دون نص المقابلة مع الرئيس، وباعوا آلاف النسخ من هذه الصور للقراء اليمنيين المتعطشين، الأمر الذي يؤكد للمرة المليون ذكاء “أبو يمن” وعبقريته التجارية، وحبه للقراءة ولا غرابة في ذلك، ولا نبالغ اذا قلنا ان اعداد مثقفيه ومبدعيه في عالم الشعر والموسيقى هم من بين الاضخم في الوطن العربي.
 
الرئاسة اليمنية أصدرت بيانا قالت فيه انها حطمت القارورتين، تجاوبا مع انتقادات رجال الدين، واحتراما لتعاليم العقيدة الإسلامية، ولكن المرحوم عبد العزيز عبد الغني، الرجل الدمث، ورئيس الوزراء لعدة مرات، واحد ابرز المقربين من الرئيس صالح قال لي رواية أخرى ربما اسردها في يوم ما.
 
احد الذكريات الأخرى الطريفة التي لا أنساها، جرت وقائعها في قصر سبأ الرئاسي وسط صنعاء، حيث ذهبت للقاء الرئيس صالح وتلبية لدعوة غداء، جلسنا نتبادل الحديث في غرفة جانبية من هذا القصر الأثري بمعماره اليمني الرائع، وفجأة جاء من يقول لنا أن السفرة جاهزة، فقام الرئيس صالح وخلع بنطاله وارتدى الوزرة، فسقط مسدسه فالتقطه من باب الفضول، ونظرت إليه، أي المسدس، بإعجاب، فقال لي بعفوية أنه هدية مني إليك.
 
قلت له ماذا افعل به؟ سيدي الرئيس أنا أعيش في لندن وليس في أبين أو الجوف، واعذرني فإنني لا استطيع قبول هذه الهدية التي يمكن أن تقودني إلى متاعب كثيرة من بينها السجن، فكيف سأحملها في المطار حيث التفتيش الدقيق، فقال لي انه سيتولى الأمر في مطار صنعاء، وعلي أن لا اقلق، فقلت وماذا افعل بهذه الهدية الملغومة في مطار هيثرو عند وصولي إلى لندن؟ أجاب بسرعة البديهة؟ يا سيدي أنا أرسلها لك في الحقيبة الدبلوماسية.. قلت له سيادة الرئيس أرجوك أعفيني من هذه “المصيبة” فلدي من المشاكل في لندن وغيرها ما يكفيني.
 
في احد المرات اصطحبني بسيارته إلى أحد القواعد العسكرية خارج صنعاء، وقال لي انه يريد أن أشاهد عرضا لـ”أوبريت” من تأليفه ويشرف على إخراجه، وسيكون من ضمن فقرات الاحتفال بذكرى الوحدة، فضحكت وخاصة عندما وقف مثل المايسترو يعطي الإشارات لمجموعة الجنود المشاركة وسط موسيقي عالية، فقال لي ما أضحكك، قلت يا سيدي نقبل أن تكون رئيسا، وشيخا قبليا، وخبيرا عسكريا، وداهية سياسيا، لكن لا مؤلفا ومخرجا لأوبريت فني فهذه كبيرة علي.. أرجوك اترك هذا الأمر لأصحابه.. فلم يقبل هذه المزحة وبدأ الغضب على وجهه، حيث ارتسمت الكشرة (نمرة 11) على جبينه، وهي احد القواسم المشتركة بيننا.
 
خزنت معه القات أكثر من مرة (كنت امضغه بطريقة بدائية من قبيل المجاملة) في حضور مجموعة من أصدقائه ورجال دولته، أمثال الرجل الداهية عبد الكريم الارياني، وعبد العزيز عبد الغني، رحمهما الله، وفي إحدى المرات كان الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي من بين الحضور، وكان يرتدي بدلة زرقاء فاتحة، لم يشاركنا التخزين، على ما اذكر، وكان نائبا للرئيس في حينها، وكان قليل الكلام.
 
رحم الله الرئيس علي عبد الله صالح، وغفر له ذنوبه، فالكمال لله وحده، والجعبة مليئة بمواقف وذكريات أخرى كثيرة لا تصلح للنشر، وستظل محفورة في ذاكرتي والكثيرين الذين كانوا قريبين من الرجل طوال فترة حكمه التي امتدت لاكثر من 33 عاما.

Total time: 0.049