أخبار الساعة » فنون وثقافة » ابداعات ادبية

قصيدة ويسألني الضــرير

- صلاح الدين مرازقة

هي قصيدة تحكي قصة فتى كان يقعد ومزماره فوق هضبة تطلّ على نهر يشقّ خاصرة القرية، وهو ينفث لحنه نحو السّماء لمح رجلا أغبراً يترنّح يمينا وشمالا، ويتقرّى بشكّ طريقه، فكلما تقدّم بخطوة ضرب بعصاه على الحجر الهشّ فيكسره ثم يرمي بكفّه ليمسك بالشجر الأخرس فيستنجد به، فلا يفقد توازنه ويسير.

ارتبك فضول الفتى، واهتزّ خلسة فدنا منه متلصّص الخطى يسترق النّظر إليه، متردد أن يسأله وما كان يجهله هو  أن الرّجل استشعره وعلم بأمره ولكنه تركه لحاله. كان الفتى يرقبه لمدّة من الزمن والرجل يمزّق أشلاء الحفيف بعصاه حينا ويلمّ ناصيته بأصابعه المتجعّدة حينا آخر وترافق كل خطوة همسة رقيقة تكاد تبدو صلاة واستغفار من ذنب عقيم.

ظلّ الفتى يكتم وجوده، وتراكم عليه فضوله فوجده قبح منه، فاستقام، علّ الرجل يبحث عن حفنة ماء فيسقيه أو عن طريق فيرشده أو ربما عن غلام فيكلّمه، اقترب منه بلهفة ففاجئه العجوز وبادر بسؤاله: ما خطبك يا فتى، وإني أجدك مختلٍ، فهل ضللت الطريق؟

بهت الفتى هنيهة ثم رد عليه قائلا: بلى، وقد قلت إنك ضال الطريق فأكون مرشدك، أو ظمئت فأكون ساقِيك..

ابتسم العجوز، واستدار نحو الفتى، فهزّ ذراعه وتحسّسه بأنامله ثم سأله خذني ومزمارك إلى أعلى الهضبة فإني والله ما التقيت غلاما إلا وجلست معه فيحدّثني وأحدّثه.

 

ويسألني الضّرير..

كيف ترى الأصباغ في الغَبَش يا فتى

والنّور في مــقلتيّ ينهمه الدّجى

وإنّي مستثيــر

مرتعش الخطى، اخشى الأذى

ونعلي العتيق بصحبتي والعصا

نسيــــر

وما ضللت الطّريق فكانا الهدى

رفيقان وحسّي ما خاب وسمعي جلا

في المسيـــر

ويروقني همس النسيم وقطر الندى

وزرع شاحب مُطرِق النّصل والمنى  

والهشيم هجيــــر

وكم مؤنس في جنح الليل فــدى

بنحيب ودبيب وحبيب هـــدى

بشجون الخريــــر

وإن خرّت قواي وشطّ بي النّوى

ومن بغير اللّـه عن بعدي طوى

وما أنا بنكيـــر

أيا فتــى..

هل ارتجف سمعك على لحن طير جريح

وردّدت الأنين وكنت الصّــدى

وزلال الصّـوت أسيـــر

وإن قبضت يوما على لون الضّحى

فإني اقبض على سواد اللّيل

فيستنيــر

ما افتتنتُ ببَهرج الوجود وزيف الدّنى

ولا تسعفُ العين خاسئة إذا بدا السّنا

وأنا حسيـــر

وأي سجــنِ ظلــمــاءٍ ما فيه ســـوى

أنا وعكّازي الهزيل وهمسي ونجوى

الأعاصيــــر

أيا فتــى..

أما رأيت رضيعا رثّ اللّسان واهتدى

وهُـــداه مـن اللّـــــهِ بليــــغ الرّبــى

وهو القديـــــر

أَمن ألِم به الــــدّهر فقنِط وكفا

كاسفا نفسه عابسا ونسى

قول خير نذير

وإن تكالبت كتل الهموم على

امرئٍ صالح فدعا مولاه ثم اهتدى

فالعويص يسيـــر

أفلا يستغيث النّخل الباسق وما جنى

ربّه في عنـــق البيــــداء ملتفـــحا

والجريد كسيــر

وإني مُجتحف الجوارح من حِجر أوجــالي

ما غرّني الثراء وما ابصرت عناد الرجال

فأنا للــه فقيـــر

لطفت يا ربّ في زمن لا يسرُّ الرّؤى

وعدلتِ بحكمك ومسَحت عنّي الأسـى

وأنت البصيـــر

وجعلت في النّفس جمــالا يُشعُّ الخطى

فأدركت الصّنيع بحسنه وسألت الرضــا

وأنت الخبيـــر

 

بينما الفتى يجلس ساكنا ومصغيا لتراتيل العجوز، محدّقا في سمرة يديه متعثّرا في ملامحه التي لا تشيخ، يقف حينها متوكأً على عصاه وهو باسم الثغر، ثم يسأل الفتى أن يعينه ليتفادى الحفر والأشواك بالطريق ويغادر دون أن يحدّثه عن وجهته.

تردّد الفتى بسؤاله وأخذ يرقبه عن كثب إلى ان اختفى وراح إلى ما ابتغاه، جلس الفتى فوق تلك التّلة مجددا وهو يفكّر  بحيرة عمّا حدّثه العجوز، فاستغرب وابتسم، ثم قال: إن كان فاقد النّور نسميه أعمى، ففاقد الإيمان كافر أعمى.

وراح يردّد مستفهماً حديث العجوز بشعر تلاه بدايته منتهاه. ويسألني الضّريـــر..

Total time: 0.1002