إذا كان من الصعب أن أبدو متفائلاً على غير العادة فإنه من الأصعب أن أظل متشائماً فوق العادة، ولهذا سأنتقل من مربع التشاؤم إلى مربع ما قبل التفاؤل حتى يتبين خيط منصور من خيط صالح.
غير أنه لا بأس من تلمّس بدايات درب التفاؤل كنوع من احتفاء تجريبي بانطواء حقبة اليأس، ولنسمح لشعاع الأمل يتسلل إلى شرفة مخيلتنا.. لندع الفرحة تتسرب إلى وجداننا.. لندع للابتسامة حرية الارتسام على شفاهنا كبثّ تجريبي على الأقل؛ لأنك لا تملك إلا أن تفرح وأنت ترى معظم أبناء الشعب اليمني وهم يجعلون من صحراء ظروفهم واحة غناء بحجم تطلعاتهم للمستقبل المنشود.. وهم يصنعون من جلمود واقعهم نقشاً سبأياً بزرقة شمس جديد.. وهم يسجلون بأصابعهم الزرقاء أسوأ نهاية سوداء لـ(حمران العيون)!!
ليس ثمة من بد للأمل وأنت تشاهد بأمهات حواسك مجموع اليمنيين وهم يتقاطرون صوب صناديق الاقتراع زرافات ووحداناً.. الشباب والشيوخ والنساء .. الحزبيين والمستقلين.. المعاقين والجرحى.. الشيخ والعسكري والقبيلي والموظف والطالب والعامل والفلاح.. ليشكلوا أكبر تظاهرة سلمية للتغيير.
صحيح قد لا ترقى عملية تصويت الثلاثاء الفائت إلى مرتبة الانتخابات بكافة معاييرها ومقوماتها، لكنها بالتأكيد تعدّ عملية كابحة لعجلة العنف التي بدأت بالدوران.. وكانت أداة فعالة ووحيدة لتحقيق أهداف ثورة الشهداء ودون مزيد من الدماء.. بل جعلت النظام وأركانه يشاركون في هدم نظامهم بأيديهم وأيدي اليمنيين.
بيْد أنه يبقى السؤال فاغراً فاه: هل يمتلك الرئيس الجديد القدرة الكافية لإثبات أنه فعلاً رئيس الجمهورية؟ هل سيلتقط هذه الفرصة التاريخية المركبة من الإسناد المحلي والمساندة الشعبية للقيام بأبسط ما يجب القيام به؟! وهل يقوى على مجابهة كافة الأطراف بمنطق الشرعية الشعبية الحائز عليها وبما تقتضيه مصلحة الوطن العليا؟! باختصار هل سيقول (لا) لمن كان يسمع منه (نعم) بشكل مستدام طيلة عقد ونصف أو يزيد؟!
خيارات الرئيس المنصور
لقد حظي عبدربه منصور هادي بثقة شعبية عالية لم يسبق لرئيس يمني أن حظي بها، في ظل غياب تام لبرنامجه الانتخابي أو مهرجاناته الدعائية أو أموال شرائية لأصوات الناخبين؛ إذ أن هذه الانتخابات لم تك مسألة اختيار مرشحاً فحسب، بل كانت بمثابة انحياز ضروري للوطن واختيار إجباري للذات من قبل كافة الأطراف السياسية المشاركة في العملية السياسية وبعض المكونات الاجتماعية والدينية التي أدركت مخاطر الوقوع الجماعي في عنق الزجاجة السياسية والأيقونة الثورية وليس ثمة من حلّ سوى ذاك الحل القابع في جوف صندوق الاقتلاع!
ومادام الرئيس عبدربه يتمتع بشرعية شعبية واسعة فإنه من المتوقع أن يسلك درب الخيارات الإيجابية والمتوازنة، وأنه لا شك سيمتلك مزيداً من الشجاعة في اتخاذ قرارات صائبة لا سيما في ظل وجود تهيئة وطنية وقابلية سياسية غير مسبوقة فالجميع على أتم الاستعداد للتنازل عن بعض الأطروحات والرؤى والامتيازات، وقد لا تتكرر مطلقاً هذه الفرصة للرئيس القادم في 2014م.
ولهذا يتوقع الكثيرون إمكانية التحول الإيجابي في شخصية الرئيس منصور، بناء على الحقائق والمؤشرات التالية:
- في خطابه الأخير الأحد الماضي قام الرئيس منصور بنسف غير مباشر لكل ما اتسم به العهد السابق، على غرار: ’’ لن نبيع الوهم لمواطنينا لأننا نريدهم أن يكونوا معنا لا خلفنا.. لن نتصفح أوراق الماضي إلا في معرض الاستفادة من الدروس وأخذ العبر.. من أوجب الواجبات هو استعادة الدولة.. سنة التغيير إلى الأفضل قد بدأت.. حرصت منذ البداية على أن تكون كلمتي إليكم صادقة تحمل من الأمانة أكثر مما تحمل من الوعود لأني أريدها عملاً في الميدان لا مجرد كلمات تسوقها الألسن..سأظل فاتحاً ذراعي لكل يمني دون حاجة لترف السؤال عن مذهبه وقبيلته وحزبه.. إلخ’’
فهذا يشكل اعترافاً واضحاً بأن ما يحدث هو تغيير نحو الأفضل، أي أن العهد السابق كان سيئاً ومستعصياً عن التصويب إلى درجة تستوجب تغييره؛ لأنه كان عبارة عن بيع أوهام، واستبداد وإقصاء لدور الآخرين وحصرهم في خانة الأتباع خلف الزعيم وليس معه، بل أن العهد السابق لم ينطوي على ما يستحق أن يستفيد منه الرئيس الجديد باستثناء أخذ العبرة من تلك الأخطاء الغزيرة.
- يدرك الرئيس منصور جيداً بأنه الرئيس السابق لم يكن لديه أدنى رغبة في تمكينه من أدنى صلاحيات نائب رئيس، ناهيك عن صلاحيات رئيس ما بالك برئيس بديل عنه!!!
وهو يعلم أن صالح رفض في البدء نقل صلاحياته له، وقال صالح -حينها- بأنه سيسلمها لأيدٍ أمينة، أي أن هادي لم يكن من تلك الأيدي الأمينة في نظر صالح، رغم أن عبدربه لم يبد موافقته أو رفضه على المبادرة بعد!!
أنا هنا لا أقوم بتحريض هادي تجاه صالح؛ لأنه ليس بحاجة إلى تحريض فهو أدرى من غيره بصالح، وأيضاً صالح لا يحتاج لأدنى دليل على مدى تشبثه السابق بالسلطة وغيرته القاتلة من أقرب المقربين له إلى حدّ التخلص منهم!!
- لا يمكن لعبدربه منصور هادي أن ينسى الموقف الإيجابي الذي أبداه غالبية شباب الثورة والمكونات الرئيسية لها إزاء ترشيحه رئيساً توافقياً، وهذا على خلاف ما تنتهجه الثورات التغييرية في العالم، ولعله من حسن طالع الرئيس الجديد أن يتوافق عليه الفرقاء المتشاكسون فحتى الذين يختلفون معه لا يمكن أن يختلفون عليه!! وحتى الذين قاطعوا الانتخابات لم يجرؤوا على القول بأن مقاطعتهم تلك ناتجة عن موقف شخصي من (هادي) بقدر ما كانت حسابات سياسية تتعلق بهم، ولهذا من البدهي في أبجديات السياسة أن يتم التقاط هذه الفرصة الكبرى والنادرة في مثل هذه اللحظات التاريخية، ما بالكم والرئيس الجديد ذو خبرة سياسية عريقة وضليع في تعاطي مع هكذا أحداث فارقة.. وهذا أيضاً ما تجلى مؤخراً في خطاباته التي أشاد فيها بدور ثورة الشباب المحركة للمياه الراكدة، بل وأبدى عدم رضاه بسفك الدماء وترحّم على أرواح الشهداء المدنيين والعسكريين من الطرفين ودعا للجرحى بالشفاء، مما يعني إعلان تخليه عن نهج الرئيس السابق الذي حرص على حصانته من المساءلة.
- لم يعد عبدربه منصور هادي كما كان مجرد ساعي بريد لصالح يحرص على زيارة المحافظات الجنوبية لينقل لأبنائها تحيات فخامة الرئيس ويكرر تلك المحفوظات الاتهامية بالانفصال والعمالة وغيرها.
لقد أظهر اعترافه اللا محدود بالقضية الجنوبية بل دعا أبناء الجنوب للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني القادم ودون أي سقف، كما أنه أبدى تفهمه لمقاطعي الانتخابات في المحافظات الجنوبية بسبب ما قال أنهم واقعون تحت تأثير خيبة أملٍ وانكسار حلمٍ، أي أن مشروع الوحدة لم يلبِّ تطلعاتهم المشروعة، والمقصود هنا أن الرئيس منصور لديه قدرة على إقناع وإرضاء كثير من الأوساط الجنوبية، فليس الأمر كما يصوره البعض بأن منصور لن يكون منصوراً في المحافظات الجنوبية، بل العكس تماماً وفق نتائج انتخابات الثلاثاء الماضي رغم سوء الأحوال الوطنية ورداءة الطقس السياسي؛ لأنه إذا كانت قوى الحراك سابقاً تنادي كل المرتبطين بالسلطة حينها بتحديد موقفهم من القضية الجنوبية فهذه دلالة قوية على عدم استغناء القضية الجنوبية عن أحد أبنائها حتى ولو كان تابعاً للنظام السابق، فما بالك وقد أصبح اليوم على رأس نظام جديد!!
- الرهان على وطنية وقدرات عبدربه منصور ليس وليد اللحظة، بل كان متزامناً مع انطلاقة الاعتصامات الثورية إن لم يكن سابقاً عليها، وإنما كان أقصى ما يؤخذ عليه أن كثير الأعذار والتي كانت منطقية حينها، تستدعي التأني والانتظار لإرهاصات التغيير من توقيعات ومقترحات ومبادرات وانتخابات وغيرها. أما اليوم وبعد إجراء الانتخابات الرئاسية المبكرة لم يعد لدى الرئيس الجديد أي عذر في عدم القيام بواجباته التوافقية.
أهم واجبات الرئيس المنتخب وحقوق الشعب الناخب
يبدو أن ألحّ قضية في الوقت الراهن وأهم خطوة الآن يجب أن يتخذها الرئيس الجديد هي هيكلة المؤسسة العسكرية لأنها مفتاح كافة الحلول، وهي أسّ الأخطار كلها، وبدون معالجة انقسام الجيش فإنها ستؤثر سلباً على شتى محاولات معالجة غيرها من الإشكالات، فلن يكتب النجاح للحوار الوطني ما لم يتم إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، ولن تنجح أي من المحاولات الحسنة في توفير الخدمات الأساسية في ظل وجود قوة عسكرية تعمل على تغييبها!! بل كيف سيتم رعاية أسر الشهداء والجرحى بينما تستمر القوى العسكرية في حصد المزيد من الأرواح؟!
باختصار شديد تعد القوة العسكرية اليوم هي الحاكمة الفعلية لمعظم المدن والمناطق اليمنية بما فيها العاصمة، وإذا لم يتم إحكام السيطرة الإدارية على هذه القوة العسكرية فسيظل رئيس الجمهورية مجرد صورة فنية وحكومة الوفاق مجرد خبر تلفزيوني حتى وإن ألقوا مئات من الخطابات التنظيرية!!
إن بقاء انقسام الجيش يعني استمرار تكبيل حركة كلاً من الرئيس التوافقي وأيضاً حكومة الوفاق. فما جدوى معالجة مختلف الإشكالات الصغيرة دون معالجة جذرها المنتج لها؟!! فهم السؤال نصف الإجابة، وهيكلة الجيش كل الإجابة!!
خيارات صالح
عرف عن علي عبدالله صالح أنه شخصية استحواذية التملك واستئثارية في اتخاذ القرار، وأنانية صارمة في تهميش كل من حولها!! ذاك على مدى (33) سنة فائتة، فهل سيقلع الرئيس المقلوع عن تلك الصفات؟ أم أنه سيزداد إصراراً وتمسكاً بها في ظل وجود رئيس جديد يمتلك شرعية شعبية هي الأقوى والأنظف في تاريخ الانتخابات الرئاسية اليمنية.
يبدو أن أمام صالح عدد من الخيارات أبرزها:
- محاولة السيطرة على الرئيس الجديد والتأثير على قراراته بما يعزز مقولة أن صالح هو رئيس الرئيس، وأن هادي ما هو إلا الحلقة الأضعف في سلسلة المواجهات بين طرفين قويين، ولعل دعوة صالح مؤخراً لعبد ربه للانتقال إلى دار الرئاسة قبل عملية تنصيبه رسمياً تعني إبعاده عن جغرافية تأثير الخصوم وإرجاعه إلى دائرة التأثير الصالحية.
ونجاح هذا الخيار يبدو ضئيلاً أمام رئيس جديد لا يجد ذاته مضطراً للقبول بهذا الدور الهامشي المشين، بل هو في أمس الحاجة ليثبت للشعب الذي اختاره بمحض إرادته وبغالبية فئاته أنه رجل المرحلة والمهمات الصعبة والأقدر على تحمل أثقل المسؤوليات الوطنية في هذه الظروف الدقيقة والغليظة.
- في حال خيبة صالح من عدم إفلاحه في السيطرة على نائب الأمس رئيس اليوم، فقد يلجأ إلى مضايقة هادي وتهديده كالعادة، ولكن لن يقدم على تلك الخطوة قبل محاولة استدراج هادي لتعيين نائباً له من أحد المقربين جداً من صالح (سواء عبدالقادر هلال أو غيره)، وهنا مكمن الخطورة؛ لأن مثل هذا القرار في الوقت الراهن قد يدفع بالخاسرين للحكم باتجاه التفكير باغتيال هادي ورمي التهمة بين يدي الخصوم، وبالتالي استعادة الحكم من خلال نائب الرئيس –كما يظنون هم-
وهنا إذا كان ولا بد من نائب للرئيس فليكن من خارج سلّة المقربين لصالح.
- رغم أنه تخلى عن السلطة مكرهاً لا بطلاً، إلا أنه يعي جيداً مدى استحالة عودته أو أبنائه للحكم مجدداً، وقد يكون فعلاً وصل إلى قناعة شبه أكيدة بأن وجود الرئيس هادي على رأس النظام الحالي هو صمام أمان لليمنيين جميعاً بما فيهم صالح وعائلته، ومن هنا قد يكون صالح صادقاً مع هادي وقانعاً من اللعب بالنار، وقد يعتزل العمل السياسي وربما اليمن بكلها.
وما يعزز هذا الخيار هو خطابه الوداعي للسلطة، بالإضافة إلى بعض الأنباء عن إبرام عهد ثنائي بين صالح وهادي -قبيل التوقيع على المبادرة الخليجية- بتبادل الوفاء بينهما وعدم خيانة كل طرف للآخر، وهذا غير مستبعد بالنسبة لصالح الذي سبق وأن أبرم عدة عهود وأيمان مغلظة مع شخصيات سياسية وقبلية وأبرزها الرئيس الأسبق علي سالم البيض.
ختاماً:
نتمنى أن يكون كلاً من الرئيس السابق والرئيس الجديد استوعبا جيداً رسالة الشعب اليمني التي استغرقت صياغتها أكثر من عام كامل ولا زالت قيد الكتابة حتى تفي الغرض منها. فهل فهما معنى هذا الاحتشاد الشعبي إزاء الرئيس الجديد؟ وهل قرأ كلاً منهما دلالة اندفاع أبناء منطقته سنحان لاختيار رئيس جديد؟! وهل أدركا أن القيادة الناجحة للشعب لا تعني رفع الصور في الشوارع العامة والخاصة.. أو إضاءة في صحيفة رسمية.. ولا تعني أعلى رتبة عسكرية في الجيش؟ وإن حبل المراوغة والكذب والحكم بالأزمات قصير حتى وإن استمر (33) عاماً؟!!
كما نأمل من جميع القوى السياسية النأي كثيراً عن كافة الأخطاء التي كان يمارسها النظام السابق والتي استمرأوها واعتادوا عليها طيلة ثلاثة عقود من الزمن، وأن يمتلكوا من الأخلاق ما يكفي للتخلص من لغة التخوين للآخر وعبارات الإقصاء والتهميش والرمي الجزافي بالتهم المعلبة لكل من يخالفهم. والتي أطلت بقرونها من جديد في مهاجمتهم الاستباقية لجماعة الحوثيين والحراك الجنوبي؛ فمثل هذه اللغة لن تخدم الحوار الوطني المنتظر، وعلى معارضة الأمس أن تتذكر جيداً أن هذا ما كانت تشكو منه بالأمس فلا تنجر اليوم إلى تكرار الخطأ لأنه عين العيب وغين الغباء.
(بااااي) صالح (هااااي) هادي
اخبار الساعة - عبدالله مصلح
المصدر : صحيفة اليقين