المستبصر في وقائع الأمة العربية من زاوية تاريخية أو معاصرة أو من الزاويتين معا سيواجه سؤالاً عميقاً: لماذا نحن العرب نبدو وكأننا لا نستطيع أن نعيش إلا بقدر قدرتنا على صناعة العنف واستعماله لتحقيق مآربنا في الحياة؟!!!
كانت الثلاث السنوات الفائتة مغرية للعقل البسيط على أن التغيير السلمي في شعوب ما قبل قبل الحداثة مستحيلة أو أنها فاشلة.. في مقابل زيادة الإيمان بالعنف كوسيلة مترسخة في ذهنية الطالب والمطلوب والرئيس والمرؤوس .
وبالتساوق مع ذلك تحتسب الدماء التي تسفك كل يوم في عالمنا أنها تسفك في سبيل الظفر بمصلحة فردية أو جهوية أو طائفية وتلك صورة واقعية من الصعب إنكارها أو إخفائها عن وعي الناس.
الحروب الأهلية مهما كان لها من دوافع ونوازع ذاتية فأنها وليدة اختلافات وتناقضات مصالح اطراف لديها توازن قوة تؤدي إلى خلق حالة اللاستقرار واستفحال مشاعر الشكوك والظنون وخلق الالتباس في الوعي بين العنف والانفعال والكره والغضب والمرارة وغموض الصدف والعوارض وكل الظروف المؤدية إلى الهزائم أو الضامنة للانتصارات.
إن ميكانيزمات الصراع" تقنية الاتصال" المسخرة لاستعباد وعي الإنسان وبرمجتها وفق مصالح الأطراف جبارة.. عمليات غسل مخيخات شبابنا وعمليات استقطابهم هي الأكبر والأعظم على امتداد تاريخ الأمة، لكن صاحب العين الثاقبة يشاهد أن سرعة تطور وعي هؤلاء الشباب بضرورة تجاوز واقعه الراهن والعبور إلى المستقبل في تنافس محموم مع ميكانيزمات لا تتجاوز أطر معركتها حدود تقديم التفسيرات والمبررات لها.. كمحاكاة مكررة لتفسير العقل البسيط للظواهر وهو ما يكون عادة غامضا ومعتما تديره الصدف والعشوائية ليس له من غاية سوى الإضاءة الطويلة لسلطة أو لتفكيك مجتمع أو الاثنين معا كشكل من أشكال السفسطائية.
وبناء على هذا التفسير يطرح صاحب المصلحة الحقيقي والغائب تساؤلا: وماذا يعنيني الصراع على السلطة بين قوى النفوذ؟ وكيف سأصبح طرفا فيه؟. إن قانون الصراعات إذا جاز التعبير، يجيب على أن حركة الصراع تظل تمتد وتمتد إلى أبعد نقطة في الصراع "الكل ضد الكل" ومن قانون علاقات الايجابي بالسلبي والخير بالشر تأتي مقولة "من الحرب يأتي السلم" وهي في تصوري تفسير للآية القرآنية العظيمة" وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)" الأنفال.
وبمنطق التصور الثنائي هناك بنية ثنائية مزدوجة تخترق أي مجتمع علاقات الحقيقة بالقوة وعلاقة السلطة بالهيمنة هذه العلاقات جعلت من الحرب سابقة على الدولة .
إن الحروب بمثابة القابلة تشرف على ولادة الدول فمن الدماء المجففة ووحل المعارك والنهب والسلب والتقطع والمدن المدمرة والأرض المحروقة يولد القانون و التشريعات كنتيجة حتمية لوجود الدولة وليس العكس.
و من يتصور أن ما يدور في واقعنا من عنف سوف يستمر في إطار صراع مصالح أطراف محددة فإنه يكون مخطئا لأن لحظة سفك الدماء من أجل الحرية والكرامة للأمة كلها آتية لا ريب فيها باعتبار أن هذا الصراع يبدأ بين طرفين سرعان ما يتطور إلى كلي بفعل عقلانية نامية يخرج من رحمها عقلانية الحسابات والاستراتيجيات والحيلة التي تستطيع أن تحافظ على الانتصارات لإسكات الحروب .
الصراعات الدموية التي تجري في عالمنا العربي هي في الحقيقة ثمن غياب الديمقراطية كظاهرة ثقافة متجذرة في وعي المجتمع وسلطته.. و هي كلفة تدفعها الشعوب التي تتوهم الضعف وهي في الحقيقة اقوى مما تتصور لو أنها ادركتها فستكون حركتها مزلزلة.. وتتوهم الفقر وهي ليست فقيرة لو أنها اكتشفت ما تحتويه أرضها من كنوز.. وتتوهم عجزها وغباءها وهي ليست كذلك لو أنها تعلمت وبحثت وأطلقت العنان للإبداع أمام أبنائها تتحدث عن نفسها.
نحتاج إلى عملية تفكيك علمية وعملية عميقة لجملة الوقائع التاريخية وإعادة تقييم مسلمتنا وعاداتنا المشوهة لمنظومتنا الفكرية والثقافية وغير ذلك ستظل الصراعات مستمرة ما لم يصل الإصلاح إلى هذه النقطة الهامة والخطيرة ومؤشرات الوصول باتت أقوى وأوضح مما كان
كلفة غياب الديمقراطية!!
اخبار الساعة - خالد القارني