الدولة المصرية الجديدة، هل هي مهددة بنموذج دولة المرشد الإيرانية؟
في حال فزتَ في الانتخابات، كيف ستكون علاقتك بالمرشد العام للإخوان المسلمين: ألا تعتقد معي أنها ستكون شبيهة بعلاقة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مع المرشد آية الله علي خامنائي؟ هذا هو أحد الأسئلة الرئيسية التي يتعين على مرشح الرئاسة المصري حمدين صباحي طرحها على منافسه عبدالمنعم أبو الفتوح، في مناظرة الخميس القادم.
الجدل حول مستقبل الرئاسة في مصر مستمر في التصاعد، في سياق حمى السباق الانتخابي الذي يشهده أكبر بلد عربي، حيث شهدنا أول مناظرة حية في تاريخ المنطقة بين مرشحين رئاسيين، تطرقت لجملة القضايا المثارة في الشارع المصري، الخميس الماضي، وهي قضايا تتمحور حول إعادة بناء الدولة المصرية الجديدة بكل ما يمثله ذلك من إعادة توزيع وتنظيم سلطات الدولة على مؤسسات البلد، وإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمواطنين. لكن هذا الجدل يبدو كما لو أنه لم يلتفت بعد إلى -أو بالأحرى لم يركز كما ينبغي على- واحد من أخطر الأسئلة التي يبدو أن مصر تواجهها اليوم: إلى أي مدى تبدو الرئاسة المصرية مهددة بنموذج الرئاسة الإيراني؟
ما من شك أن الفوارق بين مصر وإيران تبقى عديدة وكبيرة، ومن بينها الفارق بين نظاميهما السياسيين. فالنظام السياسي المصري رئاسي، حيث يمثل رئيس الجمهورية قمة هرم السلطة في الدولة المصرية، بخلاف النظام السياسي الإيراني الذي بالرغم من أنه رئاسي أيضا، إلا أن رئيس الجمهورية لا يمثل أعلى سلطة في الدولة. فالمرشد آية الله يمثل السلطة الأعلى فوق رئيس الجمهورية والدولة الإيرانية ككل، وهي سلطة دينية غير ديمقراطية لا تخضع لأية سلطة شعبية بأية صورة من الصور: لا يخضع المرشد لاختيار الشعب أو مؤسسات الدولة، ولا لمراقبة أو محاسبة من أحد، إنه يستمد سلطاته من السماء وليس من الشعب.
هنا تكمن معضلة الدولة في إيران، حيث تحكم مرجعية دينية غير بشرية (لا تخضع لإرادة الناس أو محاسبتهم) قبضتها بشدة على خناق الدولة الحديثة والمجتمع في ذلك البلد المتقدم والعريق في حضارته، وتمثل السلطة الأعلى التي تقف فوق الدولة. وقد كان هذا النظام ثمرة الثورة الشعبية التي شاركت فيها مختلف فئات الشعب الإيراني وأطيافه السياسية، وأطاحت بنظام الشاه عام 1979، لينقلب الإسلاميون بقيادة آية الله الخميني لاحقا على شركائهم في الثورة، ويستحوذوا على السلطة حتى يومنا هذا.
النظام المصري الجديد الذي يجري إعادة صياغته اليوم، هو الآخر سيكون ثمرة ثورة شعبية شاركت فيها مختلف فئات الشعب المصري وأطيافه السياسية من إسلاميين ويساريين وقوميين ومستقلين وغيرهم. هناك فوارق كثيرة بين ثورتي 1979 الإيرانية و2011 المصرية، لا تبدأ بالفوارق بين البلدين نفسيهما، ولا تنتهي بالفوارق بين ظروف الثورتين وزمنيهما، هذا مؤكد. ورغم أن الجدل الدائر اليوم حول شكل النظام المصري بعد ثورة 25 يناير، والذي يتمحور حول ضرورة أن يلبي شروط ومعايير الأنظمة الديمقراطية الحديثة، يختلف كثيرا عن الجدل الذي دار حول شكل النظام الإيراني في أعقاب الإطاحة بنظام الشاه، إلا أن الصراع الذي شهدته الثورة المصرية بين مكوناتها لم يختلف عن الصراع الذي شهدته ثورة 1979 الإيرانية، ويمكن أن يقرأ البعض نتيجة الانتخابات البرلمانية المصرية التي استحوذ فيها الإسلاميون على نصيب الأسد، كوجه تشابه آخر بين الثورتين، مع الفارق في وسيلة الاستحواذ: الانتخابات في مصر والقوة في إيران.
تحضرني الآن أهم وأكبر ملاحظة خرجت بها من مؤتمر الصحوة الإسلامية المنعقد في طهران، فبراير الماضي: تركيز المؤتمر على إبراز القواسم المشتركة بين الثورة الإيرانية وثورات الربيع العربي، في سياق توجه رسمي إيراني على أعلى مستويات الدولة هناك. من بوسترات المؤتمر التي حاولت تبيين كم أن ثورات الربيع العربي تشكل امتدادا للثورة الإيرانية، إلى تركيز الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي على هذه النقطة، إلى كلمتي الرئيس أحمدي نجاد والمرشد آية الله علي خامنائي، اللتين أكدتا على الرؤية الإيرانية الرسمية لثورات الربيع العربي: إنها ثورات إسلامية قام بها الإسلاميون فقط، حيث لا وجود لليساريين ولا للقوميين ولا لليبراليين على الإطلاق، بل إن خامنائي لم يذكر في كلمته التي تطرق فيها لثورة 23 يوليو 1952 المصرية، اسم جمال عبدالناصر، وأشار إلى سيد قطب كقائد وصانع لتلك الثورة!
المشاركون في ذلك المؤتمر كانوا من عدة بلدان عربية، وتحديدا من البلدان التي شهدت ثورات ربيع عربي، وأغلبهم ينتمون الى مكونات ثورية يسارية وقومية وليبرالية، ومستقلون وإسلاميون من جماعة الإخوان في عدة بلدان طبعا، ولابد أن الجميع لم يشعروا بوجود شيء اسمه صراع سني -شيعي. فعدا عن الخطاب السياسي الذي يعكس اعترافا إيرانيا رسميا بقوة وحيدة في ثورات الربيع العربي، هي الإخوان المسلمون، كانت صور سيد قطب وحسن البناء وسائر رموز الإخوان تتصدر صالة الاستقبال الرئيسية الخاصة بالمؤتمر.
لم يستوعب أغلب المشاركين اليساريين والقوميين والليبراليين العرب، وربما الإخوانيين أيضا، هذا السلوك الإيراني الذي كان واضحا أنه سياسة رسمية ممنهجة من أعلى مستويات الدولة. لكن الخطاب الرسمي الإيراني بتأكيده الدائم على إسلامية ثورات الربيع العربي، بل و"إخوانيتها" تحديدا، وتشديده على عدم اعتراف طهران بوجود أية قوى يسارية أو قومية أو ليبرالية في الربيع العربي، لم يكن يسعى على الأرجح إلى الاعتراف بحق الإخوان المسلمين في الاستحواذ على ثورات الربيع العربي، قدر ما بدا أنه يسعى إلى تأكيد حق إسلاميي السلطة في طهران في الاستحواذ التاريخي على ثورة 79 والواقع الذي أنتجته. وأكثر من هذا وذاك، كان النظام الإيراني يواجه القوى اليسارية والقومية والليبرالية المعارضة له، والتي كانت قد خرجت في احتجاجات عارمة عام 2009، لم تختلف في الكثير من وجوهها عن ثورات الربيع العربي.
لقد بدا وضحا تماما في خطابها الرسمي أن طهران تتمنى أن يهيمن الإخوان المسلمون على ثورات الربيع العربي في مختلف العواصم التي شهدتها خلال العام الماضي، كما حدث فيها قبل عدة عقود. وقد يكون هناك فارق بين خطاب طهران الرسمي وسير سياستها على أرض الواقع، لكن هناك سؤالا ملحا يطرحه موقفها هذا: إلى مدى يبدو احتمال عودة قصة الثورة الإيرانية في ثورات الربيع العربي قابلا للتصور؟
قد يبدو هذا الاحتمال أبعد ما يكون عن التصور في ظل أمور وحقائق عديدة. لكن هناك وجها واحدا من وجوه النظام السياسي الذي أنتجته الثورة الإيرانية يبقى -في تقديري- مرشحا لإعادة إنتاج نفسه داخل النظام السياسي الذي ستنتجه الثورة المصرية وغيرها من ثورات الربيع العربي: سلطة المرشد الأعلى الدينية باعتبارها سلطة عليا فوق الدولة.
في مناظرة الخميس الماضي بين أقوى مرشحين لرئاسة مصر؛ عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح، طرح الأول على الأخير سؤالا مفاده: أنت أقسمت اليمين على الطاعة والولاء للمرشد (العام للإخوان المسلمين)، وهذا يعني أنك حين سترأس مصر سيكون لك مرجعية، وهذا خطير جدا؟ بإعادة صياغة مضمون هذا السؤال، يصبح هكذا: أنت لن تكون رئيسا وطنيا حقيقيا، وإنما مرؤوسا لرئيس حقيقي آخر لم ينتخبه الشعب المصري هو: المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين.
في تقديري، هذه هي أخطر نقطة استخدمها موسى ضد أبو الفتوح، لكنه لم يركز كثيرا عليها، كما لم يركز مديرو المناظرة ومحاورو المرشحين عليها. فهي تسلط الضوء على عَوَر حقيقي في شرعية أي مرشح لرئاسة مصر من جماعة الإخوان. وفي حال واصل موسى الدق عليها في حملته، يمكنه أن يلحق أذى بالغا بشرعية أبو الفتوح الذي بالرغم من إجابته على السؤال بالإيجاب، وظهوره بمظهر غير المكترث بهذه النقطة، إلا أنه يدرك على الأرجح خطورتها في حال استغلها خصومه بمهارة.
لقد بدا الاثنان دون المستوى على أهمية ما حملته مناظرتهما التي تعد الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة، لكن المتوقع من مناظرة هذا الخميس أكبر، حيث تبدو فرصة المرشح حمدين صباحي أقوى في مواجهة أبو الفتوح، بعد أدائه في أول مناظرة: فأبو الفتوح لن يستطيع أن يستخدم ماضيه النضالي كنقطة تفوق على صباحي الذي يتمتع بتاريخ نضالي أهم، كما لن يستطيع استخدام ماضي صباحي ضده كما فعل مع موسى الذي أمضى عمره السياسي في خدمة نظام مبارك. غير أن من الأوراق المهمة التي ربما يكون بوسع صباحي استخدامها ضد أبو الفتوح، تتمثل في النقطة المتناولة هنا.
إذا فاز عمرو موسى أو حمدين صباحي بالرئاسة، فإنه سيتسلم الموقع الأول في الدولة المصرية، بعد أن يقدم القسم لممثلي الشعب المصري، وكذلك الحال بالنسبة إلى أبو الفتوح أو أي مرشح إخواني آخر. لكن الفارق بين أي مرشح للرئاسة من أي طيف سياسي في مصر، وأي مرشح إخواني ما يزال عضوا في الجماعة، أن الأخير سيعيش نوعا من الفصام الدستوري، الفصام بين قسَمين: قسمه العلني أمام ممثلي الشعب المصري، وقسمه السري بالولاء المطلق للمرشد العام لجماعته. ومن شأن هذا أن يخلع على الرئاسة المصرية وجها إيرانيا بشكل أو بآخر.
من المستبعد تماما أن نشهد في القاهرة ولادة نظام سياسي من رحم ثورة 25 يناير 2011، مشابه للنظام السياسي الذي ولد من رحم ثورة 1979 في طهران، حيث يتمتع المرشد والملالي بسلطة دينية مرجعية عليا فوق الدولة الإيرانية، معترف بها من مؤسسات الدولة ومعلنة. لكن السؤال الملح الذي يواجه مصر اليوم: ما الذي يضمن عدم تشكل سلطة مرجعية دينية عليا غير مسماة فوق الدولة المصرية الجديدة، يمارسها المرشد ومرجعية الجماعة بصورة سرية، في ظل وجود رئيس للجمهورية من الإخوان المسلمين?