على مساربِ المدخلِ لقاعةِ الاحتفالِ وقفَ هناكَ مبتسِمًا مؤهِّلاً، يستقبلُ ويعصرُ ويوزّعُ عصيرَ البرتقالِ للوفودِ القادمةِ للاحتفال، وكخليّةِ النّحل تلقّفتْ هذه الوفودَ حفاوةُ سرّيّةِ الكشّافِ الأورثوذكسيّةِ المؤازرةُ على الدّوامِ لاحتفالاتِ الكروان، وكان انتظارٌ وكان حفلُ اِحكيلي لجوقة الكروان؛ العرضُ الغنائيُّ المسرحيُّ في شهرِ حزيران الماضي.
لكن؛ ما لفتَ انتباهي أنّ العرضَ انتهى، وأنّ العديدَ مِن الحضورِ بقوْا جالسين، كأنّما عيونُهم المشدودةُ للمسرحِ لا زالتْ تترقّبُ المزيدَ بتعطّشٍ ذوّاق، فحلّقتْ بينَ العيونِ والألسنةِ نظراتٌ مشدوهةٌ وكلماتُ إطراءٍ وإعجاب، وحينَ التقيتُ زملائي مِن شعراءَ وأدباء في هذا الحفل الرّاقي، تهافتتْ كلماتٌ بردًا على أذني وروحي؛ يا الله.. روعة.. رهيب.. مستوى راقٍ.. هل هناك فنٌّ بهذا البلد بهذا المستوى ولا يأخذ حقّه.. إذًا؛ فلنرسلْ بانطباعاتِنا حزمةَ عطرٍ مكتوبةً لجوقةِ الكروان. وهذا ما كان:
كتبَ الشّاعرُ نزيه حسون/ شفاعمرو: ساعةً ونصف مِن الإبداعِ والأصالةِ لجوقةِ الكروان، ولفيفٌ مِن زملائي الأدباءِ والشّعراءِ التقينا بعدَ انتهاءِ العرض "اِحكيلي" لجوقةِ الكروان، وبريقُ بهجةٍ يلوحُ في ابتساماتٍ مغموسةٍ بالانتشاءِ، وقد أبهرَها حين كانتْ أنسامُ البحرِ البليلةِ تداعبُ سفوحَ الكرملِ غربًا، كانَ الكرملُ يُصغي بخشوعٍ وابتهالٍ لجوقةِ الكروان الغنائيّةِ في عرضِها "احكيلي"، الّتي انسابتْ أنغامُها الآسرةُ عندَ تخومِ الكرملِ شرقًا، في أمسيةٍ إبداعيّةٍ غنائيّةٍ تراثيّةٍ فريدةٍ ومميّزة، استحوذتْ على مسامعِ وقلوبِ الحاضرين!
التأمَ في تلكَ اللّيلةِ ما يربو على الألف شخص، تقاطبوا مِن مختلفِ أنحاءِ البلادِ إلى تلكَ القاعةِ الرّاقيةِ والمتوفّر فيها كلّ الوسائلِ التّقنيّة، والتي نفتقدُها في وسطِنا العربيّ لأمسيّةٍ غنائيّةٍ كهذه، والّتي تقعُ في قريةِ "الياجور" الرّاقدةِ على تخومِ الكرمل. أكثرَ مِن ألفِ شخصٍ حضروا ليصغوا إلى جوقةِ الكروان العبلّينيّة، بقيادةِ المايسترو نبيه عوّاد، الّتي أسهمتْ إسهامًا نوعيًّا في إثراءِ المشهدِ الفنّيّ في البلاد، وأخذتْ مكانَها على خريطةِ الغناءِ والموسيقا، ولعلَّ تلكَ الأمسيةَ الرّائعةَ اِحكيلي، والّتي شاءَ لي قدري الجميلُ أن أحضرَها، ذكّرتْني أوّلَ ما ذكّرتْني بمقولةٍ عميقةٍ وعظيمةٍ قالَها ذاتَ يومٍ الفليسوفُ الألمانيُّ المشهورُ فردريك نيتشه بما معناه، أنّ الحياةَ بدون موسيقا إنْ هي إلاّ خطأ. وقد تيقّنتُ في تلكَ اللّيلةِ مِن صحّةِ تلكَ الجملةِ، وتيّقنتُ أنّ مَن لم يحضرْ تلكَ الأمسيةِ الرّاقيةِ قد أخطأ.
جوقةُ الكروان الغنائيّةُ تتفرّدُ بنكهتِها الخاصّةِ وطابعِها المتفرّدِ، والّذي أمسى بمثابةِ الهُويّةِ الّتي تميّزُ أداءَها الملتزمَ وأغانيها الطّربيّةَ العذبة، في هذه الأمسيةِ سيطرَ عليها طابعُ الرّحابنةِ والفيروزيّاتِ القديمةِ، بكلِّ ما تمُتُّ بعمقٍ إلى الأصالةِ والتّراثِ، وبكلِّ ما تثيرُ في النّفسِ والرّوحِ مِن عبقِ الطّربِ الأصيل، الّذي تركَ بصماتِهِ العميقةَ، وما زالَ إلى الآن في وجدانِ وذائقةِ الإنسانِ العربيِّ مِنَ المحيطِ إلى الخليج. وفي خضمِّ موجةِ الأغاني الرّخيصةِ الّتي تصفعُنا بها القنواتُ المختلفةُ كلَّ يوم، والّتي تعتمدُ على الجسدِ والصّورةِ أكثرَ ممّا تعتمدُ على الصّوتِ والإبداع، يظلُّ يعترينا شوقٌ جارفٌ وحنينٌ لا يعتريهِ ذبولٌ لتلكَ الفيروزيّاتِ الخالدةِ والألحانِ الرّاقيةِ، الّتي تُلامسُ مخملَ القلبِ ومسامعَ الرّوحِ قبلَ أن تلامسَ طبلةَ الأذن، ولهذا جاءَ اختيارُ جوقةِ الكروان لهذا اللّون الرّاقي مِنَ الغناءِ الكلاسيكيّ، ليَسدَّ ظمأ الوجدانِ الشّعبيِّ، وليرقى بنا إلى مستوياتٍ موسيقيّةٍ ساميةٍ تتجاوزُ حركاتِ الجسدِ والفيديو كليب، الّذي باتَ يشوّهُ المشهدَ الموسيقيِّ إلى حدٍّ بعيدٍ في هذا العصر.
أكثرَ مِن ساعةٍ ونصف السّاعة، جلسَ ما يتجاوزُ الألفَ شخصٍ مِن شعراءَ وأدباءَ ومثقّفين ومِن مختلفِ الأطيافِ الشّعبيّةِ، يُشَنَّفون أذانَهم وبهدوءٍ مطلق، وشوقٌ يصلُ حدَّ الانبهارِ بتلكَ الأغاني العذبةِ، الّتي انهمرتْ في تلكَ الأمسيةِ على قلوبِ الحضورِ، كانهمارِ النّدى والنّورِ على أوراقِ الورد، وهذا يُجسّدُ بحدِّ ذاتِهِ ويؤكّدُ تأكيدًا مطلقًا، على أنّ جماهيرَنا متعطّشةٌ إلى الطّرب الأصيلِ والغناءِ الرّاقي، وانَّ هذا النوعَ مِنَ الغناءِ هو الأرقى والأسمى والأبقى، وإلى مثلِهِ نرنو دائمًا وأبدًا. ولعلَّ أكثرَ ما شدَّ انبهارَ الحاضرين، هو ذلك الانسجامُ الموسيقيُّ والهرمونيُّ بينَ الغناءِ الفيروزيِّ الأصيلِ، وتلكَ الفقراتِ الأدبيّةِ التّراثيّةِ الّتي تخلّلتْ العَرض، لتزيدَهُ بهاءً وإبداعًا ورواءً، وتضيفُ لهُ ذلكَ البُعدَ التّراثيَّ والانتمائيَّ العميق، الأمر الّذي كانَ لهُ وقعٌ جميلٌ على نفوسِ الحاضرين، وقد كانَ للحديثِ عن يافا بكلِّ ما تحملُهُ يافا مِن معانٍ وتداعياتٍ في الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ أثرًا بالغًا في نفوسِ الجمهور، الّذي أصغى وانتشى وصفّقَ بحرارةٍ، وما أروعهنَّ تلك الفتياتِ الصّغيرات اللّواتي وزَّعْنَ حبّاتِ البرتقالِ اليافاوي على الجمهور، ليُضفنَ بذلك عمقًا ورواءً وجمالاً لتلكَ الأمسيةِ الموسيقيّةِ المخمليّة. نعم، لجوقةِ الكروان الغنائيّةِ رصيدٌ كبيرٌ في الغناءِ والموسيقاعلى السّاحةِ المَحلّيّةِ، وهي بهذه الأمسية اِحكيلي، إنّما تزيدُ هذا الرّصيدَ وترتقي إلى مستوياتٍ أرفعَ ومواقعَ أرقى، ونحنُ نصفّقُ لها بقلوبِنا قبلَ أيادينا، ونطلبُ مِن كلِّ المؤسّساتِ الثّقافيّةِ دعْمَ هذهِ الجوقةِ وكلَّ الفِرقِ الموسيقيّةِ والفنّيّة والمسرحيّةِ، الّتي ترقى بجماهيرِنا إلى مستوياتٍ راقيةٍ ورفيعةٍ إبداعًا وموسيقا.
وطرّزَ د. صالح سليم حضورَهُ بهذهِ الكلمات:
كم كنتُ متعطّشًا لمشاهدةِ جوقةِ الكروان ابنة عبلّين الوديعةَ والغنيّةَ عن التّعريفِ بجميع أعضائِها، وعندَ دخولي قاعةَ الأودوتوريوم ذُهلتُ مِن حضورِ هذهِ الجماهيرِ الغفيرةِ جالسةً بترقّبٍ، بانتظارِ ظهورِ جوقةِ الكروان على خشبةِ المسرح بأزيائِها الجذّابةِ الخلاّبة، وقد غرَستْ في قلوبِ المشاهدين أصواتَها وألحانَها الفيروزيّة، ونمّتِ الغبطةَ والفرَحَ في النّفوس، فرقصتِ الرّوحُ على شذاها، ونظرُكَ يطوفُ بكَ بينَ أعضائِها وقائدِها تارةً، وتارةً بينَ أعضاءِ الفرقةِ الموسيقيّةِ والممثّلين، فتتمتّعُ بشعورٍ عذبٍ بالعملِ المتناسقِ لهذهِ الكوادرِ الفنّيّةِ سويّة وعلى أعلى المستوياتِ، وتتلاحقُ أضواءُ المسرحِ بأطيافِ ألوانِها متراقصةً على الأصواتِ الكروانيّةِ.
اِحكيلي! هذا العملُ الفنّيُّ إن دلّ، فهو يدلُّ على عملٍ قيّمٍ لهُ حضورٌ ترتعشُ لهُ الأبدانُ إجلالاً واحترامًا، ناهيكَ عن اللّوحةِ الفنّيّةِ الكبيرةِ كخلفيّةٍ تحضنُ الكروانَ بحنانٍ وبوطنيّةٍ جارفةٍ، وبذكرياتٍ وماضٍ حافلٍ، إذا عبّرتْ فهيَ تُعبّرُ عن تعانقِ الصّليبِ والهلالِ، المسجدِ والكنيسةِ، تعانقُ الوطنَ بأسرِهِ، هذا الوطنُ الّذي يَسري في عروقِنا مِن جيلٍ لجيل، بعاداتِهِ وتقاليدِهِ، بجَمالِهِ ومآسيهِ، بحاضرِهِ وماضيهِ الّذي دائما يُنادينا ويحنُّ إلينا، ويوصينا بألاّ نتركَهُ ونفقدَهُ أو نبدّلَهُ بوطن.
"اِحكيلي" هذا العرضُ الغنائيُّ المسرحيُّ بممثّليهِ وأحداثِهِ الوامضةِ المتواضعةِ التي أضفتْ للكروان رونقًا فنّيًّا آخر، أيقظتْ فينا روحَ الوطنيّة، ويافا الرّمزُ بصمودِها أمامَ الأمواج العاتيةِ وخلودِ أجدادِنا وشجاعةِ أبطالِها، فكنتَ تعيشُ للحظاتٍ الحاضرَ وأخرى الماضيَ، وترتعدُ مِن مستقبلٍ مجهولٍ يدوسُ على القيمِ والأخلاقِ بلا رأفةٍ أو رحمةٍ، لذا من واجبي الاجتماعيِّ والوطنيِّ، أن أوجّهَ ندائي إلى جيل المستقبلِ وأوصيهِ أن لا ينسى يومًا هذا الوطنَ الحبيبَ بعاداتِهِ الحميدةِ، كي لا يحزنَ الوطنُ كحزنِ أمٍّ فقدتْ أبناءَها، ولأنّنا نشعرُ بتعطّشٍ كبيرٍ لهذهِ الأعمالِ الفنّيّةِ الرّاقيةِ، وبنقصٍ أكبرَ في الكوادرِ المسرحيّةِ، لذا نُحيّي هذهِ الجهودَ الفرديّةَ بأبطالِها، ونقدّمُ لهم جزيل الشّكرِ والاحترامِ والدّعمَ المعنويَّ والماديّ، لكي يتواصلوا في عطائِهم بلا حدودٍ، فالكروانُ والفنُّ بأسرِهِ في بلادِنا بحاجةٍ إلى جمهورِهِ الذّواقِ الدّاعم، ليشدوَ بصوتِهِ عاليًا ويصدحَ ليصلَ إلى جميع القلوب.
والشّاعرةُ هيام مصطفى قبلان/ الكرمل أضافتْ قائلةً: ليستِ المرّة الأولى الّتي أُدعى فيها لمشاهدةِ عرضٍ مِن عروضِ جوقةِ الكروان الغنائيّة، والّتي دوّى صوتُها عاليًا في معظم القرى والمدنِ الفلسطينيّةِ، بهذهِ الأصواتِ النّابضةِ والّتي تنادي للحياة والسّلام والمحبّة، أصواتٌ متمكّنة صدّاحةٌ بقيادةِ الفنان المايسترو نبيه عوّاد ابن عبلين.
وسطَ حشدٍ كبيرٍ مِن جمهورٍ متذوّقٍ للفنّ الرّفيع كانَ عرضُ الكروان، وهذه المرّة بالذات كانَ مميّزًا ومغايرًا، اعتبرَهُ العديدُ مِن الحاضرينَ إنجازًا كبيرًا بعرضِ العملِ المسرحيِّ اِحكيلي، فجوقةُ الكروان والّتي أصبحَ اسمُها يتردّدُ بينَ النّاس وفي الأوساطِ الفنّيّة، تخطّتْ بإبداعِها الحدودَ لتصلَ إلى دولٍ أجنبيّةٍ مختلفةٍ خارجَ الوطن، وهذا العرضُ المسرحيُّ الغنائيُّ "اِحكيلي" تميّز بالمزجِ بينَ أصواتٍ وحضورٍ لشبابٍ وشابّاتٍ مِن مختلف القرى والمدن العربيّة، وبتجديدِ عهدِنا كشعبٍ بالهُويّةِ والتّراث، "كذاكرةٍ جماعيّةٍ" لفلسطينيّي عرب ال 48، حيثُ أنّ المَشاهدَ (الكلاشيهات) الّتي عرضَها الممثّلونَ على المسرح تألّقتْ بإتقانِ الأدوار على أكمل وجهٍ: إبراهيم قدّورة، رنين الشّاعر، ونس أبو شحادة وبديعة سليم، فقامَ إبراهيم قدّورة بدور الشّيخ أبو سمعان بائع البرتقال من ضواحي يافا، ليس فقط أداءً إنّما كان له حضورٌ مسرحيٌّ كاملٌ برسالتِهِ الهادفة، والّتي مِن خلال سردِ الماضي أعادَنا إلى أيّام زمان، الى القرى المهجّرة، الى الأراضي المصادَرة، وإلى الحياةِ البسيطةِ في القريةِ، إلى رائحةِ الأرض الممزوجةِ بالطّينِ وبعرقِ الكادحين، إلى ذاكرةِ المكانِ الّتي كانَ مِنَ الممكن أن تتهاوى في ظلِّ الصّراعِ السّياسيّ، من أجلِ الأرضِ والوطنِ والقضيّةِ الفلسطينيّة، وإن تحدّثنا عن القضيّةِ، فالقضيّةُ هي الهُويّةُ والجذورُ، التّراثُ والتّاريخ.
"اِحكيلي" من تأليف الشاعر زهير دعيم ابن عبلين، مقتطفاتٌ (لقطات) من الماضي البعيدِ، بحوارٍ ماتعٍ بينَ الجيلِ القديم والجديدِ، لتبقى جذورُ الإنسان العربيِّ الفلسطينيِّ في ذاكرةِ جيلِ الشّبابِ وإلى أجيالٍ لاحقة. أدهشني الإخراجُ للمخرج "أحمد دخان" الشّابّ الطّموح بلمساتِهِ الإبداعيّةِ، مِن استحضارِ الأماكنِ في قضاءِ يافا للقرى المهجّرةِ، وبديكورٍ مسرحيٍّ رائعٍ وأضواء ورسوماتٍ على الجدران عن القريةِ وبئر الماء والحارات. جوقةُ الكروان أبدعتْ بروائعِ الرّحابنة وبأغاني فيروز ونصري شمس الدّين، بالإضافةِ إلى الموشّحاتِ والطّربِ الأصيل، وبقيادةِ الفنّان المايسترو نبيه عوّاد، أمّا مقدّم الأمسية فكتور روحانا فقد أتى مِن جبل الكرمل، فأضافَ للأمسيةِ تألّقًا بصوتِهِ العذبِ مِن إلقاءِ الشّعرِ بينَ الفقراتِ مِن نصوصٍ نثريّةٍ ومقاطعَ شعريّةٍ، عزّزتْ بنفسِ المُشاهدِ أهمّيّةَ استحضارِ هذا الموروثِ الحضاريِّ بالموسيقا والغناءِ والتّمثيل، وسطَ تصفيقِ الجمهورِ المشجّعِ مِن أدباءَ وشعراءَ وفنّانينَ ومِن مُحبّي الكروان، وهذا النّمط في أداءِ العملِ وإخراجِهِ الفنّيّ البديع. وباعتقادي، أنّنا بالفنّ نخلّدُ تاريخَنا وحضارتَنا ونحمي ذاكرتَنا مِنَ الضّياع، فشعبٌ بدون فنٍّ وثقافةٍ وحضارةٍ سيدوسُه التّاريخ، وجدرانُهُ آيلةٌ للسّقوطِ، وكم نحن بحاجةٍ لمثلِ هذهِ الكوادرِ الشّابّةِ الواعيةِ والمفكّرة، لتؤرّخَ بطولاتِ وصمودَ وأحداثَ وآلامَ وفرحَ شعبِنا، وبانتظارِ أعمالٍ قادمةٍ لجوقة الكروان.. تحيّاتي وبكلّ شوق أترقّب..!
وجاءتْ كلمةُ الأديبِ محمّد علي سعيد- طمره/ رئيس تحرير مجلّة الشّرق:
بدايةً، أشكرُ زميلتي الشاّعرةَ آمال عوّاد رضوان على دعوتِها لي لمشاهدةِ هذا الإنجازِ الرّائع لجوقةِ الكروان، فعلى مدى ساعةٍ ونصف، تابعتُ بمتعةٍ ودهشةٍ وإعجابٍ العرضَ الغنائيَّ المسرحيَّ الرّاقي "ِحكيلي" لجوقة "الكروان" الرّائعة والهادفة. عرضٌ استنفرَ فيَّ المشاعرَ والذّهنَ والحواسَّ لجودتِهِ في مجملِ عناصرِهِ الّتي تجلّتْ في تناسقِها، ابتداءً بكلمةِ الافتتاحِ والتّرحيبِ للأستاذ فكتور روحانا، وانتهاءً بالمشهدِ الأخير، ومرورًا باختيارِ الأغنياتِ والأصواتِ النّقيّةِ لأعضاءِ الجوقة، والقيادةِ الفذّة، والإخراج وتناسقِ الأداءِ والحركاتِ والتّمثيلِ، وخاصّةً في الحوارِ الّذي وصلَ بينَ ماضي الأجدادِ وحاضرِ الأحفاد، في رسالةٍ وطنيّةٍ هادفةٍ مِن خلالِ مقارنةٍ ذكيّةٍ وخفيفة دم.
"اِحكيلي" عرضٌ غنائيٌّ مسرحيٌّ، يرتفعُ بالمُشاهدِ لهُ إلى درجةِ المشاركة بتفاعل مشاعرِهِ، تركيزِ ذهنِهِ وانشدادِ حواسِّهِ، ليعيشَ إحساسًا فيهِ نشوةٌ متوهّجةٌ، ومثل هذهِ المشاركة تحرّرُهُ مِن مكانِ جلوسِهِ الماديِّ على الكرسيِّ وهدوئِهِ الظاهريِّ، وتأخذُهُ في رحلةِ حلمٍ عميقةٍ في أبعادِها الزّمانيّةِ والمكانيّةِ والنّفسيّةِ، رحلة توفّرُ لهُ مرآتَهُ الشّخصيّةَ مِن خلالِ تداعياتِ الدّلالاتِ الموسيقيّةِ والبصريّةِ والذّهنيّةِ، يتأثّرُ بهذهِ الدّلالاتِ ويختارُ ما يناسبُهُ مِنَ احتمالاتٍ، فتعلو روحُهُ وتتهذّبُ أخلاقُهُ وتتعزّزُ قِيَمُهُ الإنسانيّة، ويتغيّرُ سلوكُهُ نحوَ الأفضلِ والأجمل، وبهذا تُحقّقُ جوقة الكروان أهدافَها وتساهمُ في بناءِ مجتمعٍ حضاريٍّ.
* أقترحُ أن تكونَ الأسماءُ لها دلالاتٌ وطنيّةٌ شاملة: أبو الخير، أو أبو صابر.. وللفتاةِ اسمُ يافا وللشّابّ اسمُ عائد. لأنّه بدون مجاملةٍ، "اِحكيلي" إنجازٌ حضاريٌّ جادٌّ وجيّدٌ وهادفٌ لجوقةِ الكروان، تستحقُّ كلَّ تقديرٍ وتشجيعٍ ودعمٍ مادّيٍّ ومعنويٍّ، وبأمثالِ هذهِ الجوقةِ نعتزُّ ونفتخر، فتحيّاتي للجميع وجزاكم الله كلَّ الخير وبارك في خطاكم، وإلى المزيد من هذا العطاء المفيد. وإلى اللقاء مع إنجازٍ جديد.
أمّا د. بطرس دلّة فقال: "اِحكيلي" من تأليفِ الأديب زهير دعيم من عبلين، هي عملٌ كبيرٌ نفّذتْهُ جوقةُ الكروان العبلينيّة بقيادةِ المايسترو نبيه عوّاد، وجوقةُ الكروان الّتي تضمُّ في تركيبتِها عددًا كبيرًا مِنَ الفتيانِ والفتياتِ، الفنّانينَ والفنّانات، ليستْ جديدةً على المسرحِ الغنائيِّ، فقد شاهدناها مع فرقٍ أجنبيّةٍ وعربيّةٍ محلّيّة بقيادةِ الفنّان نبيه عوّاد ابن عبلين أيضًا، ولكنّها في هذا العملِ الجديدِ أظهرتْ أنّ لدى أعضائِها وإدارتِها طاقاتٍ كبيرةً لم تُستنفذْ بعْد، فجاءَ هذا العملُ الكبيرُ مفاجئًا لجمهورِ عشّاقِ جوقة الكروان، لذلكَ المزجِ بينَ الغناءِ والتّمثيلِ واختيارِ الأغاني الفيروزيّةِ الرّائعة، إلى جانبِ التّمثيلِ الّذي لا تصَنُّعَ فيه، جاءَ مفاجئًا وبمستوًى غنيٍّ رائعٍ، والحقيقةُ الّتي لا يمكنُ نسيانَها، في أنّ نهايةَ العمل كانتْ مفاجِئة أيضًا، كما لو كانت المسرحيّةُ لم تنتهِ بعْد، فقد نقلَنا الممثّلونَ والمغنّونَ المنشدونَ إلى أجواءِ الحنين، إلى يافا وبساتين البرتقالِ اليافاويّ وعاداتِ أهل يافا القديمة في مختلفِ نواحي الحياة، كلُّ ذلك جعلَنا نعيشُ أجواءَ يافا القديمة، ولكنّنا لمْ نرتوِ، فقد داخلَنا اعتقادٌ بأنّ هناكَ فصلاً آخرَ لاحقًا سيُتمّمُ المسرحيّة!
الأسلوبُ يثيرُ في نفسِ المُشاهدِ والقارئِ لواعجَ الشّوقِ إلى تراثِنا الشّعبيّ، كذلكَ لفتَ انتباهَنا ذلكَ النّصُّ الأدبيُّ الرّاقي مع ما فيهِ مِن خفّة ظلٍّ امتازتْ بها، إلى جانبِ تمثيلِ ذلكَ الشّيخ المُسنِّ أبي سمعان، مِن خلال استعادةِ الذّكرياتِ بشيءٍ مِنَ المبالغةِ المُحبّبةِ، حيثُ استحضرَ الماضيَ بأدواتٍ بسيطةٍ على المسرح، ككيسِ البرتقالِ اليافاويّ الّذي كانَ يحملُهُ على ظهرِهِ، كلّما ظهرَ على المسرح معَ تلكَ الصّبيّةِ الجميلةِ الّتي أحبّها الجمهورُ الغفير، الّذي حضرَ العرضَ وصفّقَ لها وللشّيخ أبي سمعان طويلاً، فحديثُ الشّيخ مع هذهِ الممثّلةِ الشّابّةِ أثارَ الكثيرَ مِنَ الحنين، النوستالجيا عن عاداتِ وتقاليدِ أهالي يافا القديمة، كلُّ ذلكَ وَرَدَ بذوقٍ رفيعٍ بمصاحبةِ الأغاني والألحانِ الفيروزيّة، الّتي كانتْ تُنعشُ الرّوحَ وتُثيرُ اللّوعةَ على واقع يافا الحزينة اليوم، وعلى بيّاراتِ اليافاوي الكئيبة، وعلى بيسانَ وشوارعِ القدس الحزينة.
لقد حقّقتْ جوقةُ الكروان نجاحًا كبيرًا في هذا العرضِ الغنائيِّ الموسيقيِّ، حيثُ انتقى المايسترو نبيه عوّاد أجملَ الأغاني الفيروزيّة، الّتي جعلتِ الجمهورَ يُصفّقُ للجوقةِ مرارًا وهي تنشدُ أذكر يومًا كنتُ بيافا وغيرِها ممّا يثلجُ الصّدر، والحقيقةُ هي أنّنا اعتدْنا في السّنواتِ الماضيةِ على حفلاتٍ موسيقيّةٍ لجوقةِ الكروان والمُنشدين، إلاّ أنّ الدّمجَ بينَ الأغاني الفيروزيّةِ والألحانِ الرّحبانيّة إلى جانبِ النّصّ، كلُّ ذلكَ جعلَ لهذا العرضِ نكهةً خاصّةً ومتعةً ما بعدَها متعة، وبذلك تكونُ جوقةُ الكروان قد حقّقتْ قفزةً نوعيّةً في عالم الغناءِ، على الرّغم مِن كونِ الأغاني كلّها قديمة، والتّجديدُ هنا كانَ في إدخالِ الأغاني الموفّقِ مع النّصّ الأدبيّ في "اِحكيلي". إنّ هذا النّجاحَ الّذي حقّقتْهُ جوقةُ الكروان يعودُ إلى المايسترو نبيه عوّاد والمؤلّف والمخرج والممثّلين وجميع المنشدين والمنشدات ومقدّم الحفل، فتحيّاتنا لجوقة الكروان، وعلى أمل أن تتحفَنا بأعمالٍ جديدةٍ في القريب العاجل، فقد كانتْ حقًّا سهرةً مِن أجمل ليالي سهراتِ العُمر.
وناظم حسون اختتمَ اللقاءَ قائلاً/ في أمسيةٍ نديّةٍ تعانقتْ بها الكلمةُ الجميلةُ باللّحنِ المُنسابِ رقّةً وعذوبةً، وفي أجواءٍ مِن الحميميّةِ والانفعالِ بأودوتوريوم ياجور، وعلى أنقاضِ قريةٍ مهجّرةٍ على سفوحِ الكرملِ الأشمّ!
"اِحكيلي" عملٌ باهرٌ من عبق الماضي، فقد ترَفَّلَت بالمكانِ روائحُ طيبِ شجرِ الخرّوبِ والصّنوبرِ والسّنديان، ليمتلئَ الحضورُ حياةً وحرارةً وعاطفةً، ويعودَ إلى مساراتِ الحلمِ والطّفولةِ والذّكريات، وكلِّ ما سكنَ القلبَ مِن وجدانيّاتٍ نبَضَ بهِ خافقُهُ. وجوقةُ الكروان بصوتِها الأصيل الملتزم، وبلباسِها الفلسطينيِّ المزركش أعادتْنا إلى يافا وبرتقالِها، إلى أزقّتِها وطقوسِ حياتِها، لترقصَ مداخلُ القلبِ طربًا وفرحًا لعرضٍ أسَرَ القلوبَ وبنمطٍ خاصٍّ للمخرج أحمد دخان، بفانتازيا تراثيّةٍ مشْبعَةٍ بالأصالةِ الفلسطينيّةِ على أضواءِ السّراجِ والقنديل، وعلى خلفيّةِ المَحبّةِ بينَ الأديان، ممّا هيّجَ العواطفَ وأثارَ الحِميَةَ لحنينِ الذّاكرةِ ونسْغِ الخرّوب والسّنديان، لإعادةِ إحياءِ موروثِنا "النّوستالجيا"، الّذي أيقظَ سحناتٍ خامدةً في سديمِ فراغِ غيابِ الهُويّةِ وانصهارِها. وكأغرودةِ الكروان في اللّيلةِ القمراءِ انبثقتِ الأغاني الفيروزيّةُ والموشّحاتُ الأندلسيّةَ مِن حناجرِ جوقةِ "الكروان" المتميّزة، في قاعةٍ مكتظّةٍ بالحضورِ الّذي توافدَ بحشودِهِ مِنَ الجليلِ والكرمل، ليعيشَ زخَمَ الإحساسِ الدّافقِ والمشاعرَ الفيّاضةَ، في جلال اللحظاتِ لغنائيّاتٍ عذبةٍ رقراقةٍ وصافيةٍ، أسَرَت الرّوحَ وملأتِ القلبَ نشوةً، وبثّت الخدَر بالأوصالِ ودخلتِ القلوبَ كدخولِ الملائكة.
"الكروان" بقيادةِ المايسترو نبيه عوّاد مِن أكثرِ الجوقاتِ المحلّيّةِ شهرةً وحضورًا، وللخروجِ مِن عباءةِ الرّوتين جاءَ هذا العملُ الكبير، الّذي احتضنَهُ الحضورُ بزهوةِ "اِحكيلي"، بأداءٍ مميّز للعازفينَ والمنشِدينَ والممثّلين وللنّصّ والإخراج، ليتوّجَ أعمالَ هذه الجوقة الّتي تحملُ نفسًا وطنيًّا، وتهتمُّ بالموروثِ الشّعبيِّ والفولكلوريِّ الفلسطينيِّ الأصيل.