أخبار الساعة » كتابات ومنوعات » اقلام وكتابات

تهافت مسنود بالجهل‎

- نائف حسان

يهبط صلاح الدكاك بالكتابة إلى مستوى الحماقة(1)؛ ذلك أنه حول النقاش حول توسع نفوذ سلاح جماعة الحوثي إلى مسألة شخصية، وبدلاً من الرد على آرائي اتجه إلى شتمي، وكال قدراً بالغاً من الإساءات والاتهامات ضدي. لم يكن الأمر شخصياً؛ إلا أنه بدا كحالة ثأرية لدى الرجل!
كان يُفترض أن يكتب "صلاح" مقالاً يرد فيه على آرائي التي وردت في مقالاتي الأخيرة حول جماعة الحوثي؛ لكنه كتب، الثلاثاء الماضي في "الشارع"، منشوراً طافحاً بالإطناب وقائمة من الشتائم والاتهامات غير اللائقة.
كتبتُ، في مقالاتي السابقة، مخاوف عامة حيال جماعة الحوثي جراء استنهاضها لعُصاب طائفي أخضع البلاد لحالة استقطاب وفرز قائمة حوله وعلى هامشه. هذه مخاوف حاضرة بقوة في المجتمع ويلمسها الجميع؛ إلا أن "صلاح" لا يريد الالتفات إليها، ويعمد إلى تسفيهها بنقلها إلى ما هو شخصي. وهو إذ يفعل ذلك، مشغولاً بمهمة الدفاع عن هذه الجماعة وتمدد سلاحها؛ يبدو أسيراً لموقف تورط فيه بإدراك وعن قصد. هو ليس مؤمناً بهذه الجماعة ومشروعها كي نقول إنه واقع تحت ما يسمى "العمى الأيديولوجي"؛ شأن أتباع هذه الجماعة والمؤمنين بها. هو فقط انحاز إلى هذا الموقف ضمن حسابات شخصية ضيقة، لهذا نجده يهرب من نقاش جوهر هذه الأزمة إلى شخصنتها، وهجاء من يتحدثون عنها، عبر كيل الشتائم لهم.
أزعم أني ناقشت هذه القضية، والقضايا المرتبطة بها، بحذر شديد، قائم على منطق مدعم بالأسانيد والشواهد. رداً على ذلك؛ لم يكتب "صلاح"، شأن "مقاله" السابق، آراء موضوعية وعقلية متزنة تُبدد هذه المخاوف، أو تُفندها. ترك هذه القضايا، وقفز على غيرها، مكتفياً بكتابة منشور طويل عريض كهجاء لي! لقد حول النقاش من مساره الطبيعي إلى مسار مُعيب ومخجل لا أستطيع التورط فيه. لا مُبرر لديه سوى أنه لا يجد نفسه إلا ضمن هذا المسار القائم على هجاء الآخرين ومحاولة الإساءة لهم؛ اعتماداً على القدرة في توجيه الشتائم ورصها ضمن تل من الهذيان المنفلت.
كان يُفترض به مناقشة القضايا المطروحة للنقاش. كان يُفترض به أن يكتب آراء، أن يُحلل، ويُقدم رؤية؛ إلا أنه لم يفعل ذلك، واكتفى بكتابة منشور الشتائم ذاك، معتقداً أنه كتب مقالاً.
...
مؤخراً، كتبتُ أكثر من مقال حول جماعة الحوثي، وموقفها من العلم الوطني، وثورة 26 سبتمبر 1962، إضافة إلى توسعها المتصاعد في شمال الشمال، اعتماداً على قوة السلاح. وقُلت، فيما قلت، إن هذا التوسع يُعيد فرز اليمن على أساس مذهبي، ويستنهض الماضي بكل طائفيته وأمراضه. كذلك، قلت إن التوسع الحاصل للحوثيين لا يتم ضمن العملية الديمقراطية، التي يُفترض أن تكون الممر الوحيد للصعود إلى الحكم، بل من خارجها، وعلى حسابها. ومن الواضح أن الحوثي يُحاول السيطرة على الحكم من خارج الممارسة الديمقراطية؛ اعتماداً على "مبدأ الخروج"، أحد مبادئ المذهب الزيدي؛ ذلك أن القدرة على "الخروج"، اعتماداً على السلاح والعنف، هو شرط رئيسي مطلوب توفره لكل من يعلن نفسه "إماماً". والشاهد أن شعبية الحوثي تتصاعد وفقاً لقدرته على السيطرة على مناطق شمال الشمال، وهو التوسع الذي حوله من قائد ميداني لجماعة تدعي المظلومية إلى مشروع سياسي للسيطرة والغلبة. اعتمد هذا التحول في الموقف من عبد الملك الحوثي على قدرته كجماعة مسلحة فرضت نفسها وخياراتها على مناطق جغرافية كبيرة. لهذا قلت، في مقال سابق، إن خطورة الحوثي تأتي من كونه أعاد إحياء "مبدأ الخروج"؛ إذ استدعاه من التاريخ، والكتب الدينية، وحوله إلى سياسة قائمة، وحاضر معاش.
كتبت أفكاراً حول التجليات الخطرة التي تُمثلها جماعة الحوثي على الهوية والوحدة الوطنية. على خلفية تلك المقالات؛ تعرضت لحملات شتم وإساءات من قبل ناشطي الحوثي في "فيسبوك". وخلافاً لحملات الشتم تلك؛ كتب علي البخيتي، القيادي الحوثي، مقالاً رد عليّ فيه، ونشرنا مقاله ذاك في "الشارع"؛ لأننا اعتبرنا ذلك خطوة جيدة لسحب هذه الجماعة إلى نقاش فكري على حساب حضورها القائم على السلاح وجبهات الحرب.
حاولت، فيما كتبت، تنبيه جماعة الحوثي إلى المخاوف الوطنية القائمة تجاه توسع نفوذ سلاحها، فلعلها تُبدد هذه المخاوف عبر إزالة حالات الالتباس والغموض في ممارساتها وخطابها.
فجأة، قفز صلاح الدكاك إلى الواجهة، وتولى الدفاع عن هذه الجماعة، عبر الإنشاء ورص الكلمات، وليس عبر نقاش موضوعي وواعٍ. لقد تدخل للقيام بمهمة هي أكبر من طاقته وقدراته. في 26 مارس الفائت، كتب "مقالاً" كرسه للدفاع عن جماعة الحوثي. خصص مقاله ذاك كرد على ما كتبته؛ إلا أنه لم يُناقش القضايا والمواضيع التي وردت في مقالاتي. هو لم يكن معنياً بالنقاش الموضوعي الجاد، وكرس جهده فقط للدفاع عن الجماعة عبر رمي ناقديها بالسهام.
تضمن ذاك "المقال" لـ «صلاح» كماً من المغالطات، والتزييف، والتلفيق. لهذا كتبت مقالين تعقيبين حاولت فيهما إيضاح ذلك التهافت، وإعادة النقاش إلى مساره الطبيعي. والثلاثاء الماضي، كتب الرجل، في "الشارع"، منشوراً على شكل "مقال"، دفع فيه بالنقاش إلى مدى أبعد عن طبيعته وقضاياه، محولاً إياه إلى "مناجمة"، ومسألة شخصية!
وهو إذ فعل ذلك؛ لم يظهر، هذه المرة، كـ "كاتب" يريد الدفاع عن جماعة الحوثي، بل كـ "مقاتل" يُحاول الثأر لكبريائه وكرامته؛ رغم أني ناقشت، في مقالاتي السابقة، قضايا لم أتعرض فيها له كشخص.
كان من الواضح أنه يشعر بقدر بالغ من الإهانة؛ لهذا أظهر، في "مقال" الثلاثاء، قدراً كبيراً من الغضب، ممزوجاً بحالة عُصاب أفقدته توازنه، وسلبته التحلي بأبسط قواعد الحوار. لم يكن هناك أي إهانة شخصية وُجهت إليه، والمؤكد أن شعوره بالإهانة جاء بسبب حالة الانكشاف التي ظهر بها؛ ليس كـ "يساري" تم ضبطه متلبساً بالدفاع عن جماعة دينية مسلحة، بل كـ "كاتب" تجلى ضمن حالة كاملة من غياب المنطق والثقافة والفهم.
ألحق "صلاح" بنفسه ضرراً فادحاً؛ إذ ظهر، في "مقاله" الأخير، في حالة غضب عُصابي منفلت أكد فيه كم أنه متضرر؛ ليس من المقالين الذين ناقشت فيهما ما طرحه، دون التعرض لشخصه، بل من حالة الانكشاف الكاملة التي ظهر بها. لهذا بدا كما لو أنه في معركة مصيرية تتعلق بإعادة الاعتبار لنفسه وكرامته؛ ليس عبر مناقشة الأفكار التي طرحتُها، بل عبر محاولة إلحاق أكبر قدر من الضرر بي، عبر النيل مني والإساءة لي! بيد أنه لم يفعل هذا سوى بنفسه، مضاعفاً مأزقه الشخصي؛ إذ جعل الجميع يُشاهدونه وهو منهكا ومتضررا من مقالَيْ رأي لم يتضمنا أي إساءة شخصية إليه، أو ما يستدعي تحويل النقاش حول جماعة دينية مسلحة إلى مسألة ثأرية خاصة.
والحاصل أني شعرت، عندما قرأت ما كتبه الثلاثاء الماضي، بالشفقة عليه. كذلك، شعرت بالذنب لأني اكتشفت مقدار الضرر الذي لحقه، وهو ضرر لم أكن أُريده. كنت أريد فقط لفت انتباهه إلى ركة وتهافت منطقه، وحالة البؤس التلفيقي التي ظهر بها. لكن يبدو أن أكبر ضرر يُمكن أن يلحق بالادعاء هو الإشارة إليه كفضيحة، وكخواء فكري وعقلي.
...

في مقاله الأول، حاول "صلاح" القيام بمهمة الدفاع عن جماعة الحوثي، فيما حاول في "مقاله" الثاني الدفاع عن نفسه. ولئن اعتمد في الأول رص الكلمات دونما فهم، أو إدراك؛ اتجه في الثاني إلى رص الشتائم والاتهامات دونما خجل. وبلغت به حالة الانفلات حداً ظهر معه كما لو أنه يقف على ناصية عامة ويرمي المارة بالأذى وسوء الكلام. لعله لم يكتف، في ذروة هذه المأساة، بخسرانه لضميره، فقرر أن يخسر نفسه أيضاً، وبشكل كامل. خسر الرجل ضميره عندما انبرى للدفاع عن جماعة دينية مسلحة، منطلقاً من حالة التدليس التي يُحاول فيها تقديم نفسه كيساري. ثم خسر نفسه عندما أظهر قدرته على الإساءة والشتم. كان الأمر سيكون أقل مأساوية لو أنه تجنب الشتم، وتصالح مع نفسه وتولى الدفاع عن هذه الجماعة باعتباره أحد أتباعها. لكنه لم يفعل ذلك، لأنه يشعر بالخجل من الإعلان عن نفسه ضمن هذا الخندق الذي يتم التعامل معه من قبل اليسار كخندق رجعي. هو يريد القيام بمهمة الدفاع عن هذه الجماعة من موقعه الملتبس، كـ "ماركسي"، و"يساري"! بيد أنه يتجاهل أنه لا يُمكن ليساري حقيقي الدفاع عن جماعة دينية يقوم حضورها على السلاح، والادعاء بحق إلهي مساند لمطامحها السياسية. الأرجح أنه يريد تغليف انتقاله إلى الحوثية بادعائه الانتماء إلى قيم أخرى، وتيار آخر، لا صلة تجمعه به غير ادعاء الثقافة، وقول شعر ركيك متأثر بروح ونفس أحمد مطر، الذي انتهت موضة متابعته والتأثر به، بين الشباب، قبل أكثر من عقدين من الزمن.
شارك "صلاح" في مؤتمر الحوار الوطني كممثل لجماعة الحوثي؛ إلا أنه ظل ينفي حوثيته بشكل يُسيء له أكثر من إعلانه عن هذا الانتماء والتعايش معه. كان عليه أن يتصالح مع هذا الانتماء، وهو مسألة شخصية ليس فيه، كخيار وليس كفكرة، ما يُشعر بالخجل أو العيب. إلا أن الرجل كان يخجل، ويُحاول الإنكار والتبرير، فتكرست لديه حالة انفصام بين ما يريده وما يُمثل مصلحة لديه. وعندما كان يتم الإشارة إلى حالة البؤس التي جعلته يقبل الالتحاق بموكب الحوثية بهذا الشكل؛ كان ينفي حوثيته بالقول إنه "يعبد نفسه فقط"؛ في هذيان متعالٍ قائم على الادعاء.
من حق "صلاح" أن يكون ما يريد؛ لكن عليه أن يكون شجاعاً وواضحاً دونما حاجة لاستخدام الماركسية واليسار كخرقة تخفي.
هناك طابور طويل يستخدم الماركسية واليسار كموضة، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، و"صلاح" يحضر هنا كنموذج لهذا الطابور الذي يريد إعادة إحياء الانتهازية في أبشع صورها.
المشكلة أن هؤلاء الأدعياء يفتقدون لأبسط فهم لقيم ومفاهيم الماركسية كنظرية، أو كمنهج للتفكير.
لستُ ماركسياً، ولا أدعي ذلك؛ لكني أشعر بالضحك عندما أجد من يدعي الماركسية وهو جاهل بمبادئها الأساسية، ولم يحدث أن قرأ خمس صفحات على بعض لماركس، أو حتى لغيره من الماركسيين.
والحال هذا، فليس غريباً أن نجد هؤلاء الأدعياء يتخندقون في اصطفافات رجعية للدفاع عن جماعات دينية تتحدث باسم السماء!
اليسار ليس موضة، بل وعي، وسلوك يومي، ورؤية فكرية، وموقف إنساني ووطني.
...

بسبب هذا التردي الذي أوقع "صلاح" نفسه فيه؛ اتصل بي كثيرون طالبين، بدافع الصداقة والتقدير، تجاهله، وعدم الرد عليه، باعتبار أن "مقاله" الأخير كان بمثابة فضيحة، وانكشاف كامل له.
والحقيقة أني كنت لا أريد الرد عليه؛ إلا أن "مقاله" تضمن معلومات مغلوطة تستدعي التوضيح؛ تقديراً للقراء، وليس اكتراثاً به.
قال "صلاح" إني "أتصرف وأحلل وأفكر على غرار أفراد حراسة الشيخ الأحمر، مدججاً بذخيرة وفيرة من الضحالة والقِمْر". وجه إليَّ هذه الشتيمة دون أن يورد دليلاً واحداً يؤكدها. هو لا يريد تدعيم ما يقوله بالأدلة؛ لأنه يريد فقط أن يشتم، ثأراً لكرامته.
ولأنه لم يتطرق للقضايا محل النقاش (تصاعد سيطرة سلاح جماعة الحوثي)؛ لجأ إلى القول بأن ما كتبته نُشر متخماً "بالأخطاء المطبعية". مع أن الكتاب الذين لديهم ما يقولون، يتجاوزون، كما هو معروف، هذه الأخطاء، إن وجدت؛ لأن الكتابة ليست "مناجمة" وتصيدا فارغا للأخطاء غير المقصودة.
بدافع من العجز، ترك "صلاح" جوهر النقاش، وحاول النيل من صحيفة "الشارع"؛ عبر التعامل معها باعتبارها "شارعي"، وليست صحيفة محترمة قبلت نشر "مقاليه" وهما غير صالحين للنشر. لقد هرب من نقاش الأفكار والقضايا لأنه ليس لديه ما يقوله في هذا الجانب، لهذا حول الأمر إلى الجانب الذي يرى نفسه "كفتوة" فيه: الشتم و"المناجمة".
برباطة جأش، وصف الرجل الإنشاء، الذي كتبه في 26 مارس الفائت في "الشارع"، بـ "المقاربة". الأرجح أنه لا يعرف معنى هذه الكلمة، وإلا لما كان تجرأ على استخدامها لوصف ما اقترفه من إنشاء ورص للكلمات.
الغريب أن المعقلة بلغت به حد الاعتراض على عنوان حلقتَيْ مقالي السابق: "بؤس الوعي التلفيقي"، والقول إن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً"! حاول "صلاح" لعب دور المثقف؛ إلا أنه غير مؤهل للقيام بهذا الدور، لهذا ظهر في وضع مُضحك. وليس هناك ما هو أكثر إضحاكاً من شخص متواضع القدرات يُحاول لعب دور أكبر منه ومن قدراته؛ دون أي سلاح منطقي وثقافي غير بجاحة التنطع والادعاء.
كان عنوانا مقاليَّ واضحين؛ إلا أن "صلاح" يريد أن يظهر كشخص ذكي وخطير، لهذا قال إن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً"، واقترح كلمة بديلة: "الخطاب". أنت جريء يا "صلاح"؛ لكن الجهل يخذلك، ومن خذله الجهل ما نفعه طول اللسان. والمعقلة في مجال المعرفة والثقافة لا تفعل شيئاً سوى إظهار صاحبها كأراجوز مثير للضحك والشفقة.
ولأنك تدعي أنك ماركسي، سأرد عليك هنا بماركس والماركسية، فقط.
محمود أمين العالم (1922- 2009)، وهو أحد أهم الماركسيين العرب، لديه كتاب عنوانه "الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر". "الوعي الزائف" هو توصيف سلبي، فمن أين أتيت يا "صلاح" بهذه الفلتة التي لم يسبقك إليها أحد من العالمين، والتي قلت فيها إن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً"؟!
ضم هذا الكتاب لـ "العالم" مقالات نقدية للفكر النظري والاجتماعي في الحياة العربية المعاصرة، اعتمد فيها على منهج المادية التاريخية، والرؤية الماركسية بشكل عام. وهو يشير بـ "الوعي الزائف" إلى الوعي الذي يدعي امتلاك الحقيقة، ويعتمد على الأوهام؛ شأن الوعي الذي تعتمد عليه أنت، وهو وعي تقوم عليه الجماعات الدينية ككل.
يحضر محمود أمين العالم كأحد أهم الماركسيين العرب، وإلى هذا فهو مدرس فلسفة في جامعة القاهرة. لكن "صلاح" غير معني بالفلسفة، أو بأسس الماركسية، والتراكم الإنساني للمعرفة، ويُمكنه القول، دون تمحيص أو تدقيق، أن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً"! بصراحة أنت فلتة يا "صلاح"؛ لكن المشكلة أنك في بلد لا تُقدر المواهب.
دعك من العرب يا "صلاح".. تعال إلى كارل ماركس (1818 – 1883). هل تعرف أن فلسفة ماركس، ورؤيته الفكرية، قامت، منذ بدايتها، على نقد "الوعي الزائف"، الذي تُشكله الدولة، أو المجتمع البرجوازي، عبر أدائهما وسطوتهما على المجتمع، وينعكس على شكل "أوهام في الوعي العام"؟ هل تعرف أن فلسفة ماركس وإنجلز اعتمدت، منذ وقت مبكر، على "تحليل التجليات الزائفة التي يفرزها المجتمع البرجوازي" على شكل "وعي زائف"؟! بالتأكيد أنت لا تعرف هذا؛ لأنك لو كنت تعرفه لما تجرأت على القول بأن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً".
"الوعي الزائف" في الماركسية هو الوعي عندما يكون مغترباً عن ذاته، وعن قضاياه الحقيقية؛ لهذا يقول ماركس، في رسالة وجهها، في سبتمبر 1843، إلى «روج»، إن «إصلاح الوعي يتمثل ببساطة في منح العالم الوعي بذاته، في انتزاعه من النوم الذي يحلم فيه بذاته، في تفسير أعماله ذاتها له"(2).
وفقاً للماركسية، فهناك "وعي متشكل دوماً، تُجدد أجهزة المجتمع البرجوازي إنتاجه"، وهذا هو "الوعي الزائف"، وهناك "وعي مجزأ، يتشكل تاريخياً (ويتفكك تاريخياً عند الاقتضاء) مع تقدم الاتحاد العمالي، مع تشكل البروليتاريا في طبقة"، فتصبح واعية لذاتها ولمصالحها، ومن هنا تبدأ مسيرة نضالها. "الوعي الزائف" في الماركسية هو نقيض لـ "الوعي الثوري".
عند ماركس، يؤدي "الوعي الزائف"، أو "الكاذب"، بتسمية أخرى، إلى إبقاء العمال، أو البروليتاريا، "في حالتهم السيئة وفقدانهم للمعايير التي يمكن أن تخلصهم من وضعية استغلال أرباب العمل لهم".
الأفكار غير الواقعية هي "وعي زائف". و"أيديولوجية التضليل" هي "الوعي الزائف"، لدى ماركس، الذي يرى أنه "لا بد من وعي حقيقي جديد يسيطر على الوعي الزائف"، لهذا يقول إن البروليتاريا "لا تستطيع رؤية العالم إلا من خلال موقفها الخاص"، وبعد تخلصها من "الوعي الزائف"، وعي التضليل والاستغلال، وهو ذاته الوعي الذي يُمارسه صلاح الدكاك هنا بقصد تضليل اليمنيين محاولاً الذود عن جماعة الحوثي وتجميلها.
وللاستزادة؛ يُمكنني الإشارة هنا إلى أن هذا التفسير الماركسي للوعي يعتمد على فلسفة هيجل (1770-1831)، ويتجلى ذلك ضمن القوانين الأساسية للجدل الماركسي الهيجلي (وحدة وصراع الأضداد، التغيرات الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية، نفي النفي). كان هيجل يقول إن "الفكرة هي الأصل، والمادة ناتجة عنها"، وعندما جاء ماركس عكس الأمر، وقال إن "الأساس هو المادة، والفكر ناتج عنها". كانت الجدلية عند هيجل قائمة على الإيمان بالغيب الإلهي، وعندما جاء ماركس أعطى الأولوية للمادة، للعلم على حساب الميتافيزيقيا. لهذا قيل إن الفلسفة كانت عند هيجل واقفة على رأسها فجاء ماركس وأوقفها على قدميها.
وإذا كانت الجدلية في الماركسية "هي قانون حركة الوجود كله"، وتفسيره وفهمه وفقاً للعلم، وليس وفقاً للغيبيات؛ فكيف يُمكن لماركسي أن يصطف خلف جماعة دينية قائمة على الغيبيات؟!
هذه هي الماركسية؛ لكن صلاح الدكاك لا يهتم بها إلا عند حاجته لاستخدامها كأداة للادعاء، وتغليف اهترائه الداخلي، وحالة الفراغ الفكرية القائمة لديه.
لم يعتمد "صلاح" على المعرفة عندما قال إن "الوعي لا يحتمل النعت سلباً وإيجاباً". هو اعتمد فقط على وهمه الذاتي القائم في ادعاء الثقافة، وفي علم النفس يؤدي الوهم إلى تشويه الواقع وتزييفه بالمغالطات.
في الفلسفة هناك وعي إيجابي، ووعي سلبي؛ وعي تلفيقي، وعي خاطئ، وعي مضلل.. والوعي التلفيقي هو الذي يلجأ إلى التلفيق لدعم موقفه الخاطئ، وهذا هو ما فعله ويفعله "صلاح"، الذي لم يجد ما يقوله سوى التجديف في مسائل هامة على هذا النحو.
...
يتم عادة التعامل مع الوعي باعتباره الموجه لمواقف الإنسان، لهذا يجري وصف الوعي سلباً أو إيجاباً. أما الخطاب فهو انعكاس للوعي، لهذا يكون تابعاً له، وليس مستقلاً عنه. "صلاح" لا يدرك هذا الأمر، لهذا يُحاول، بفذلكة بائسة، افتراض وجودين للوعي محكومين بالخطاب وخاضعين له!
كيف؟ لا يُقدم الرجل إجابة منطقية وعقلانية، بل يواصل الهذر كي يصل، عبر رص الكلمات الفارغة من المعنى، إلى إيراد كلمتي "الانحياز الطبقي". هنا، "يتقنفز" الرجل معتمداً على الإنشاء السطحي في موضوع يحتاج إلى منطق وعقل.
يبدو "صلاح" مدهوشاً بمصطلح "الصراع الطبقي"؛ لهذا يستخدم مفهومه في غير مكانه، وضمن سياقات لا تُعبر عن هذا المفهوم، أو عن معناه الحقيقي. كنا نتحدث عن الحوثي، فاستدعى "صلاح" "الصراع الطبقي" مقحماً إياه في الموضوع. وعندما اختلق لنفسه موضوعا جزم فيه، ضمن حالة ذُهانية مدججة بالجهل، أنه "لا يُمكن وصف الوعي سلباً وإيجاباً"، استدعى أيضاً "الصراع الطبقي" دونما سياق أو معنى. هو فقط يستخدم هذا المفهوم الماركسي للتزين به كي يبدو مثقفاً، ويسارياً، بما يُساعده في القيام بمهمته للدفاع عن جماعة الحوثي من خارج موقعها الأيديولوجي؛ من موقعه هو، الذي يتوهم أنه يساري.
...
ولأنه يتعامل بذهنية "المناجمة"؛ أخذ "صلاح" أهم التوصيفات التي وجهتها إليه، وأعاد توجيهها إليّ. وإذا كان علي البخيتي رد على قولي إن جماعته تستدعي الطائفية بالقول إني طائفي؛ فـ "صلاح" رد على قولي إنه ينطلق من وعي تلفيقي بائس بالقول إني ملفق! يعني "مناجمة" عيني عينك.
لا يفهم "صلاح" معنى الطبقية، فضلاً عن معنى "السوق الطبقية"، لهذا يُصر على رميي بذلك، ليس في معرض دفاعه عن الحزب الاشتراكي، بل في معرض دفاعه عن عبد الملك الحوثي وجماعته. لا يؤمن الحوثي بالعمال، ويتعالى على بقية المكونات الاجتماعية، اعتماداً على سلالية النسب، وليس على العمل والإنتاج. وإلى هذا، تقوم رؤيته السياسية على مفهوم "الولاية"، الذي يدعي أنه يمنحه حقاً إلهياً في الحكم. رغم كل هذا؛ يُصنفني "صلاح" كبرجوازي أُحرض على انتصار البروليتاريا العمالية، التي يُمثلها عبد الملك الحوثي! كيف هذا؟! "صلاح" لا يهتم بتوضيح ما يقول، أو إسناده بمنطق ودليل لجعله مقنعاً. هو فقط يرص كلمات وتُهم، ولا وقت لديه للعقل والمنطق.
...
في كتاباتي السابقة، عبّرتُ عن مخاوف واسعة نلمسها جميعاً بشأن توسع نفوذ وهيمنة سلاح جماعة الحوثي. الرد جاهز لدى "صلاح": جرّد هذه المخاوف من بُعدها الوطني، وقال إنها مخاوف شخصية لي أغلف فيها انحيازي الطبقي "بقماش العلم الجمهوري، وذلك عين التلفيق والابتزاز". لا يهتم الرجل بالناس، ولا يريد سماع رأيهم؛ لأنه قد وضع جميع بيضه في سلة الحوثي.
هو يعرف أن هناك موقفاً وطنياً واسعاً متخوفاً من توسع نفوذ سلاح جماعة الحوثي؛ لكنه يتعامى عنه. وفيما خسر "صلاح" الناس؛ اكتفى بتصفيق الحوثيين له. الحوثيون يصفقون له بحماس لأنه قدم نفسه لهم كأداة للتبرير والتزييف.
عندما قرأ قيادي حوثي الرد الأول الذي كتبه عني "صلاح" في معرض دفاعه عن جماعة الحوثي؛ أطلق (القيادي الحوثي) قهقهة في مقيله، وقال بسعادة غامرة: "شرعبي يرد على شرعبي"؛ في إشارة إلى أن "صلاح" تكفل بالرد عليّ فيما جماعة الحوثي مسترخية تُشاهده كمغفل يقوم بالدور نيابة عنها. كان يُفترض أن يكون "حوثي يرد على صحفي"، أو "صحفي يرد على صحفي"؛ لكن هذه الذهنية لا تستطيع رؤية الناس إلا ضمن هوياتهم المناطقية والطائفية. يقتضي الأمر هنا التأكيد على أني لا أشعر بأي انتماء مناطقي، ولا أجد تعريف نفسي إلا كيمني، لهذا لا يُهمني من يرد علي، بل كيف يرد علي، وعلى أي منهج يعتمد.
أقحم "صلاح" نفسه في معركة خاسرة للدفاع عن جماعة دينية مسلحة؛ إلا أن الحوثيين لا يرون فيه إلا "شرعبي"؛ إلا كآخر يتحدد حضوره على منطقته الجغرافية، وعلى مهمة الرد التي تولى القيام بها.
هذه الذهنية المناطقية ذاتها التي كان يتعامل بها علي عبد الله صالح: إعادة الخلافات مع الناس إلى مواجهات شخصية داخل هوياتهم المناطقية والطائفية.
مازال لديَّ ما أقوله غداً.

هامش:

1- في كتاب "بؤس الفلسفة"، قال كارل ماركس إن الفيلسوف الفرنسي برودون "يهبط بصيغة العرض والطلب (بعد أن استبعد تكاليف الإنتاج والمنافسة) إلى مستوى الحماقة". تـ: محمد مستجير مصطفى، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثالثة، ص 73.
2- انظر: "معجم الماركسية النقدي"، دار محمد علي للنشر – صفاقس، ودار الفارابي - بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 1365.

Total time: 0.0759