توأمة الصدمة والبطش المطلق في العراق الدكتور مهند العزاوي*
توأمة
الصدمة والبطش المطلق في العراق
الدكتور مهند العزاوي*
الصدمة والترويع في الإستراتيجية
الأمريكية
الرعب المؤسساتي والبطش المطلق في
العراق
وصف جورج دبليو بوش في خطابه
الافتتاحي عام 2005 فترة مابين نهاية الحرب الباردة وبداية الحرب على الإرهاب بـ
(أعوام الاستراحة قبل بدء المعركة) ليأتي بعد ذلك يوم أطلاق النار, وقد جسد غزو
العراق بالعودة العنيفة إلى التقنيات القديمة لفتوحات السوق الحرة وباستخدام
الصدمات لإزالة كل الحواجز أمام بناء دول شركاتية؟
شهد
العراق بعد غزوه مختلف المخططات الأجنبية والإقليمية الدموية لمحو كيانه وتقسيمه
عموديا وأفقيا , وكانت ابرز العناصر المستهدفة الشعب –الوطن- الدولة, وقد استخدمت عقيدة"الصدمة
والترويع" الأمريكية بطابعها العسكري والسياسي والاقتصادي والنفسي, وجرى
بالفعل اقتلاع البني التحتية الاجتماعية وتفتيتها إلى هويات فرعية متناسلة , وأضحت
الهوية الطائفية والاثنية عناوين رئيسية بديلة للشعب العراقي وكيانه الاعتباري في
العالم, بغية نهب العراق بشكل منظم من قبل الشركات القابضة التي هندسة الغزو, وباشرت
على الفور باقتلاع الطبقة الوسطى والقدرة الصناعية والزراعية ومقومات التكامل
الجيوبوليتيكي للعراق, وفصل الفكر الوطني عن الجسد العراقي, وجرى ذلك عبر التطهير
الثقافي المنظم, والقتل خارج القانون والتعذيب والتنكيل والعمليات المشوهة التي
تقف خلفها دوائر مخابراتية أجنبية وإقليمية , وبأدوات عراقية مليشياوية وحكومية
موجهة, وقد أرسى دعائم التفكيك السياسي الدستور المأزوم, والعملية السياسية بشكلها
الحالي المبني على الأدوات والمسميات السياسية الوافدة, والتي تتبنى تطبيق عقيدة
"ميلتون فريدمان"الرأسمالية والحرية"
الدموية في العراق , والتي تبحث عن مجتمع
مستحدث يتقبل مرتكزات هذه العقيدة الشاذة التي تبنى بالدم , وبشكل يشابه في عملية
"المخروط الجنوبي" في أمريكا الجنوبية ( تشيلي والبرازيل والأرجنتين
وبوليفيا) وتحت غطاء الحرب على الإرهاب الهلامي التفسير[1],
وقد استنزفت تلك البلدان شعوبها وفق فلسفة الصدمة العسكرية والاقتصادية,
وبتطبيق نظرية "الرعب كوسيلة مركزية في عملية التحول إلى السوق الحرة",
ويمكن أن نشاهد الرعب العام والخاص في العراق بشكل واضح
دون خجل او مسائلة, بغية خصخصة أصول الدولة وفتح الأسواق بالقوة- "النهب
الحر" والبؤس المخطط له , والحد من الخدمات الاجتماعية التي تقدمه الدولة
للمواطن , وتلك عقيدة الشركات وزعانفها وسياسيها في عالمنا اليوم, والتي تعمل وفق
فلسفة الصدمة التي صممها أصحاب عقيدة "الصدم والترهيب العسكري" بحيث
"تعمل على التحكم في إرادة العدو وبصيرته واداركه فتجعله عاجزا بكل معنى
الكلمة على الفعل ورد الفعل" الانهيار الإدراكي , ثم تعقبها المعالجة الجذرية
بالصدمة السياسية والاقتصادية, والتي فرضت بينما كان العراق لا يزال تحت لهيب النهب
المنظم والفوضى ونيران الأسلحة الفتاكة , وجاء الحاكم المدني بول برايمر مدمرا
للعراق والذي باع أصول الدولة العراقية بالمزاد العلني وفكك الدولة العراقية واجتث
الطبقة الوسطى وفتح أبواب الانتقام والاغتيال من أوسع أبوابه , وبما لا يتسق مع
اتفاقيات جنيف الدولية, وعندما قاوم العراقيون المشروع الامبريالي حوصروا ونقلوا إلى
السجون وتعرضوا بذلك إلى الصدمات الجسدية والنفسية لفصل الحواس عن الجسد وتفكيك
الشخصية وإعادة هندسة المجتمع وفق النموذج الامريكي , وفي ظل الفوضى الدموية التي
تغذيها سوق الأفكار وحروبها.
الصدمة والترويع في الإستراتيجية
الأمريكية
ترتكز
الإستراتيجية الأمريكية على عقيدة الصدمة والترويع[2]
, وبطابعها الاقتصادي والسياسي والعسكري والنفسي, وفي حالة امتلاك أمريكا روابط
القدرة الصلبة تجدها حاضرة التطبيق وبشكل مباشر, وعندما ينفرط عقدها تنحى المسار
الشبحي الفوضوي ضمن فلسفة الحرب المركبة وتستخدم القدرة المكتسبة وعبر أدواتها
السياسية والأمنية, وأبرز مرتكزاتها الحالية هي ( التموضع العسكري, ,العمليات
الشبحية الانتقائية, الدبلوماسية المضللة, المهارشة بالتجريد الجيوبوليتيكي,التفكيك
السياسي , التفتيت الديموغرافي , اقتلاع المجتمعات واستبدال عقائدها السياسية
والدينية وفق عمليات التقشير , وباستخدام أساليب الرعب المطلق الخاص والعام, ولعلنا
نلاحظ حمى "الحرب العالمية على الإرهاب" بطابعها الإيديولوجي الراديكالي
, ومغذياتها الاقتصادية الجشعة وقد اتخذت أبعاد سادية مختلفة , وساهمت في نشر ثقافة
القتل خارج القانون , وعززت الاحتراب بين الهويات الفرعية ضمن فلسفة "فرق
تسد" , وعسكرة المجتمعات , وألغت بذلك مفهوم السيادة والدولة في العالم لتؤمن
للشركات القابضة ميادين النهب الحر للكوكب, وجميع تلك الاختراقات تحت بند ورد
في إستراتيجية الأمن القومي الأخيرة يقول "أن الحرب التي تخوضها أميركا اليوم
هي على "القاعدة وشركائها الإرهابيين" وهذا توصيف هلامي فضفاض أجاز
للولايات المتحدة الأمريكية توسيع فرشة الحرب من العراق وأفغانستان إلى اليمن
والسودان والصومال والجزائر وغالبية الدول العربية ضمن حرب التفكيك السياسي للدول
العربية, والتي نشهد ملامحها اليوم, كما وتؤكد الإستراتيجية على ضرورة تحقيق النصر
في العراق وأفغانستان؟ وهنا ما هو شكل النصر من وجهة النظر الأمريكية,
ونلاحظ إشراك الغرب والأضداد الإقليميين بغزوات أمريكا, وأثبتت قمة لشبونة طبيعة التحالف
العسكري الامريكي الأطلسي الروسي مؤخرا وفق منهجية استعمارية معاصرة, وبرز جليا
ليس في العراق فحسب بل في فلسطين ولبنان والكويت والبحرين واليمن والصومال
والسودان ومصر والسعودية لاحقا, وتلك نظرية الدومينو التي تنتهجها الإدارة
الأمريكية لتفكيك العالم العربي سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا انطلاقا من تفكيك العراق
والسودان, وكذلك في أفغانستان الوضع لا يختلف كثيرا فان اللاعبين هم أنفسهم ,
ويعملون بنفس المنهجية مع اختلاف نسبي في البيئة الأفغانية, وتعد أفغانستان نقطة
الارتكاز الإمبراطوري في خط الصدع الاورواسيوي , ورأس جسر للصفحات الحربية اللاحقة
في الباكستان وغيرها من دول الحرب المقبلة, وتعمل أمريكا اليوم على ترسيخ الصناعة
السياسية( الحكومات التابعة والدول الشركاتية) , والتي تقوم بنفس الإجراءات من الخصخصة
واجتياح الشركات وحرمان الشعب من ثرواته بالنيابة عن المحتل, كما أن "صبيان
واشنطن" من الأدوات السياسية التابعة لهم في غيبوبة سياسية يمارسون القمع
والقتل والتجويع لشعوبهم مع الثراء الغير شرعي من أموال الشعب وقد اغفلوا ساعة
الحساب , ويعملون من معسكرات محمية وبعيدة, وكانت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية
قد ركزت على ما أسمتهم الفاعلين الغير حكوميين وهذا المتغير جوهري يشير إلى
المتغير الحربي - الحرب المركبة- والتحول من حرب الجيوش إلى حرب الشعوب بغية الاستهداف
الشامل للمجتمعات وفق حروب العقائد والمخابرات , والذي يعطي هلامية في توصيف
وتفسير وتشخيص العدو , والذي تبنى عليه صناعة الإرهاب وتجارة الأمن الأمريكية في
العراق و أفغانستان ودول عربية أخرى, وبالتأكيد أن شكل الخارطة العربية سيتبدل
تدريجيا وستتغير الحدود السياسية خلال السنوات القادمة, ولعل مثلث العراق والسودان
واليمن الذي تمارس فيه عقيدة الصدمة السياسية والاقتصادية والعسكرية والنفسية مع الترويع
والرعب المجتمعي بات مسجل خطر لتفكيك هذه
الدول,وبات العالم العربي قاب قوسين من التفكيك السياسي والتقطيع ألشركاتي ضمن
فلسفة صناعة الدويلات والأنظمة التابعة.
الرعب
المؤسساتي والبطش المطلق في العراق
يعد الوضع السياسي العراقي معقد وشائك ومأزوم, وتعود
لهشاشته البنيوية كونه صناعة أمريكية مدعومة إقليميا , ويبدوا انه تجسيدا لإرادات
دولية وإقليمية جشعة ساعية لبناء دويلات شركاتية تعمل لمصلحتها, وباتت تخصخص كل
شيئ السياسة والاقتصاد والإرهاب والعنف وخدمات المجتمع وحتى الشعب, وبذلك ترهن
إرادة الشعب وتستعبده لسنوات قادمة تحت مطرقة الرعب المؤسساتي والبطش المطلق[3],
والسير وفق ثالوث السياسية الرأسمالية الأمريكية( إلغاء القطاع العام,الحد من
الإنفاق الاجتماعي , واجتياح الشركات الأمريكية ومنحها حرية العمل الكاملة بعيدا
عن الإرادة الجماهيرية الوطنية) , و تلقي تلك التطبيقات الجشعة بظلالها على
استقرار العراق وسيادته ووحدته, وقد شهدنا شركات أمريكية تخصخص الوزارات
العراقية كافة, وباتت تعمل بآمرة مستشارين
أجانب حتى يتم أعداد جيل وكادر يطبق فلسفة فليدمان, ونشهد ولوج لشركات إسرائيلية ساهمت
في بناء الاسيجة الكونكريتية والجدران العالية, والتقنية في التعذيب والتحقيق , ولعل
شواهد الجداران الكونكريتي في مدن ومناطق العراق لا تزال حتى اليوم, وقد صرفت
عليها مليارات الدولارات من استحقاق الجياع في العراق, إضافة إلى الشركات المرتبطة
بصناعة الأمن والتي بدورها تصنع بيئة الإرهاب لتسوق بضاعتها , ونشهد تناسل العوامل
المغذية للعنف والاضطهاد والإقصاء للعمال والمزارعين واجتثاث الطبقة الوسطى
والطبقة الفكرية( الامبريالية الفكرية) , ونجد أن الولايات المتحدة حرصت على تعزيز
النفوذ الإقليمي الإيراني والإسرائيلي كشركاء , وبنفس الوقت كرادع للمشروع الوطني
العراقي, وإلغاء هوية العراق العربية, وتجسيدا لفلسفة محو العراق وإلغاء هويته الوطنية
وارثه الحضاري, ولو نظرنا إلى أضلاع المشهد السياسي سنجده طائفي سائد ومقطب بالأدوات
والمسميات السياسية الوافدة , وقد فرضت على الشعب العراقي بالقوة , وتوصف نفسها
بالوطنية , وهي تخترق ابسط مقومات الوطنية وحقوق المواطنة, ومن المفارقات المثيرة
للسخرية أن العمل السياسي في العراق يعني الاحتكام على المليشيات وعناصر الرعب
المؤسساتي وممارسة البطش المطلق, وقد حرصت أمريكا على إزاحة مكونات القدرة
العراقية , وتمزيق أقليات الشعب العراقي بالترهيب والقتل والتنكيل والتهجير , لتقطيب
المشهد كما نراه اليوم, وتعمل على محو ذاكرة العراقيين من حسهم الوطني , خصوصا بعد
أن أحكمت تدريب مؤسسات أمنية تنتهج عقيدة التعذيب الأمريكية وفق منهجية وكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية "أم كي ألتر", وذلك لتطويع العقل
العراقي بحرب نفسية ضارية ضمن عقيدة الصدمة والترويع , وبغية إصابتهم بالشلل
النفسي , وتحقق بذلك الانهيار الإدراكي والقيمي , ومحو الشخصية وإعادة تغذيتها
بالمفاهيم الاستعمارية, وبالتأكيد لا يمكن أن يختزل الوضع العراقي وإرهاصاته بجزئية
بتشكيل الحكومة وتوزيع المناصب على المسميات والادوات السياسية كما يتناولها الإعلام
كدعاية وتطبيع.
بات العراق اليوم في محنة كبيرة تتعلق بمستقبله
ومستقبل أجياله, ويتجه واقعيا إلى التقسيم الطوعي, وقد طرح مشروع أمريكي مؤخرا يطرح العراق "أمارات عراقية" وهو
الوجه الأخر للتقسيم , وهنا تتضح رؤية "ريان كروكر" وما اسماه
"الصبر الاستراتيجي", ويجري التركيز على تفتيت الشعب , وتغييب الهوية
الوطنية سلوكا وممارسات وقوانين , وإدامة الاحتراب السياسي الطائفي والاثني والقمع
المجتمعي, مع استمرار حملات التطهير الدموغرافي والإقصاء(توأمة القوة والإرهاب
السياسي) , وتغييب المنظومات القيمية الوطنية عبر المتاجرة السياسية بالمذهب
والطائفة على حساب العراق كوطن, وهذا تعده أمريكا قدرة مكتسبة تحقق برامجها ومخططاتها
من خلاله التفكيك السياسي والقيمي المجتمعي, خصوصا أن الشعب العراقي بات
اليوم أكثر وعيا وإدراكا لما يجري حوله
ولكنه يفتقر لمفاعيل التأثير المباشر, ويبحث عن مخارج للازمة في ظل بيئة دولية
وعربية مجافية تساهم في تفكيك العراق وتمزيق شعبه , ويبدوا أن الجامعة العربية
تساهم متبرعة بذلك وتغفل بذلك مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه العراق وشعبه,
وهنا مكمن الخطر القادم, والذي سيفكك العالم العربي بأسره تدريجيا وفق نظرية
الدومينو, فـ أهلا بكم في عالمنا
الاستعماري الدموي المعاصر في ظل الغيبوبة العربية والانصياع التام وغياب القدرة
الصلبة والقبول بحرب الشعوب بدل من حرب الجيوش خصوصا أن العالم العربي منزوع
الجيوش منذ غزو العراق 2003..
*
رئيس مركز صقر للدراسات الإستراتيجية
الجمعة،
10 كانون الأول، 2010
[1] . كانت وكالة الاستخبارات
الأمريكية في عهد السبعينيات توصف الماركسية والشيوعية بالإرهاب وخصوصا في دول
أمريكا الجنوبية, ويتم تضخيم التهديد كما هو اليوم تضخيم التهديدات الإرهاب فوبيا
ونعت المسلمين والعرب بالإرهاب وشيطنة الأنظمة والدول وتحت يافطة حماية
الديموقراطية, ولذا أن الحرب على الإرهاب حربا على جميع العوائق التي تقف أمام نهب
الشركات الحر لكوكب الأرض وبمزدوجي الإرهاب والديمقراطية .
[2] . الصدمة والترهيب الأمريكية عمليتان تستخدم ضد الشعوب لتحقق
مخاوف ومخاطر ودمار يتعذر على الشعب بشكل عام أو عناصر أو قطاعات محددة من المجتمع
المهدد أو على قيادة هذا المجتمع أن تفقهها, كذلك يمكن العناصر الطبيعية على غرار
الأعاصير والزلزال والفيضانات والحرائق
والمجاعة والمرض , أن تصدم البشر وتزرع الرهبة في نفوسهم- الصدم والترهيب
تحقيق هيمنة سريعة –العقيدة العسكرية في حرب الولايات المتحدة ضد العراق.
[3] . مر العراق اليوم بنفس
المراحل الدموية التي مرت بها الأرجنتين في عهد السبعينيات, وفي عهد بينوش
والمدعوم من الدوائر الاقتصادية والسياسية ووكالة المخابرات الأمريكية, وقد ارتكب
جرائم حرب من قتل خارج القانون وإعدامات وتعذيب منظم بالسجون, ضد شعبه لترسيخ
منهجية الاقتصاد الامريكي الجشعة بطابعها الدموي وفق فلسفة ميلتون فريدمان"الرأسمالية
والحرية" وابرز مرتكزاتها السوق الحرة والخصخصة وإزالة القواعد والنظم
الوطنية, والحد من الإنفاق الاجتماعي, وهذا يجعل المواطن أسير الشركات القابضة الأمريكية
ومنهجيتها الدموية, وهنا تكون نظرية الرعب هي الوسيلة المركزية في عملية التحول إلى
السوق الحرة ويمكن أن نشاهد الرعب العام والخاص بالعراق يتسق مع هذا المفهوم. انظر
نعومي كلاين ,عقيدة الصدمة –صعود رأسمالية الكوارث, شركة المطبوعات للتوزيع
والنشر,بيروت,2009, ص116.