الشبكة الكبرى.. هكذا تحاول الإمارات شراء واشنطن !
نشرت شبكة “الجزيرة” عبر موقعها الإلكتروني تقريرا مطولا كشفت من خلاله كيف حاول ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد شراء شبكة نفوذه في العاصمة الامريكية واشنطن، مذكرة بالتنافس الخفي بين أبناء عائلة “زايد” على تولي منصب رئيس الدولة في حالة خلو المنصب.
ولفت التقرير إلى كيف استطاع “ابن” زايد” مناورة “آل مكتوم” من خلال عقد صفقة كبيرة مع الولايات المتحدة الامريكية بسبعة مليارات دولار عام 1998، فيما اعتبرته أول حالة لتقديم الولاء لواشنطن التي دعمت توليه ولاية العهد.
لم يكن الأمر بهذه السهولة أبدًا، ولم تُحَول إمارات “آل زايد” واشنطن، في شقها البحثي والإعلامي، لمستنقع رشاوي تشتري فيه كل من تستطيع شراءه تقريبًا، في ليلة وضحاها، وبينما كان المشهد منذ أقل من شهر -في (مايو/أيار) الماضي- أشبه بأوركسترا ضخمة اتفق فيها صحفيون وباحثون، من مختلف التوجهات، على توجيه أسلحتهم ناحية دولة خليجية صغيرة المساحة، تبعد آلاف الكيلومترات عن واشنطن، في وقت واحد تقريبًا وبشكل غير مفهوم حينها، كانت الذاكرة تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، منذ أقل من عشرين عامًا فقط، وقت بداية الحج الإماراتي لـ “كعبة واشنطن”، وبداية صعود شاب ثلاثيني، يدير ذراعه اليمنى شبكة مرتزقة إعلامية وبحثية هائلة في الولايات المتحدة. لفهم ذلك، هناك قصة بالغة الأهمية غير معروفة لابد أن تروى.
لم تكن الأمور تسير على نحو جيد في الإمارات النفطية الصاعدة، الزمان تسعيني وتحديدًا في عام 1998، والمناخ يضج بالتوترات مع صعود ملف خلافة الشيخ “زايد آل نهيان” إلى الواجهة، مع مرضه وإصابة “خليفة” ولي عهده بمرض في القلب بعد عملية أجراها عام 1995، ومع كون الشقيق الآخر، نائب رئيس الوزراء “سلطان بن زايد”، لا يتمتع بالكاريزما الكافية لتجاوز المعارضة لتوليه السلطة داخل عائلة “زايد” نفسها، كان التوتر يحتدم مع المنافسين المترقبين في دبي، مع قرب خلو مقعد رئيس الإمارات والأهم ولي عهده، ما عناه هذا من قتال خفي لاختيار وجه مقبول لآل مكتوم، في ظل دستور يعطي الرئاسة نظريًا لآل زايد.
في ذلك الوقت كان الشيخ “خليفة”، أكبر أبناء “زايد”، يميل دومًا مع والده إلى المدرسة الفرنسية، خاصة مع الصداقة الجامعة بين الأخير وبين الرئيس الفرنسي “جاك شيراك”، بينما مال “آل مكتوم” حكام إمارة دبي والمستحوذين على رئاسة الوزراء إلى بريطانيا، كان الاتجاه الإماراتي أوروبيًا بامتياز، خاصة مع علاقات اقتصادية وثيقة العرى بين دبي وطهران لا يمكن المغامرة بفقدها، وسط اللعبة كان هناك شاب يخطط لإفساد كل ذلك، ونقل الدفة بأكملها إلى واشنطن، والأهم هو تأمين وصوله إلى مقعد ولي العهد، أو بالأحرى مقعد الحاكم الفعلي للإمارات مع ضعف “خليفة” المرشح الأول المتوقع، ما يعنيه هذا حال نجاحه من بداية تنفيذ أجندة خاصة سيعاني منها الشرق الأوسط كاملًا وطويلًا.
كان الشاب “محمد بن زايد”، الشاغل لمنصب رئيس أركان الجيش الإماراتي، يدرك أن واشنطن لا تمنح مباركتها مجانًا، وأن الأمور تحتاج لما يشبه ضريبة تقديم الولاء إن جاز التعبير، لذا، وعلى مدار عامين، أدار “محمد بن زايد” إحدى أكثر المفاوضات تعقيدًا وقتها، مفاوضات قاضية بشراء 80 طائرة من طراز “إف 16 بلوك 600” ضمن ما سوقه على أنه خطة شاملة لتحديث سلاح الجو الإماراتي، خطة ستكلف وقتها الخزانة الإماراتية مبلغًا هائلًا يقدر بسبعة مليارات دولار كاملة، إلا أن المفاوضات لم تقتصر على أحاديث ودية حول “كعكة الطائرات المليارية”، وإنما تعدتها وتحديدًا أثناء زيارته بصحبة والده المريض لواشنطن، إلى محاولة تأمين ولاية العهد وحكم الإمارات الفعلي.
لم يرض أبدًا “آل مكتوم” عن الصفقة، ورأوها هدرًا بالغًا لأموال الدولة، فضلًا عن كونها ستفتح بابًا يجلب الأميركيين إلى بلادهم، ما يعنيه هذا من إفساد علاقات “دبي” مع إيران، ورأوا أنه وإن كان لابد من الصفقة فليحصلوا على مقاتلات “يوروفايتر” من حليفتهم الأقرب والأكثر موثوقية لهم “لندن”، بينما مال الرئيس المريض “زايد” وولي عهده “خليفة” إلى قبلة “باريس” ومقاتلات “رافال” التي تنتجها شركة “داسو” الفرنسية، إلا أن “محمد بن زايد” تحرك في الظل ببراعة لتأمين الصفقة عبر زيارات متكررة لواشنطن، إلى أن نجح في ذلك في عام 1998، ليوقع عليها “خليفة” ويمنح أخيه “محمد بن زايد” هدفه الأكبر، ويمنح “آل مكتوم” هزيمتهم الكبرى أيضًا.
كانت الولايات المتحدة تبحث عن موطن قدم لها في الاتحاد النفطي، وكان الأمير الشاب يبحث عن حلفاء يدعمون طموحاته للصعود إلى السلطة، لذا فإن الصفقة كانت رابحة لكلا الطرفين. وبفضل الدعم الأميركي الذي حظي به الأمير الشاب، الذي ظهر بوضوح أنه الرجل المفضل بالنسبة إلى البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، ومع نفوذه الداخلي المتزايد، ضمن الشاب محمد مقعد ولاية العهد كثمن لتولي أخيه غير الشقيق خليفة رئاسة البلاد في أعقاب وفاة زايد الأب.
بإمكاننا أن نعتبر، ولن نكون مخطئين في ذلك، أن صعود محمد بن زايد كان نقطة التحول الفعلية لبلاده إلى كعبة واشنطن، وأن صفقة الطائرات كانت البداية الفعلية لرحلة من تحويل واشنطن لمستنقع أموال ورشاوي وشبكة مرتزقة إماراتية هائلة تهاجم بإشارة بسيطة أي هدف، رحلة امتدت لأكثر من 20 عاما، حيث لم يكن خليفة بن زايد، الرئيس الفعلي للبلاد إلى اليوم تقنيًا، أكثر من رئيس شرفي من وجهة نظر الكثيرين. ومنذ صعوده إلى ولاية لعهد، واصل “محمد بن زايد” تعزيز نفوذه في واشنطن، في الوقت الذي كان يرسخ فيه سلطته أيضًا داخل سائر إمارات الاتحاد.
الأيدي النافذة
على السطح، كان كل شيء معدًا بشكل مثالي: أعطت الإدارة الأميركية موافقتها على إتمام الصفقة، ولم يبق إلا ذلك الإزعاج المعتاد في الكونغرس، وهو إزعاج يتكفل الرئيس الأميركي عادة به، خاصة وأن الرئيس حينها هو “جورج بوش” الابن، المتمتع بأغلبية من حزبه الجمهوري في الكونغرس، والذي يحب احتساء الشاي العربي في قلب صحراء أبوظبي، بينما يشاهد عروض الصقور بصحبة صديقه “محمد بن زايد”.
كانت الصفقة المنتظرة تشمل حصول شركة موانئ دبي على حقوق إدارة ستة موانئ بحرية أميركية، هي “نيويورك”، “نيوجيرسي”، “فيلادلفيا”، “بالتيمور”، “نيو أورليانز”، و”ميامي”، إضافة إلى عقود صيانة 12 ميناء آخر، والتي كانت تدار جميعًا في ذلك الحين من قبل شركة “بي آند أو” (P&O). ولكن مع بدء الإعلان عن الصفقة، لقيت معارضة من شركة “إيلر”، إحدى الشركات الشريكة لمجموعة “بي آند أو”، والتي أدركت أنها سوف تصبح شريكًا غير طوعي لموانئ دبي العالمية، ما دفعها إلى استئجار خدمات وكيل الضغط “جون مولدون” ذائع الصيت، من أجل الضغط في الكونغرس لأجل وقف الصفقة. وسرعان ما نجح “مولدون” في إقناع سيناتور نيويورك الديمقراطي “تشارلز شومر” بخطورة ما يحدث من منظور الأمن القومي، نظرًا لما تنطوي عليه من منح السيطرة لدولة أجنبية على الموانئ الأميركية.
في غضون أيام، عقد “شومر” مؤتمره الصحفي الذي دعا فيه إلى معارضة الصفقة، جاذبًا العشرات من النواب من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء. وهدد الزعيمان الجمهوريان دينيس هاسترت وبيل فريست البيت الأبيض، في حال لم يتدخل لعرقلة الصفقة، أن الكونغرس سوف يمرر تشريعًا لتعطيلها. ورغم تهديد الرئيس الأميركي باستخدام حق النقض ضد رفض الكونغرس للصفقة، إلا أنه أصبح من الواضح أن موجة الرفض صارت أقوى مما كان متوقعًا، مما دفع موانئ دبي لإعلان انسحابها من الصفقة، وبيع أصولها في الولايات المتحدة إلى إحدى الشركات الأميركية.
بالنسبة إلى صناع القرار في الإمارات، كان درس موانئ دبي واضحًا: لا تزال العلاقات مع الولايات المتحدة تحتاج لمزيد من الاستثمار، كما أنها تحتاج إلى نهج مختلف أيضًا لضمان رعاية المصالح الأمنية والاقتصادية المتنامية للاتحاد الخليجي. ورغم أن الإمارات كانت توظف في ذلك التوقيت، (مارس/أذار) 2006، 16 مجموعة ضغط بعقود سارية في واشنطن، إلا أنها قامت برفع هذا العدد بشكل درامي إلى 24 مجموعة ضغط بعد تسعة أشهر فقط، في (يونيو/حزيران) 2007، منها مجموعتين تم التعاقد معهما من قبل حاكم دبي “محمد بن راشد” مستخدمًا اسمه الشخصي، وفق بيانات وزارة العدل الأميركية، التي تحققنا منها في ميدان بشكل شخصي.
ولكن النقلة النوعية للنفوذ الإماراتي وقعت في عام 2008، حين تم تسمية “يوسف العتيبة”، مدير الشؤون الدولية السابق لمحمد بن زايد، سفيرًا للإمارات لدى واشنطن. وسرعان ما بزغ نجم السفير الجديد، الذي وصفته برقية مسربة لـ “ويكيلكس” بعد عدة أشهر فقط من توليه مهام منصبه أنه “يتصرف بشكل مشابه للسلوك والثقافة والسياسة الأميركية”. وكان الاختبار الأول لعتيبة في عام 2009، حين كانت أبوظبي تتفاوض مع الحكومة الأميركية من أجل التوصل إلى “اتفاقية 123″، نسبة إلى المادة 123 من قانون الطاقة النووية الأميركي لعام 1954، بهدف الحصول على التكنولوجيا النووية الأميركية. وتروي وثيقة لـ”ويكيليكس”، يعود تاريخها إلى 2009، تفاصيل اجتماع جرى بين “العتيبة”، ووزيرة الخارجية الأميركية آنذاك “هيلاري كلينتون”، ووزير الخارجية الإماراتي “عبد الله بن زايد”، لمناقشة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها دولة الإمارات لتشجيع الكونغرس على تمرير الاتفاق، وهو الاجتماع الذي وصف فيه “عبد الله بن زايد” طموحات بلاده أنها تمثل “بديلًا شفافًا للتجربة النووية الإيرانية”.
اتخذ “العتيبة” فلسفة جديدة في صناعة النفوذ، فلسفة تكشفت بشكل أكبر خلال رسائله المسربة مؤخرًا: تتطلب صناعة النفوذ أكثر من مجرد إلقاء الأموال إلى جماعات الضغط، التي يضمحل تأثيرها، بسبب المنافسة، في غياب شبكة علاقات حقيقية داعمة، يتم صناعاتها ورعايتها بشكل مباشر من قبل الدولة صاحبة المصالح نفسها. تبدأ هذه الشبكة من المسؤولين الأمنيين والسياسيين، ولا تنتهي عند الباحثين والصحفيين، وهو الأسلوب الذي تعلمه “عتيبة” من تداخله مع أعمال اللوبي الصهيوني في واشنطن، اللوبي الذي يدير شبكته بشكل مستقل متجاهلًا التعاقدات قليلة الجدوى مع وكلاء الضغط.
وعلى عكس ما قد يبدو، فإن هذه الفلسفة الجديدة تتطلب إنفاق المزيد من المال من أجل صناعة الشبكة المطلوبة، لذا تشير التقديرات أن الإمارات أنفقت ما مجموعه 5.3 مليون دولار على 23 جماعة ضغط في 2009 كما تشير بيانات وزارة العدل، وهو ارتفاع ملحوظ في متوسط الإنفاق مقارنة بالأعوام السابقة، بيد أن المستقبل القريب كان يحمل في طياته الكثير من المفاجآت التي أخبرتنا أننا لم نكن بلغنا مرحلة الذروة بعد.
مثل الربيع العربي نقطة فارقة جديدة في مساعي الإمارات لاكتساب النفوذ في واشنطن، مع الذعر الذي أصاب حكام البلاد من امتداد موجة التغيير إلى ديارهم. وأظهر الإنفاق الإماراتي على الضغط السياسي منحنى تصاعديًا منذ عام 2011 إلى اليوم، فكان الرقم أقل من ستة ملايين دولار حتى عام 2010، إلا أن هذا التصاعد دفع الإمارات لتصدر قائمة الدول الأجنبية المنفقة على الضغط في واشنطن عام 2013، وهو العام الذي شهد الانقلاب العسكري على الرئيس المصري المعزول المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين “محمد مرسي”، بواقع 14.2 مليون دولار.
في الأعوام التالية من 2014 إلى 2016 أنفقت أبوظبي مبالغ مالية مماثلة تقريبًا لتعزيز علاقاتها في واشنطن، وهي جهود تكللت بحصولها على نظام الدفاع الصاروخي “ثاد” (Thaad)، حيث تخرجت الدفعة الأولى من الضباط والطيارين، الذين تم تدريبهم على استخدام النظام، في (ديسمبر/كانون الأول) للعام الماضي 2016، وهي أول دفعة لقوات غير أميركية يتم تدريبها على هذا النظام المتطور. كما نجحت أبوظبي، من خلال مجموعة “أكين غومب”، في الضغط من أجل منع المساسباتفاقية السماوات المفتوحة، في ظل الهجمة العاتية التي يتعرض لها الطيران الخليجي من قبل شركات الطيران الأميركية، وتحديدًا “طيران الإمارات” باعتبارها المنافس الخليجي الأول في الولايات المتحدة.
ترتبط الإمارات في الوقت الراهن بعقود سارية مع 13 مجموعة ضغط أميركية على الأقل، وفقًا لبيانات وزارة العدل الأميركية التي اطلعت عليها ميدان بشكل مستقل. وتهيمن “مجموعة كامستول” (Camstoll group) على معظم عمليات الضغط الإماراتية بعقد بقيمة 6.5 مليون دولار، تليها مجموعة “هاربر” (Harbour) بعقد قيمته 4.5 مليون دولار. ولكن مع هذا القدر الكبير من الاستثمار الإماراتي في واشنطن، فإن عمل هذا اللوبي، الذي يعتقد الكثيرون أن “إنفاقه الحقيقي على العلاقات والرشاوى والهدايا يفوق المعلن بعشرات الأضعاف”، لا يقتصر فقط على دفع تعزيز مصالح أبوظبي الاقتصادية والأمنية، والدفاع عنها، ولكنه يقع أيضًا في القلب من جهود حكام الإمارات المذعورين في تقويض ومطاردة خصومهم السياسيين، الداخليين والخارجيين، وعلى رأس هؤلاء الخصوم جماعات “الإسلام السياسي” التي حملها الربيع العربي إلى الصدارة، والدول التي تدعمها وفي مقدمتها قطر، الدولة المثيرة دومًا لغضب الإمارات كما يبدو.
أعداؤنا
كانت “مجموعة كامستول” هي فرس رهان الإمارات في عام 2014، وهو العام الذي شهد حملة إعلامية شرسة في واشنطن، برعاية أبوظبي، استهدفت الدوحة وجماعات “الإسلام السياسي” وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين”، حملة جاءت متزامنة مع حملة موازية من التصعيد السياسي للإمارات والسعودية، وتضمنت سحب سفراء الدولتين، إضافة إلى البحرين، من قطر في (مارس/أذار) من نفس العام.
بدأت خيوط اللعبة تتكشف في (أغسطس/آب)، حين تلقى الصحفي الشهير في نيويورك تايمز، “ديفيد كيركباتريك”، اتصالًا من “مجموعة كامستول” طلبت منه كتابة مقال يتناول العلاقة بين الدعم القطري و”الجماعات الإرهابية”. وفي حين لا يحظر القانون الأميركي على الصحفيين تلقي الوثائق من جماعات الضغط، إلا أن إفصاح “كيركباتريك” عن تواصل “كامستول” معه فتح الباب أمام تحقيق موسع، أجرته صحيفة ذا إنترسبت)، حول طبيعة عمل “مجموعة كامستول”، وحقيقة الجهة التي تقف وراءها، وهي التحقيقات التي أشارت في النهاية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي وظفت “كامستول” من خلال عقد تم توقيعه عام 2012 باسم مؤسسة “أوت لوك” لاستثمارات الطاقة المملوكة لإمارة أبوظبي.
توظف “كامستول” مجموعة من كبار مسؤولي وزارة الخزانة السابقين في كلٍ من إدارتي بوش وأوباما، معظمهم على علاقة مع أنظمة الخليج العربي وإسرائيل، والكثير منهم من المنتمين إلى تيار المحافظين الجدد. على رأس هؤلاء يأتي مؤسس “كامستول” ورئيسها التنفيذي “ماثيو إبشتاين”، وهو مسؤول سابق في وزارة الخزانة، وملحق مالي سابق لدي أبوظبي. وتظهر برقية دبلوماسية تعود إلى عام 2009 أن إبشتاين عمل مع أبوظبي من أجل تنسيق الضغط ضد إيران. وهناك أيضًا الرئيس التنفيذي للمجموعة، “هوارد مندلسون”، الذي سبق أن عمل مع الإمارات عام 2010 ضد طالبان. كما يبرز أيضًا اسم “بنيامين شميت”، والذي عمل مع إسرائيل في مواجهة حركة حماس.
ووفق تحقيقات ذا إنترسبت، تتبنى “كامستول” إستراتيجية عمل واضحة للغاية، حيث تستهدف قوائم الصحفيين من المحافظين الجدد، والكتاب الموالين لإسرائيل، من أمثال “إيلي لايك” من مجلة “ديلي بيست”، و”ألانا غودمان” من مجلة “فري بياكون”، و”إليوت إبرامز” أحد أهم المستشارين السياسيين السابقين في الأوساط المحافظة والموصوف بـ”زعيم المحافظين الجدد”، و”جينيفر روبين” من “واشنطن بوست”، و”مايكل روبن” من معهد “أميركان إنتربرايس”، إضافة إلى الإعلاميين الناشئين، مثل “إيرين بيرنيت” من “سي إن إن”، و”مارك هوسينبال” من “رويترز”، و”جوبي واريك” من “واشنطن بوست” وغيرهم، وتدفعهم لكتابة مقالات وتغطيات تربط بين الدوحة وتمويل الجماعات الإرهابية.
وفي ضوء الرسائل المسربة مؤخرًا لسفير الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، والتي أظهرت تواصله الشخصي مع العديد من السياسيين والصحفيين الذين وردت أسماؤهم في تحقيقات عام 2014، مثل إبرامز، ومع تحققنا الشخصي في ميدان من أن عقد “كامستول” مع أوت لوك إنيرجي لا يزال ساريًا إلى الآن، وفي ضوء تصريحات وزير الخارجية القطري، “محمد بن عبد الرحمن آل ثاني”، حول قيام وزارته برصد 13 مقال رأي في الصحف الأميركية تهاجم قطر، في الأسابيع الخمسة التي سبقت الحملة الإعلامية والسياسية الأخيرة التي شنتها أبوظبي على الدوحة، فإننا قمنا في ميدان بإجراء بحث مستقل حول بعض الصحفيين الأميركيين الذين ارتبطت أسماؤهم بأي من العتيبة أو مجموعة كامستول، وحاولنا تتبع مقالاتهم خلال أزمة عام 2014 والأزمة الحالية (2017)، وما بينهما حيث أوصلتنا هذه البحوث إلى نتائج مثيرة للانتباه.
لنبدأ على سبيل المثال مع “إيلي ليك”، الصحفي الذي يكتب لصالح مجلة “ذا ديلي بيست” وعدة صحف أميركية أخرى. خلال النصف الأخير من عام 2013، كان هناك 15 اتصالًا منفصلًا بين “كامستول” و”ايلي ليك”، وفق ما أشارت إليه بيانات وزارة الخزانة الأميركية. ولاحقًا عندما أعلنت إدارة أوباما عن خطة لإطلاق سراح معتقلي غوانتانامو وإرسالهم إلى قطر، نشر “ليك” مقالا في “ديلي بيست” وصف فيه قطر بأنها من أصدقاء الإرهابيين، ضمن إطار خطة لأبوظبي لتغيير وجهة المعتقلين الأميركيين إليها، وهو ما نجحت فيه بالفعل. وعاد “ليك” للهجوم على قطر مرة أخرى في 31 (مايو/أيار) الحالي، عبر نشر مقال في “بلومبيرغ” أثنى فيه على الحملة الخليجية ضد قطر، واصفًا إياها بأنها “دولة ذات وجهين” وأنها “اختبار حقيقي لجدية ترمب في مكافحة الإرهاب”.
لا يبدو الأمر مقتصرًا على الصحفيين فحسب، حيث تشمل القائمة أيضًا العديد من الدبلوماسيين والمسؤولين السابقين منهم، على سبيل المثال فقط لا الحصر، الدبلوماسي الأميركي السابق “دينيس روس”، مبعوث السلام إلى الشرق الوسط في عهد إدارتي كلينتون وبوش الابن. في (سبتمبر/أيلول عام) 2014 نشر روس مقالا في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “الإسلاميون ليسوا أصدقاءنا”، طالب فيه إدارة أوباما بالتعاون مع الإمارات ونظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مصر في مواجهة “التيارات الإسلامية”، مثل “الإخوان” و”حركة حماس”، معرضًا بدعم قطر لهذه الحركات خلافًا للإمارات والسعودية. وفي (مايو/أيار) لعامنا الحالي 2017، نشر روس مقالا في صحيفة “يو إس أيه توداي” شن فيه هجومًا على قطر، ملوحًا بنقل الأصول العسكرية الأميركية هناك إلى الإمارات العربية المتحدة.
وتلفت وظيفة “روس” الحالية كمستشار لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، المرتبط باللوبي الصهيوني في واشنطن “أيباك”، جنبًا إلى جنب مع الرسائل المسربة للسفير الإماراتي التي أظهرت تعاونه مع مؤسسة “الدفاع عن الديمقراطيات” (FDD)، وهي مجموعة بحثية ومؤسسة ضغط تنتمي إلى تيار المحافظين الجدد ومقربة من إسرائيل، تلفت النظر إلى حجم التنسيق القائم بين الإماراتيين والإسرائيليين في واشنطن، ومدى تشابه لغة الخطاب بين لوبياتهما، وهي ظاهرة بدت واضحة في مؤتمر “منظمة غينزا” المتخصصة بشؤون الأمن القومي، الذي عقد مطلع (مايو/أيار) الماضي، بحضور من السياسيين الأميركيين المعروفين بتأييدهم لإسرائيل، أبرزهم “دينيس روس” نفسه، وهو المؤتمر الذي احتفت به الصحف المقربة من دولة الإمارات العربية المتحدة. إضافة لندوة فيرمونت الشهيرة أواخر (مايو/أيار) أيضًا، والمنظمة تحت عنوان “قطر والفروع الدولية للإخوان المسلمين”، تحت إشراف “كليفورد ماي”، الناشط الإعلامي الجمهوري القريب من مجموعة “المحافظين الجدد”، بحضور وزير الدفاع الأميركي السابق “روبرت غيتس”، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، الجمهوري “إد رويس”، المقربين من “العتيبة”، وهي الندوة التي شهدت هجومًا على قطر وحماس وجماعة الإخوان أيضًا.
أكثر نعومة
لا يقتصر عمل الإمارات في واشنطن على اللوبيات وجماعات الضغط فقط، وكان هذا هو أحد الدروس الكبيرة التي تعلمها حكام الإمارات من حادثة موانئ دبي السالف ذكرها. في ذلك التوقيت لم يكن الكثيرون في واشنطن يعرفون شيئًا عن دبي سوى أنها إمارة قادمة من عالم النفط لشراء بلادهم، وهو ما لفت نظر حكام الإمارات أن عليهم الاستثمار في الفكر أيضًا. لذا فإنه في نفس التوقيت الذي كانت الإمارات تنسج فيه اللوبي الأخطبوطي الخاص بها، فإنها بدأت أيضًا في الاستثمار في مراكز الأبحاث المقربة من الحكومة الأميركية، وكانت البداية مع مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية (CSIS)، الذي قام في عام 2007، بدعم وتمويل إماراتي، بعقد سلسلة ندوات حول الأهمية الإستراتيجية لدول الخليج، وسبل إقامة شراكة بناءة مع الولايات المتحدة. كما دفعت الإمارات المركز لتنظيم رحلات سنوية إلى منطقة الخليج، حملت العشرات من الخبراء الأمنيين والسياسيين للقاء المسؤولين في أبوظبي ودبي.
وفق تحقيق شهير أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، ساهمت ما لا يقل عن 64 حكومة أجنبية، أو كيانات ومسؤولين في دول، في تمويل 28 منظمة بحثية رئيسية في الولايات المتحدة، بإجمالي إنفاق يزيد عن 92 مليون دولار، في الفترة بين 2010 إلى 2014 في أدنى التقديرات. وفي حين أن العلاقة بين مراكز الفكر الأميركية، والجهات الخارجية الراعية لها، تخضع لقانون تسجيل الوكلاء الأجانب، والقانون الفيدرالي لعام 1938 الذي وضع بهدف تجنب تكرار تجربة الدعايا النازية في الولايات المتحدة، فإن هذا القانون يلزم مراكز الفكر بالإفصاح عن التبرعات والمنح التي تتلقاها من الدول الأجنبية. وبينما لا تزال دول آسيا، اليابان والصين على وجه التحديد، تحتلان موقع الصدارة في هذا المضمار، فإن دول الخليج تأتي في المرتبة التالية مباشرة، وكالعادة فإن “هوس الإمارات” بالنفوذ يحملها إلى الصدارة أيضًا.
على رأس هذه المراكز التي تم ربطها بالنفوذ الإماراتي مؤخرًا يأتي “المجلس الأطلسي” (Atlantic council) وهو مؤسسة بحثية مقرها العاصمة واشنطن، قامت بإطلاق فرع الشرق الأوسط الخاص بها تحت اسم مركز “رفيق الحريري” في عام 2011، تحت قيادة الباحثة الأميركية ميشيل دن، وبدعم كبير من عائلة الحريري اللبنانية. وتظهر بيانات المركز، الذي يتلقى 20% من تمويله من جهات أجنبية، إدراجه لدولة الإمارات العربية المتحدة ضمن فئة المانحين بمبلغ أكبر من مليون دولار، وهي نفس الفئة المدرج ضمنها “بهاء الحريري”، ممثل عائلة الحريري، ما يعني أن الإمارات فعليًا تعد أحد أبرز مولي المركز على الإطلاق.
وقد كشفت الرسائل المسربة من بريد السفير “يوسف العتيبة” المزيد حول علاقات الإمارات مع “المجلس الأطلسي”، حيث حوت تبادلات بين العتيبة وكل من “فريدريك كيمبي” رئيس المجلس، والباحث “بلال صعب”، تناولت مناقشات حول تمويل الإمارات لفعاليات المجلس، واقتراح من “صعب” بعمل فيلم وثائقي حول فساد الفيفا يربط بينها وبين قطر. إلا أن الواقعة الأبرز المتعلقة بالمجلس هي تلك المتعلقة باستقالة الباحثة “ميشيل دن” من قيادة مركز “رفيق الحريري” عام 2013، بعد الشهادة التي قدمتها أمام مجلس الشيوخ الأميركي، والتي أدانت فيه ممارسات النظام المصري الذي يقوده عبد الفتاح السيسي، وهي الاستقالة التي يرجح أنها جاءت بضغط من الإمارات وعائلة “الحريري”، المقربة من السعودية، ليحل محلها “فرنسيس ريشياردون” السفير الأميركي لدى مصر في عهد مبارك.
بالإضافة إلى “المجلس الأطلسي” ومركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، تظهر الإمارات أيضًا ضمن قائمة مانحي مراكز بحثية مرموقة مثل “بروكينغز” -المرتبط اسما بالدوحة-، ومؤسسة “راند”، ومركز التقدم الأميركي وغيرها. وتسعى الإمارات لتوظيف نفوذها في هذه المراكز من أجل التأثير على صناع القرار الأميركيين، لاتخاذ مواقف موافقة لرؤيتها في الملفات الحساسة، مثل التعامل مع إيران أو “الإسلام السياسي”، كما تسعى أيضًا لضمان الحماية السياسية لمجموعتها الواسعة من المصالح التجارية، وعلى رأسها المتعلقة بضمان حرية الطيران في الأجواء الأميركية.
ومن المراكز البحثية إلى الجامعات. يحكي لنا “أندرو روس”، الأستاذ بجامعة نيويورك قصة جديدة حول شراء الإمارات للنفوذ في جامعات أمريكا. في عام 2015 تم منع “روس” من دخول الإمارات لإجراء أبحاث حول أوضاع العمالة المهاجرة في البلاد، رغم كونه أستاذًا بجامعة نيويورك التي فتحت أحدث فروعها في أبوظبي عام 2014 في جزيرة السعديات، الجزيرة الأشبه ببؤرة استيطانية جديدة للمؤسسات الغربية في الإمارات، بما في ذلك مشروعات متحف اللوفر ومتحف غوغنهايم والمتحف البريطاني. والجدير بالذكر هنا أيضًا، أن جامعة نيويورك ليست الجامعة الوحيدة التي تلقت تمويلًا إماراتيًا لفتح فرع لها في البلاد، حيث تضم القائمة جامعات أخرى أبرزها كلية إدارة الأعمال في ميتشجان، التي تملك فرعًا لها في دبي، والتي تبقى جميعها على استعداد لغض الطرف عن قائمة واسعة من الانتهاكات، سواء ضد العمال الذين يشيدون أبنيتها، أو حتى ضد أساتذتها أنفسهم كما حدث مع روس، كثمن مقبول لضمان تدفق الدعم المالي الإماراتي.
حدود القوة
بعد مرور ثمانية أعوام تقريبًا على واقعة موانئ دبي الشهيرة، وبشكل أكثر تحديدًا مع انتصاف عام 2014، حققت الإمارات أكبر انتصاراتها في مجال التصنيع داخل الولايات المتحدة، بعد أن تمكنت شركة إماراتية تدعى “غلوبال باوندريز” من الدخول في مناقصة، بقيمة 1.5 مليار دولار، للسيطرة على عدة مصانع في نيويورك وفيرمونت. والمثير هنا أن هذه المصانع هي المسؤولة، وحدها، عن تصنيع وبيع الإلكترونيات الدقيقة وأشباه الموصّلات لشركة “آي بي إم” (IBM).
كانت الصفقة شديدة الحساسية لدرجة احتياجها لتصريح من لجنة الاستثمار الخارجي في الولايات المتحدة، لأنها كانت تعني أن المتعهد الأول لتزويد وزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون” بأشباه الموصلات الخاصة بالأنظمة الدفاعية، سوف يكون شركة أجنبية، إلا أنه تمت الموفقة عليها في نهاية المطاف. أما الأمر الأكثر إثارة، فكان موقف السيناتور “تشاك شومر”، الذي كان سببًا رئيسيًا في تصفية أعمال موانئ دبي بالكلية من الولايات المتحدة، مسارعًا إلى امتداح صفقة الموصلات الدفاعية واصفًا إياها بـ”الخبر الرائع”!
الكثير من المال والقليل من الوقت كفيلان بتغيير كل شيء، يبدو أن تلك القاعدة هي ما يؤمن به ابن زايد ورجاله في واشنطن، الذين ينظر إليهم اليوم في العاصمة الأميركية كمصدر غير محدود للمال اللازم لتمويل أي شيء. منذ عام 2014، يسعى مسئولو دولة الإمارات العربية المتحدة للحصول على تسهيلات لمبيعات الطائرات والأسلحة والذخائر، كشريك مباشر للبنتاجون وليس تحت بند “حليف كبير من خارج الناتو”، كما تفعل كل من البحرين والكويت مثلًا، لأن الشراكة المباشرة مع وزارة الدفاع تعطي للدولة الشريكة ميزة تجهيز الطائرات على أراضيها، إضافة إلى ميزة تدريب القوات المقاتلة. وكان “باراك أوباما” حذرًا من منح الإمارات هذه الصلاحية، وهي الصلاحية التي وافق عليها “ترمب” بشكل مبدئي خلال اجتماعه في واشنطن منتصف الشهر الماضي، بعد أن تعهدت أبوظبي، كعادتها، بدفع المزيد من الأموال لإدارة ترمب كما بدا واضحًا خلال اتفاقات قمة الرياض.
ولكن يبدو أن هناك حدودًا لما يمكن أن يشتريه المال، حتى هنا في واشنطن. فرغم أن الإمارات استثمرت عشرات الملايين لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، فضلًا عن مئات الملايين التي تنفقها الحكومة الإماراتية في العمل الخيري، ومليارات الدولارات من الاستثمارات في الشركات الأميركية، فإنها فشلت في إقناع الإدارة الأميركية بتزويدها بطائرات إف-35 المقاتلة، بسبب حرص واشنطن على التفوق النوعي لإسرائيل، البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي منحته الولايات المتحدة حق الحصول على تلك الطائرات. كما منيت جهود الإمارات في مناهضة الاتفاق النووي الإيراني بفشل ذريع، رغم الأموال الباهظة التي أنفقتها بصحبة المملكة العربية السعودية على معارضة الاتفاق.
المال قد يشتري المواقف لكنه لا يغير الحقائق. ربما تكون هذه الحقيقة الإستراتيجية الأكبر التي يغفل عنها ابن زايد ورجاله، وهي التي تولد الخلط بين مفهوم ممارسة الضغط والتحكم في السياسة. يمكن للإمارات أن تدفع المال لتستقطب “روبرت غيتس”، ولكن ذلك لا يعني أن البنتاغون لا يزال يستمع لكلمات وزير متقاعد. يمكن للمال حتى دفع الرئيس الأميركي الجديد لإطلاق تغريدات التأييد على تويتر، ولكن هذا لا يعني بالضرورة الحصول على تأييد البنتاغون والخارجية والاستخبارات. وعلى الأرجح فإن جميع هذه العوامل مجتمعة لن تكون كافية حين يقرر، في لحظة مجنونة من عمر الزمان، شيخ منتش، وشاب مهووس، أن يتلاعبا بموازين القوى وحقائق السياسة ويحاولان فرض إرادتهما رغم أنف الجميع.