مقال : سحرة فرعون وعصا موسى
يشهد العالم العربي في هذه الأثناء مخاض ميلاد مرحلة جديدة سيذكرها التاريخ جيداً بأنها بداية تحول استراتيجي تحررت الشعوب العربية فيها من أغلال الخوف والاستكانة وانتفضت على حكامها المستبدين.
بعد أن انقدحت الشرارة الأولى في تونس انطلقت الثورة كالنار في الهشيم تتخطى الحدود والسدود وتهز عروش الاستبداد والاستعباد وتطلق الشعوب من عقالها بعد غفلة طال أمدها حتى ظننا أنه قد تودع منها، وأنه لا أمل في التغيير والإصلاح.
يقف المرء مذهولاً أمام هذه الروح التي دبت في الشعوب العربية دون سابق إنذار فخلخلت أركان أنظمة الحكم الجبري التي أوهمت الشعوب طيلة عقود خلت بأنها قدر لا خلاص منه وأنه ليس أمام الشعوب العربية من خيار سوى الخضوع للأمر الواقع وإلف حياة الذل والهوان، فما الذي استجد حتى يتهاوى هذا الزيف وتنبلج الحقيقة التي لا مراء فيها بأن هذه الأنظمة أوهن من بيت العنكبوت، وأن الشعوب العزلاء تمتلك قوةً هائلة يمكنها أن تطيح بهذه الأنظمة وتقوض بنيانها دون أن يغني عنها سلاحها ومالها وأجهزة مخابراتها من الله شيئاً؟
إن الدرس الأهم في موجة التغيير التي تجتاح العالم العربي هو أنها حررت الشعوب العربية من وهم كبير عشش في عقولها لعقود طويلة، فثبط همتها، وأعاق انطلاقتها، وهو أن هذه الأنظمة لا راد لقضائها، ولا معقب لحكمها، وأنها هي من يملك الضر والنفع والموت والحياة والنشور، وأنها تحيط بكل شيء علماً، فاستيقظت الشعوب فجأةً على حقيقة زيف هذه القوة، وأنها ليست سوى وهم كبير كانت الأنظمة تسحرها به لضمان استمرار استعبادها، وأن سر بقاء هذه الأنظمة طوال العقود الخالية لا يعود لقوتها الموضوعية بقدر ما يعود لعوامل نفسية تتعلق بأوهام الشعوب، وقد جاءت اللحظة التي كان لا بد من مجيئها ليحق الحق ويبطل الباطل فتدرك الشعوب العربية حقيقة عجز هذه الأنظمة وضعفها البنيوي، وأنها لا تستطيع أن تواجه إرادة شعب واع أراد الحياة.
إن ما يصنع الهزيمة ليس هو قدرة العدو وإمكانياته، ولكنه نظرة الناس إليه، فالشعب هو الذي يصنع الهزيمة أو النصر بالقدر الذي يقرره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، فالهزيمة تنبع من الداخل، والخلاص منها ينبع من الداخل أيضاً، ولا أحد يملك سلطاناً على الإنسان إلا بالقدر الذي يسمح به الإنسان نفسه، هكذا أفهم حقيقة التوحيد، فلا إله إلا الله تعني ألا أحد يملك للإنسان ضراً ولا نفعاً سوى الله، فلا الحكومات ولا المال ولا السجن ولا الترغيب ولا الترهيب يؤثر على الإنسان إذا تحرر الإنسان نفسياً وقرر الحياة الكريمة..
إن مثل الأمم والشعوب في زمن الهزائم كمثل أسطورة اليزيدي الذي يعبد الشيطان، فإذا رسمت حوله دائرة ظن أن الشيطان حكم عليه بالأسر داخل هذه الدائرة فيرفض الخروج منها ولو بقي سنين عدداً حتى يأتي من الخارج من يمحو هذه الدائرة، والحقيقة أن ما يأسر هذا اليزيدي ليس الخط الدائري المرسوم حوله، ولكنه الوهم الذي يملأ عقله، وخلاصه لا يتطلب سوى تحرراً من هذا الوهم..
لقد دبت في الشعوب العربية فجأةً روح الثقة بالنفس، وتنبهت إلى حقيقة طالما غيبت عنها مع أنها في غاية البساطة، وهي أنها تملك القوة، وأنها ليست عاجزةً، وأن الحكام لا سلطان لهم عليهم فانكسر جدار الرعب الذي عمل الحكام على إحكام بنائه منذ عقود طويلة، فجاء وعد الله وجعله دكاً.
إن التحرر من أنظمة الاستبداد أيسر كثيراً مما كنا نتوهم، فهو لا يحتاج إلى مهدي منتظر ولا إلى مساعدة أجنبية، ولا إلى انقلاب عسكري، ولا إلى أعمال عنف، إنه لا يحتاج أكثر من كسر حاجز الخوف من نفوس الناس ونزولهم إلى الميادين العامة بشكل سلمي حضاري دون إلقاء حجر أو زجاجة أو تخريب للمرافق العامة، ودون سب أو شتائم حتى وإن كان هذا الشتم على الأنظمة الاستبدادية، حتى لا تفرغ طاقتنا في الهدم، ولكن إعلان هادئ للحقوق المشروعة، وبذلك يكتسب المتظاهرون شرعيةً أخلاقيةً ويتهاوى بناء الدكتاتورية، ويهزم المستبدون بالرعب فيهربون حتى قبل أن يصل المتظاهرون إليهم بمسيرة شهر، أو بمسيرة ما بين ميدان التحرير وقصر الرئاسة..
إن فلسفة تهاوي الأنظمة الاستبدادية يمكن فهمها ببساطة، فهي أنظمة قائمة على حكم الفرد الواحد، وهذا الحاكم الفرد لا يملك قوةً بيولوجيةً خارقةً، فلو اجتمع عليه اثنان من حرسه لقتلاه، وإذا كان في الثمانينيات من عمره فإنه يكفي أن توجه له صفعة واحدة من شاب ليسقطه أرضاً، فما الذي يجعله رغم هذا الضعف ممسكاً بمقاليد البلاد والعباد؟
يمكن فهم هذا التحكم في ضوء أسطورة اليزيدي عابد الشيطان، فهو تحكم نفسي أكثر من كونه قوةً ذاتيةً، فالبناء الاستبدادي بأكمله يقوم على فكرة الولاء والخضوع الممتزج بالرعب بشكل هرمي حتى يصل هذا الخضوع إلى قمة الهرم، فإذا كسر بضع مئات من الألوف حاجز الرعب ونزلوا إلى الميادين العامة وأعلنوا بطريقة سلمية هادئة أنهم يرفضون الخضوع لحكم الطاغية، اهتزت ثقة الطاغية بنفسه لأنه يعلم حقيقة ضعفه وهشاشة بنائه، وانتقلت روح الجرأة إلى البناء الهرمي فيبدأ التمرد من داخل النظام، وتتهاوى حبات العقد متسارعةً، ويسعى كل فرد في قاعدة النظام الاستبدادي إلى اللحاق بالثورة لضمان مقعد له في البناء الجديد، فيتهاوى البناء الهرمي، ويسقط النظام..
أرأيتم ماذا يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب، أي أنه حتى بدون الحاجة لاستعمال السلاح فإن الكيانات الظالمة تتهاوى وتسقط لأنها تحمل عوامل فنائها في ذاتها..
إن بنية الأنظمة الاستبدادية قائمة على أساس استرهاب الناس وإرعابهم لضمان استمرار خضوعهم، وهذه هي فكرة السحر التي تتكرر في قصة موسى عليه السلام، فقد استعان فرعون رمز الطغيان في القرآن بالسحرة لسحر أعين الناس حتى يخضعوا له ويعبدوه من دون الله "سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ"
ولم يكن كشف زيف السحر يتطلب انقلاباً عسكرياً ولا أعمالاً عنفيةً أو تخريبيةً.لقد كان يتطلب عملاً بسيطاً وجريئاً وحاسماً وهو إلقاء عصا موسى رمز الحق فإذا جاء الحق زهق الباطل كنتيجة طبيعية حتى دون أن يضطر الحق لقتل الباطل، فالباطل يحمل عوامل تدمير ذاتية، والظلام يتبدد بمجرد طلوع الشمس "وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى"..
إن الأسلحة والأموال وأجهزة الإعلام وأجهزة الرعب المسماة زوراً بأجهزة الأمن التي تمتلكها أنظمة الحكم الجبري ما هي إلا حبال وعصي يخيل للشعوب من سحرهم أنها تسعى، فإذا جاءت عصا موسى بطل هذا السحر، ولم تغن عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله شيئاً، وقد رأينا من الآيات البينات في تونس ومصر ما ازددنا به إيماناً، فرأينا الفراعنة المتسلطين الذين كانوا يسترهبون شعوبهم ويستكبرون في الأرض وهم يتهاوون كأبراج من ورق، ويخاطب أحدهم شعبه وقد اسود وجهه كأنما أغشي قطعاً من الليل مظلماً طالباً الاعتذار والتوبة، فيرد عليه التاريخ بلسان الحال "لا تعتذروا اليوم"، ويرد أيضاً "آلآن وقد عصيت من قبل"، فلا يجد خياراً سوى أن يفر خوفاً من نقمة الشعب، وهو يقول نفسي نفسي، وأتباعه ينظرون إليه وهو يتخلى عنهم فيقولون "لو أن لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا"
إنها مشاهد عظيمة تقرب لنا فكرة يوم القيامة حتى نزداد إيماناً..
تتضح فكرة السحر في علاقة الأنظمة الاستبدادية بشعوبها حين نعلم أن أي نظام قمعي في العالم حين يلجأ إلى القوة ضد شعبه، فهو لا يفعل ذلك بهدف إفناء شعبه، فهذا ليس بمقدوره، ولكنه يسعى إلى قتل بضع مئات أو آلاف، وإلى سجن مثلهم أو أكثر منهم، بهدف التأثير على وعي الناس وحملهم على الخضوع لإرادته واتخاذه إلهاً من دون الله، فوظيفة القمع هي وظيفة ردعية، فإذا فشل في تحقيق هذا الهدف بطل سحر القوة ولم تعد ذات جدوى، وهذا الذي يفسر ما يتعجب منه الناس حين يهزم دكتاتور رغم أنه لا يزال قادراً على قتل المزيد، فيعجبون لماذا لم يستعمل كل أوراق قوته..والجواب أنه ربما يكون قادراً بالفعل على قتل المزيد، ولكنه قد توصل إلى قناعة بأنه يقتل ويبطش دون جدوى، وأن أساليبه القمعية قد فقدت أي قدرة على الردع بعد أن تحرر الناس من الزيف، وبطل السحر.
أياً كانت نتائج الثورة المصرية ومن قبلها الثورة التونسية فإن الدرس الأهم هو أن الشعوب أدركت أخيراً قوتها الكامنة، وتحررت من السحر العظيم الذي استرهبتها به أنظمة الحكم الجبري، فلم تعد قابلةً للتطويع والتخويف. وصارت هي الرقم الصعب في المعادلة يصنع لها الحكام ألف حساب، بعد أن كانوا يتعاملون معها وكأنها ليست شيئاً مذكوراً..
إننا نستبشر خيراً بأن تكون ثورة مصر وتونس فاتحة خير على بلاد المسلمين تؤسس تاريخاً جديداً يتحرر فيه العرب من أغلال الاستعباد والاستبداد، ويمسكون زمام المبادرة ليكون لهم مكان لائق تحت الشمس..
"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"..