د. العودة: الخروج عن المعتاد! 2/2
الألفة تُذهب جمالية الأشياء وقيمتها فحين تعتاد رؤية ما حولك لا ترى الجمال فيه، وكم من المناظر والأصوات والروائح يضعف الاعتياد الاستمتاع بها.
وهي تخفف من وقع الإدمان حتى يبدو مع العادة شيئاً طبيعياً.
ولذا يقال: لا يكون الفاسق شريراً بقوة الشر بل بعادة الشر.
ويقال : من شبَّ على شيء شاب عليه ، والعادة تميت القلب.
كما تربط الفرد بآليات حركية ونفسية تجعله غير قادر على تحرير ذاته أو مواهبه، ولذا يشير علماء الاجتماع إلى هذا الجانب السيء في العادة فيقول "جان جاك روسو": خير عادة أن لا تعتاد شيئاً، ويقول "كانت": كلما زادت العادات عند الإنسان أصبح أقل حرية واستقلالية.
ويقول أوجست كونت: العادة جمود .
ويقول آخر: الذين تسيطر عليهم العادة هم بوجوههم بشر وبحركاتهم آلات.
تبدو العادة كوعاء يحفظ المألوف الصالح وغير الصالح، ومن هنا يصعب تغيير العادة البالية حتى ولو ثبت بطلانها بالحجة.
تظل العادة ضرورة حياتية بشكل قطعي، ولولا العادة لكانت أعصاب الإنسان مشدودة بشكل دائم، ولكانت حياته سلسلة متصلة من الأزمات الصغيرة المستمرة.
يمكن أن تكون العادة "فخَّاً" منصوباً يعْلق الإنسان في شِراكه كما التدخين وإدمان المخدرات والتسلل للمواقع الإباحية أو شرب المسكر ..
ويمكن أن تكون "سُلَّماً" للصعود كالقراءة والحوار وبناء العلاقات وأداء العبادات، والابتسامة، ومراقبة الذات وتطويرها، وحتى تغيير العادة يمكن أن يصبح عادة، فالمرء قادر على التعلُّم صغيراً وكبيراً ، حتى حينما يشيخ يبدو وعيه قادراً على التخلص من بعض سلبيات الشيخوخة؛ كرفض الجديد حينما يكون قد تدرَّب على ذلك وعايشه!
ولأن العادة هي أداة الحياة فهي كذلك أداة الموت بحسب نظرتنا واستخدامنا ووعينا وقدرتنا على الفرز والتكيف.
العادات الحسنة كثيرة والعادات السيئة أكثر وأكثر؛ لأن اكتساب عادة حسنة يتطلَّب الانتباه والجهد، واكتساب العادة السيئة يتم بصورة عفوية وسهلة.
الخطر الجسيم هو "طغيان العادة"، ولذا سماها ابن القيم في "الصواعق" طاغوتاً، وفعلاً فحين تستبد العادة تسبب الركود وتقضي على المبادرات الفردية، ويصبح الإنسان عبداً لها ويلغي مراعاة العقل والمصلحة، وسطوة السياسة الشمولية خلقت عادات في المجتمعات العربية تجبر المواطن على نمط من التفكير ترغبه الحكومات، وتوظف الثقافة والدين والعادة لمصلحتها.
وحتى فهم النص الشرعي يتأثر بالعادة والمألوف، ولذا قيل "العادة تغلب العبادة".
ما أسهل أن يتفهَّم المرء نصَّاً شرعياً يوافق موروثه ويردده، وما أسهل أن يؤوّل نصاً آخر لا ينسجم مع ما اعتاد، وفي الحالين ما أسهل أن يرى نفسه على صواب !
يمكننا أن نفرِّق إذاً بين عادات نحكمها وعادات أخرى تحكمنا.
وبين عادات محايدة ومحدودة التأثير، وعادات أخرى تشكل شرخاً في شخصياتنا وحياتنا وفكرنا.
وبين عادات تخضع لسلطان الشرع والعقل والمصلحة، وأخرى نخضع ذلك كله لها بوعي أو بغير وعي.
وعادات تخضع للمراقبة وتتحكم فيها الذاكرة والإرادة والتمييز، وأخرى تؤثر علينا آلياً دون وعي.
وعادات لها صفة الخلود والدوام لارتباطها المباشر بالشريعة أو بالفطرة؛ كصلة الرحم، وبر الوالدين، والستر، والذوق.. في مقابل عادات أخرى مرهونة بحدودها الزمانية والمكانية وظروفها البيئية المحلية.
وبين عادات الآخرين التي يسهل علينا رصدها وقراءتها ومحاكمتها، وعاداتنا المتلبسة لذواتنا والتي تسيّرنا دون أن نشعر ولا نسمح للآخرين برصدها أو قراءتها أو محاكمتها!
عاداتنا إذاً أسلحة يمكن أن نستخدمها في مواجهة الصعوبات والظروف الأخرى ويمكن أن نصوبها إلى أنفسنا أو إلى من حولنا دون أن نشعر.
العادة تكون إيجابية أو سلبية وفقاً لعلاقتها بالذات وبالمجتمع، فإذا سيطرنا عليها فهي آلة نملكها ونستعملها عند الحاجة وفق الطريقة التي نريد، وعندما تستبد العادة تكون عائقاً ضرورياً أمام الفرد والمجتمع.
الاسترسال مع العادة مريح ومنازعتها تحدث إشكالات واضطرابات في النفس والمحيط تجعل الكثيرين يشعرون أنهم في غنى عن "وجع الرأس"، وبحاجة للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية التي يحققها احترام العادة أياً كانت.
ومن هنا تبدو مهمات المصلحين عسيرة ومكلفة، وينهار كثيرون ويستسلمون للواقع في مراحل الطريق، وأعظم البطولة أن يظل المصلح صامداً في مهمته ولو كان لا يرى نتائج ملموسة.. وهي تتشكَّل بالفعل ولو لم يرها!
قد تجد شخصاً يحارب عادات تعوق إصلاحاً يتوخاه هو، ويستسلم لعادات تعوق إصلاحاً حقيقياً يتوخاه غيره.
عادة واحدة تكون عائقاً في طريق النهوض بسبب سوء فهمها واستخدامها، وتكون حافزاً للتقدم والرقي في صيغة أخرى مختلفة.
الانتماء للقبيلة يمكن أن يكون اتكالية وترديداً للماضي، ويمكن أن يكون سبباً للتنافس الشريف والاستمساك بمعالي الأمور.
التعليم والتكيف ليس تكويناً للعادات فحسب بل هو أحياناً يساعد على كف عادات غير مرغوب فيها أو استعادة عادات قديمة أصبحت مطلوبة وضرورية.